زينب بنت الحسن
بعض التمجيد لأسلافنا ولمجتمعاتنا فيه إسراف ومبالغة ..بل يمكن أن نصنفه في نطاق التضليل ..
أتذكر في إحدى المرات كنا نتحدث في بعض عاداتنا وتقاليدنا مع مثقف من إحدى الدول العربية.. قدِم الى بلادنا في مهمة ثقافية ..فبدأت الحديثَ أستاذةٌ موريتانية مرموقة، وتبعها أستاذ ومثقف مشهور ثم تلاه أحد شعرائنا البارزين.. تحدثوا طويلا في أكثر من موضوع وجالوا وصالوا وأضاءوا جوانب مهمة من عادات وتقاليد مجتمعنا ,ومن ضمن الامور التي ذكروها وأفاضوا فيها أمام الضيف العربي : تحريم المجتمع الموريتاني ـ حسب الاعراف المعمول بها ـ لأي نوع من العلاقات قبل الزواج , وأنه لا وجود لاختلاط بين النساء والرجال ..أما المجاهرة بالحب فتعتبر من المنكرات ،بل من الخطوط الحمر التي يجب عدم الاقتراب منها ,وتوسعوا في أمور من هذا القبيل..كاتفاقهم بأن الموريتانيين مشهورون بالوفاء بالعهود والصدق والطهارة والنبل وإكرام الضيف والامانة والفروسية والشهامة وكل الصفات الفاضلة ,ثم عرجوا على كرامات وخوارق الأولياء والصالحين وعجائبهم وغرائبهم حتى بدت الدهشة على وجه الضيف وخُيل إليه أن هذا هو مجتمع "المدينة الفاضلة" الذي وصفه الفيلسوف الاغريقي إفلاطون ..!
والغريب أنني ـ شخصيا ـ كدت أصدقهم ,بل تخيلت نفسي أعيش في مجتمع آخر!..
مسكين هذا الضيف!!
لقد صدَّقَ ,فيما يبدو ,كلما سمع ,حيث بدأ هو الآخر يكيل المديح والثناء لهذا المجتمع الفاضل ,لكن ما يحز في النفس أن هؤلاء المثقفين لم يعكسوا الصورة كما هي ,بل حاولوا رسم صورة مغايرة للواقع الراهن ,صورة لا توجد الا في مخيلتهم ,رغم أن لنا تاريخا مشرفا مليئا بالمفاخر والمآثر ,لكنه لا يخلو من مآخذ كثيرة يعرفها القاصي والداني ,ومن يحاول تجاهلها أو التغطية عليها كمن يحاول إخفاء الشمس بغربال ,وكان الاولى بقادة الرأي فينا عدم الشطط والمبالغة في هذه الامور ,خاصة أمام ضيوفنا الاجانب الذين سيكتشفون بأنفسهم حقيقة مجتمعنا وطهارته وتقوى أبنائه وبناته بمجرد مكوثهم يومين أو ثلاثة بين ظهرانينا.
والموريتانيون يعلمون علم اليقين أنه رغم تلاوة القرآن وانتشار المحاظر وكثرة طالبي العلم ووفرة العلماء ، فقد كانت توجد بعض الممارسات المحرمة شرعا والمسكوت عنها عرفا وما زالت الى يومنا هذا.
كما فات المتكلمين أيضا بأن مجتمعاتنا لم ينطبق عليها يوما ما عاشته المجتمعات العربية الأخرى من عنف وتشدد وثارات دموية في هذا المجال...
نعم ..لقد كانت مجتمعاتنا تتغافل عمدا عن بعض العلاقات التي تكون بين النساء والرجال في حدودها الدنيا و كانت ممارسات سائدة تقع تحت مصطلحات معينة ,أكرمكم الله ,مثل : "شد لخبار" أو ما يعرف "بالمجي والونسه" وهي مقبولة عرفا عند بعض المجتمعات أو جلها بل تعتبرها نوعا من " اتشوبيب" وتفاخر بها وخصوصا غير الزوايا منها..وكثيرا ما تسمع كلمات متداولة في هذا المجال ولا تجد من يستنكرها مثل " التوجاد" فيقولون "هاذ جاي امجد اعل فلانة ويذكرونها بالاسم ...الخ ".
وبالعودة للشعر والادب تجده حافلا ب"التوجاد" وحتى بالتغزل والتشبب بالمتزوجات وتمني اللقاء بهن علانية دون أن يؤثر ذلك حتى على ازواجهن أو يحرك فيهم ساكنا ,ولم تسلم كل المجتمعات من هذه الممارسات حتى مجتمعات الزوايا رغم ما تتميز به من محافظة وتمسك بشرع الله فقد كانت اللقاءات تجري عند ما يعرف باجماعة "الشنة" أو" الطبل" وهما تجمعان شبابيان للهو والسهر والرقص والغناء حتى آخر ساعات الليل ,وكان أمرا مقبولا ومسكوتا عنه ,بحيث يجلس فيه كل حبيب خلف حبيبته ينثر في حقها "الكيفان" في سمر مشهود "تُكرر فيه الاشوار وتناتر " وتصبح القبلات والعراك فيه حلالا والاختلاط مباحا ويتغافل الشيوخ عن هذا بحجة أن الشباب الذي لا يعيش مراهقته كما ينبغي ,فَعَل أمرا منهيا عنه ..بمعنى "الشباب البالي" ,ولقد سمعت حكايات من سيدات كبيرات في السن تفيد بأنه كانت هناك عادة وهي "اتبوهني" هذه العادة تقتضي بأن تتزين الفتيات وتخرجن مساء خارج "الفركان" وتطلقن أصواتا معينة عندما يسمعها شباب لفريك يتنادون ويختلط الحابل بالنابل ..هذا فضلا عن أن الصوت الصادر من خلاخل النساء كان القصد منه جذب الرجال اليهن وتنبيههن..
ليس هذا هجوما على مجتمعاتنا ولا ينفي كرمها ولا عفة نسائها ولا عفة رجالها كذلك ولا شهامتهم وبطولاتهم ..لكنه بعض من الواقع دفعني الى ذكره هذا الإسراف في تمجيد الذات والتناقض مع الواقع ..ثم ما يتعرض له شباب اليوم من هجوم من بعض الكبار ومحاولة التضييق والكبت ..حتى حق التعبير أصبح في نظر البعض يعتبر خروجا على المألوف وكثيرا ما أسمع "اهل اليوم ماهم ش وفاسدين" ونحن كنا عظماء وكذا وكذا..
علينا محاسبة أنفسنا وإنصاف شبابنا اليوم والاعتراف بأن ما كان يقوم به الشباب قديما لو فعله شباب اليوم لقامت الدنيا ولم تقعد..فاللقاءات كانت تحدث..وكانوا يسرقون أغنام الحي..ويعيثون فسادا حتي في مصادر المياه..ويفعلون أمورا كانت عند المجتمعات آنذاك مجرد " جوقه وردح" واليوم تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون قبل المجتمع..
إن الحلال بيِّنٌ والحرام بين والنصوص واضحة في نصوص القرآن الصريحة وأحاديث السنة الصحيحة وليست هناك شريعة بين هذا وذاك ..وهذه النصوص محفوظة ولا يغيرها زمان ولا مكان ولا تنطبق على جيل دون الآخر..
لا أدعو لترك الحبل على الغارب ولكن أدعو إلى الوسطية ..إلى تهذيب نفوس شبابنا بصدق المعاملة والفعل والقول وزرع القيم الفاضلة وتطبيقها فعلا لا قولا..ثم تفهم المرحلة ومتطلباتها ..
أشير هنا الى بعض الامور التي مازالت موجودة وهي مخالفة للشرع وحتى المنطق ويتم التغافل عنها من المجتمع بل يعتبرها عادات وخطا أحمر ..هذه الامور يجب الوقوف ضدها وإلا فسنخلق أجيالا منفصمة ..هم يرون بأعينهم هذه التناقضات.. ثم كيف نأمرهم بالصدق والأمانة والمجتمع يكذب ويغش و ما خفي أعظم!
حقا نحن مجتمع تناقضات وغرائب وعجائب.
# هنا لعصابه ولعمايه وأماروك