ألغت مؤخراً المحكمة العليا الأميركية سياسةَ التمييز الإيجابي في الجامعات التي أصبحت معتمدةً منذ مطلع التسعينيات بغية تشجيع وصول أبناء الأقليات (السوداء خصوصاً) إلى المؤسسات التعليمية العليا.
ومع أن الولايات المتحدة اعتمدت هذا المبدأ في إطار سياسات العدالة الانتقالية لتعويض ضحايا الاستعباد والإقصاء، فإن هذا المفهوم طَرح على الدوام إشكالياتٍ نظريةً معقدةً، تتركز في جانبين: الخلفيات العرقية لهذه المقاربة التمييزية، والتعارض الظاهر مع مبدأ المواطنة المتساوية.
وبخصوص الجانب الأول، يتعين التنبيه إلى أن الدراسات الإنسانية أبطلت كلياً التصورَ العرقي البيولوجي للنوع الإنساني، مبيِّنةً تداخل وامتزاج الأعراق والإثنيات إلى حد اعتبار هذا الشكل من التصنيفات داخلاً في استراتيجيات الهيمنة والإلغاء، مع العلم بأن هذا النهج تشكل أساساً في سياق الإثنوغرافيا الاستعمارية القديمة.
وكان كتاب عالم الانتربولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس «العرق والتاريخ» الذي أصدرته منظمة اليونسكو في عام 1952 محطةً أساسيةً في هذا التفكير النقدي حول المسألة العرقية، موضحاً أن المفهوم البيولوجي للإثنيات ليس سوى وهم زائف يغطي على نزعة الهيمنة الثقافية التي تتعين مواجهتها من منظور تعدد وتنوع الثقافات. وهكذا تحولت الدراسات الإنسانية إلى المقاربة البنائية التاريخية في النظر إلى الهويات العرقية من حيث هي حصيلة مسار اجتماعي ووعي جمعي وليست ظواهر طبيعية أو معطيات تلقائية.
بيد أن هذه القطيعة الابستمولوجية لم تؤد إلى إلغاء السياسات العرقية، سواء تعلق الأمر بالخطاب الأيديولوجي أو المباحث الفلسفية والاجتماعية، وإن كان المنظور انتقل إلى استراتيجية تفكيك خطاب الهيمنة وتعرية ضروب التمييز على أساس عرقي أو اثني في المعارف والممارسات. ذلك هو التوجه الذي نلمسه اليوم في أدبيات «اليقظة» (woke) المنتشرة في الساحة الأميركية، في دفاعها عن صورة ومصالح «الإنسان الأسود» في مواجهة إجراءات التمييز والإقصاء.
إلا أن المأزق الكبير في هذه المقاربة يكمن في أن هذه الاستراتيجية، وإن كانت تنطلق من هدف العدالة التكافؤية، فإنها في الوقت نفسه تفضي إلى تسييج الفوارق والحدود بين المجموعات والقوميات، من خلال إغلاق الأفراد في هويات قبلية جوهرية لا تتغير ولا تتبدل، بما يعني عملياً رفض الحق الليبرالي في اختيار هوية إرادية مفتوحة وحرة. وبالرجوع إلى ثنائية الهوية لدى الفيلسوف المعروف بول ريكور، يظهر أن هوية التماثل الجامد اللامتغير تتعلق بالأشياء الطبيعية وليس بالإنسان الذي ترتكز هويته على الوعي بذاته في سياق التفاعل مع الآخر، بما يعني أن الهوية تكون ضرورة «سردية»، تحمل بصمات التداخل والتواصل الاجتماعي وتقتضي الاختيار الحر.
وفي المجتمعات الليبرالية لا تكون الهوية إلا تعددية من حيث طبيعتها الذاتية نفسها، فهي «هوية بأربعين وجه» حسب عبارة الفيلسوف الإيراني الراحل داريوش شايغان، كنبتة الريزوم تتمدد أفقياً دون مركز أو قلب في اتجاهات متحولة مشتتة. أما مبدأ المواطنة المتساوية فهو ما يميز المجتمعات الليبرالية الحديثة في تصورها للجسم السياسي من حيث هو دائرة التفاعل والتعاون بين أفراد أحرار يتماثلون في الحقوق والفرص دون تمييز على أساس طبيعي أو ثقافي.
والأمة من هذا المنظور، ليست وحدة عضوية بل حالة قانونية مدنية تتجسد في مؤسسات عمومية والتزامات مشتركة، بما تعبر عنه صورة «العقد الاجتماعي» الذي هو استعارة رمزية وليس حدثاً تاريخياً حقيقياً. من هذا المنطلق، لا معنى لسياسات التمييز الإيجابي باعتبار أن النظام الاجتماعي قائم على المساواة الكاملة والفرص المتكافئة، وكل خلل في العدالة التوزيعية يُحسَم في الدائرة القضائية.
إلا أن النظم الليبرالية وجدت نفسَها في العقود الأخيرة مضطرةً لبلورة نوعين من المؤسسات العمومية لمعالجة اختلالات المقاربة الاستحقاقية المجردة: مؤسسات الخدمة العمومية غير المتحيزة المستقلة عن المصالح الإدارية للدولة، ومؤسسات التضامن الاجتماعي التي تمارس نمطاً من التمييز الإيجابي لصالح الفئات الهشة والمغبونة.
إلا أن الأمر لا يتعلق في الحقيقة بسياسات التمييز الإيجابي على الطريقة الأميركية (بخلفياتها العرقية) وإنما بمفهوم موسع للعدالة في أبعادها التعويضية والإصلاحية ضمن منظور ليبرالي داخلي يعيد بناءَ مفاهيم الشرعية والمساواة والتكافؤ دون الخروج عن محددات وثوابت الفكرة الليبرالية. ما يتضح من هذا التوجه هو أن النموذج الليبرالي المدني قادر من داخله على تعويض ما تطمح إليه إجراءات التمييز الإيجابي من حقوق وامتيازات لصالح المجموعات التي عانت من الظلم التاريخي ومن الغبن الاجتماعي.
*أكاديمي موريتاني