يقول الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين :
" إيّاك أن تجادل السفهاء،
سينزلونك إلى مستواهم الدنيء
ثم يهزمونك .. بفارق الخبرة .!"
يقول بعض العلماء إن هناك قاعدة مشهورة ، و هي دائمة النجاح و التّحَقُّقِ ، و تُسمَّى الجَر إلى الاختصاص ليتِم التفوق بسبب عامل المعرفة و الإدراك أو الخبرة كما يقول هذا الكاتب الساخر "مارك توين "،
و يضربون مِثالا على ذلك في حوار الهدهد مع سليمان بن داوود، حين اختار الهدهد لغز طعامه (الخبء) و هو طعامه الذي يدفنه بين طبقات الأرض ، أو ذلك الذي ينبت في داخلها، وهي طريقة لتجاوز المحاور و الانتصار عليه.
نعود إلى مقولة الكاتب فلفظ السفهاء يحمل معنى صِغَر السن في بعض المجتمعات و يحمل الانحراف عند ثقافات أخرى و يُفهَم منه التنغيص و التحقير الذي يتجاوز الأفراد إلى منهجهم.
إياكَ أن تُجادل السفهاء : لا تَخفى عبارات التعالي و التفوق و تصنيف الطبقات و لو فكريا هذه المرة.
سينزلونك إلى مستواهم الدنيء،
فهل يقصد المستوى الاجتماعي؟
أم المستوى الاقتصادي؟
أم المستوى المعرفي؟
أم مستويات أخرى؟
و حتى لفظ الدنيء يحمل كل معاني الثقافات و المجتمعات و موازينهم الدينية و العُرفية و الاجتماعية، و موازين الغلبة و الاعتزاز الذاتي .
الركن الآخر هو الجدال ، و الجدال في أصله يتضمن الحدة و التخاصمِ و التباغض، فحين يكون جادا يُسمَى الحوار و قد تكون المناقشة أكثر وصفا له ، و عندما يكون بين العلماء و المثقفين تُطلق عليه كلمة المُحاجَّة.
النزول إلى ميادين الخصوم ثقافيين كانوا أم سياسيين أم غير ذلك يجعل لهم ميزة السبق و معرفة المَفالك و الطرقات مما يسمح بقراءة الأحداث قراءة أفضل، و النزول يحمل هو الآخر شحنة التفوق الملازمة لبعض المفكرين و قد رأيناها في بعض المدارس الغربية مع مجموعة مختلفة من الفلاسفة.
ينظُرُ مارك توين من زاويته الساخرة إلى فارق الخِبرة ذلك الفارق الذي تعودت البشرية على النظر إليه بالتكريم و التعظيم، مما يَعْني أنها ظلت تنظُر إلى جانبه الإيجابي حتى تَشكَّل في وِجدان العامة و المثقفين أنه لا يملك جانبا سلبيا سيِّئا، فالخبرة ظلت تُقدم نفسها دوما مصدَر عزٍّ و فخرٍ ،تَزيدُ رصيد أصحابها و مكانتهم داخل الدول و الأمم و المُجتمعات.
فهل في النزول إلى حضيض الفكر خبرة؟
و هل هي خبرة أم سجل إجرام؟
أم سجل سوابق حسب لغة القانون؟
و أي نوع من الخبرة يقصد الكاتب مارك توين؟
ما دام الحديث عن الجدال فقد يكون لفظ الإجرام صادما و غير مُطابق لمُقتضى الكلام، و لعلَّهُ يقصد الخبرة السيئة في قاموس الألفاظ و سياقاتها و استعملاتها التي لا يتداولها الفلاسفة و المثقفون،فلكلِّ ميدان قاموسه الخاص و إشاراته و رموزه، لكنها من وجهة نطر الكاتب مارك اتوين خبرة في قاموس بذيء دنيء، لا يمكن لغير أصحابه -المُتصفِين بصفاته - المشاركة ، لأنهم سيفشلون و لن يُسعفهم في ذلك الميدان القاموس الأخلاقي بسبب قَلْبِ الموازين و تناقض التَّقويمات و القِيَّمْ الخاصة.
و الظاهر أن مجادلة الآخر -مهما يكن تصنيفه- بلغته و قاموسه و فوق ميدانه و بشروطه الخاصة تُعَدُّ مجازفةً و دُخُولَ ثُغورٍ غير مأمونة الجانب و النتيجة، و سيكون اختيار المُجادل المُثقف محصورا في اختيارِ نوع الهزيمة و الأضرار ، تَبَعا لاختيارهِ السابق لنوع مجادله الدنيء، و نوع تصنيف مجال الدناءة و سياقها العام و قراءتها حسب قاموس الأول المُتفوِّق المُثقف ، الذي يَنزِلُ أو يتِمُّ إنزاله دون إرادته.
ذلك جانب آخر يكتشفه هذا الكاتب الساخِر الطريف "مارك اتوين " من جوانب الخبرة ، و هو الجانب الذي ظلّ مجهولا رغم قربه و وجوده و تأثيراته على الأفراد و المُجتمعات، لكنه لم يكن يوما بهذا الكَمِّ و الحجم و الوضوح، و لم يملك الوسائل و الطّرق الكفيلة بتسويقِه و تعميمهِ بل و الدعاية الناطقة و المُصوَّرة له، و التي تَلقَى قَبولا كبيرا في أيامِ الناس هذه، حتى جعلت المثقفَ الكاتب يدعو إلى اعتزال هذه الموجات لكي لا تفرِض عليه النزول إلى مستواها و مجالها الشرير!
و هذه هزيمة و تقوقُعٌ و هروبٌ، و باستمرارهم ستكون النهاية انتصارا ساحقا للمجموعة الأرضية ،و مستواها الدّنيء على الأفراد السابحين في أبراجهم العاجية المهزوزة !
إلا إذا ابتكر الفلاسفة و المثقفون و المُفكرون و سدنةُ الأقلام طريقا أكثر فاعلية و قبولا تَضْمَنُ النجاحَ أو المحافظةَ على الوضعية الراهنة في انتظار تَغيُّر المُعطيات.