أماني من سعدى رواء كأنما.. سقتنا بها سعدى على ظمئ بردا
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى.. وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
هذان البيتان الجميلان بأمدادهما وفتحاتهما المتتالية، التي تجعل المطرب الذي يؤديهما يكفر برتابة الريتم، وينتقل صوته في منحى بياني، تتغير فيه قيم الفواصل والتراتيب بطريقة مدروسة ومبرمجة، لا أدرى هل فهمتم.. لكن ما باليد حيلة، فأنا أحاول التعبير عن شيء، لا أوفق في اختيار الألفاظ الملائمة له.
المهم أن هذين البيتين بيتان حبيبان لدي، منذ أن تمثلت بهما في ختام افتتاحية مشروع "مجلة أدبية"، كنت أنوى إصدارها أنا ومجموعة من المراهقين المجانين، ونحن ما زلنا في الإعدادية، كان مشروع اسمها "شموس شنقيط"، ولا أنسى أني كتبت في خاتمة الافتتاحية ما يلي:
"نريد أن تعود شنقيط موطنا للألق، للزهو، للشموس(..) فإن كان ذاك فحسبنا، وإلا فإننا سنشد مع الشاعر آسفين:
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى .. وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
ولعل أول ما يلفت في هذين البيتين، خصوصا الأول منهما، هو هيام الشاعر بحرف الدال، الذي يحويه اسم سعدى، التي يؤرقه طيفها كل آخر ليلة.. يا رحم الله زمن الحب الجميل.. طبعا لا علاقة لسعدى –البتة- بالسيدة سعاد الموريتانية، فتلك قصة أخرى، ليس ذا مكانها، فذكر الجفاء في أيام الصفاء جفاء.
كما أن صاحبنا "يموت" في حرف الميم والنون، لا أدرى لماذا.. لكن لاحظوا البيت الثاني، ونوناته الثمان، ولاحظوا تجاوزا للفسيفساء اللفظية أنه يلح على كلمة "منى"، والأماني والأحلام تضليل، وأنه يتمنى أن تكون تلك المنى حقا، في إحالة إلى أن الجدار الفاصل ما بين الحقيقة والخيال عند شاعرنا ما زال متماسكا، مما يدل على أنه لم يلج مدرسة الجنون بعد.
البيتان سمعتهما للمرة الأولى عند أحد المطربين، ثم فجأة عثرت عليهما –وسط ذهولي- في كتاب "حماسة أبي تمام"، وكنت أطنني ملما تمام الإلمام بكل ما فيه من قصائد ومقطوعات.. عثرت عليهما منسوبين لأعرابي من بني الحارث بن كعب، ولم يتكرم علينا أبو تمام باسم الشاعر الذي عاش دهره يمني نفسه بسعدى.
وللحماسة قصة أخرى، إنها رافد من روافد تنمية "التهور" في الشخصية، الحماسة ذلك الكتاب الثمين –حسب وجهة نظري- منذ أن أعطاني والدي ـ رحمه الله ـ حق قراءته، وأخرجه لي من الصندوق الحديدي، الممتلئ كتبا قديمة ودواوين صيف 1991، وأنا بعد صغير.
قرأته بتعثر.. قرأت "إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه..".. رافقت قطري بن الفجاءة في معاركه، وصفقت لتأبط شرا.. وهو يهزأ من الموت، الذي غادره خزيان ينظر.. زاملت أبا ثور عمرو بن معدي كرب، وهو يفر قبل أن يكر.
كنت صغيرا، وكان الكتاب كبيرا، بكل المعاني.. كبرت معه، وكان يستهويني أول الأمر منه باب الحماسة، الذي عنون به أبو تمام الكتاب، من باب تسمية الشيء بجزء منه.. صادقتُ فيما بعد، إضافة إلى باب الحماسة، باب النسيب وباب المراثي، دون أن أنسى المستنبحات من قصائد ملحمة الكرم اليعربي التليدة.
وجاء صيف 1998، وكنت في البادية خالي البال، فرقصت طويلا على أنغام مقطوعات الصمة بن عبد الله القشيري "شهيد ريا ونجد"، وعبد الله ابن الدمينة الخثعمي "صاحب أمامة"، وعروة بن أذينة الفقيه المدني، مبدع "إن التي زعمت فؤادك ملها.."، وغيرهم من الشعراء المجهولين عند أقراني..
أليست هذه الثلاثية رائعة:
لعمرك ما ميعاد عينيك والبكا .. بدراء إلا أن تهب جنوب
إذا هب علوي الرياح وجدتـُني .. كأني لعلوي الرياح نسيب
أعاشر في داراء من لا أحبه .. وبالرمل مهجور إلى حبيب
إنها لشاعر مجهول لم تسعفنا باسمه المراجع..
ختاما مسكا لهذه الفواصل، هاكم أبياتا يخاطب بها أحد أصدقائي، الذين ربطتني وإياهم أواصر صداقة تكفر بالحواجز الزمانية والمكانية، محبوبته أمامة، وهو ابن الدمينة (من قصيدة):
أرى الناس يرجون الربيع، وإنما .. ربيعي الذي أرجو نوال وصالك
أرى الناس يخشون السنين، وإنما .. سني التي أخشى صروف احتمالك
لئن ساءني أن نلتني بمساءة .. لقد سرني أني خطرت ببالك.