تحليل لقصيدة الشاعر محمد الحافظ ولد أحمد”عودة الهديل/ النجاح محمذن فال
مجتزأ من بحث نيل الماستر.
حين يخضل الثمام ويقتات الليل على أشجار الظلام . والحال أن الليل أصلا رمز للظلام والاكتآب، فليس للأحزان إلا أن تتداخل في مجتمع لم يجد الشاعر له إلا مثيلين:
المثيل الأول مستمد من الطبيعة ألا وهو الرقوب التي تفقد ولدها كل عام مستطردا ردة فعلها النابعة من حالتها الشعورية اليائسة وذلك في الأبيات الثلاثة الأولى حيث مناجاة الرقوب للمفقود في عقود من الأنغام (في ثغو مقطعة البغام)
أما المثيل الثاني فهو العاشق الوهن الذي تحيط المخاوف بحبيبته (وكر السابع وصدى الهوام) وفضلا عن تلك المخاوف فقد أحاط الشاعر حبيبته بكل المعوقات فجعل خطاها معلقة وأحلامها ترقد في جفون المستحيل. وعدا بظهر الغيب مغلول الخطا * حلما بجفن المستحيل إذا ينام، وحيث تسرح روحه في عالم الأشباح الذي يرعى فيه بروض الوهم:
وعوائل الأشباح مسرح روحه
يرعى بروض الوهم في حزق النعام
أما نهاية المطاف بالنسبة لهذا البطل فمثلث “برمودا” الذي لا ينجو عابره، وهنا يتم تجنيس الاشتقاق مع نهر آخر من الأنوثة ليشكل بداية انفراج للأزمة، حيث لا طاقة لعاشق على عبور هذا النهر –نهر الجمال الذي هو في رمزيته- المعشوقة القادمة من مدارج السماء.
حبك السما كانت مدارج خطوها
من جنة الفردوس تهبط كل عام
وذلك في ارتقاء متناه في الرمزية والتوظيف للمفاهيم الدينية ليستحيل الدنس رونقا من (جنة الفردوس، كلماتها إنجيل حب منزل).
كلماتها إنجيل حب منزل
وجفونها الحوراء تذبح كالحسام
وهو مفهوم ما يلبث أن يتخلص من سطوته ليدخل في جزيرته الرومانسية التي(فيها الهوى كان إمام) وعندئذ يكون البطل على يد المثيل الثاني للمجتمع الذي استمد منه كونه يائسا (عاشقا وهنا) وقد ترك الشاعر حالة المعشوقة ذات الفارس الوهن المنحدر من وكر السباع وصدى الهوام ليستنجد بالمعشوقة “الرعبوب” التي جعل منها بديلا عن حالة الضعف والانحسار فتهبط الرعبوب من الجنة لتغدو من أهل الأرض، بأنوثتها التي جلبت النصر. ويستمر الانفراج الناجم عن النصر المتمثل بالثورة الفلسطينية التي تسمو على الهزيمة ، إما لكونها من العالم العلوي (من جنة الفردوس تهبط كل عام) وإما لكونها من عالم الأسطورة المارق على المدركات العادية، رمز النصر الذي يمكن إدراكه من خلال عالم الجن المعبر عنه بـ”السعلاة”، أنثى الجن التي استطاعت أن تصل إلى أبناء العاجزين لتضفي عليهم من صفات القدرة ما عجزوا عنه في محيطهم العادي (البشر) ولتتحكم الرعبوب بقدرتها المستمدة من العالم العلوي في مجريات الأحداث فتميزابن أختها من بين صبية الجن، وهو الابن الذي كانت “السعلاة” سعت إلى مسخه لكنه غدا ثائراضد بني صهيون بالحجارة (ورأت هنا الرعبوب ابن أختها – في كفه حجر) هنا تكون ثورة الحجارة نتاج لعدة عوالم وصفها الشاعر في علاقة تراكمية تخدم غرضا واحدا هو الوصول إلى ثورة الحجارة التي بدأ البحث عنها في طيات المجتمع اليائس – عاشقا وهنا (البيت السادس) ثم في العالم العلوي …من جنة الفردوس تهبط كل عام. البيت الثاني عشر مرورا بعالم الطبيعة – جدول مرمر البيت الرابع عشر – كانت من الزيتون آخر دوحة البيت الخامس عشر) وعندئذ يستلهم من عالم الأسطورة ليصل إلى أقوى المدركات حتى يستطيع أن يهزم بني صهيون.
ذلك هو الإنسان النمطي الذي يعيش بين ظهراني بشر مهزوم بإيحائه إلى المجتمع العربي وتظل حالة اليأس تتقاسمه ليصل إلى الشعور بالأمل المجنح المتمثل في نصر رباني لا دخل للبشر المهزومين فيه وإنما هو مستوحى من المداليل الدينية التي تنتظر هبوط عيسى بن مريم ليحرر الأرض . ولينشأ انطلاقا من ذلك شعور بالثقة منفلت رغم الأنا الأعلى ، هذا الشعور الذي انحصرفي صبي واحد كان قد انقطع عن البشر وعايش الجن كما فى قول الشاعر :
ورأت هنا الرعبوب برعم أختها في صبية الجنان فى قزع الغمام
وكذلك فى البيت الرابع عشر: (خطفته أيدى الجن وردة نرجس… وهذه هي العقدة الرئيسية في هذه القصة الشعرية المشبعة بالتصوير والتخييل والعابقة بالطاقة الإبداعية غير المتناهية. والتي تكتمل العقدة فيها حين يتم التعرف على عصام
مهما تغر خيل به هتفت : عصام
اخرج من السرداب أمك فى فصام
ثم يبدأ الانفراج تدريجيا حين يضفي الشاعر على طفل الحجارة طاقة مستمدة من العالمين: عالم الأسطورة بإيحاءاته: السعلاة ، إلى غير ذلك. وعالم البشر بإيحائه (الرعبوب…) ولا يزال هاجس الأنوثة يخيم على معظم التصويرالتخييلي لهذه القصة الشعرية وخصوصا باعتمادها على أنثى البشر “الرعبوب” التي أفاقت على هذا الشبل الذي كانت قد أعدته منذ زمن ليضفي على هذا البطل عنصر قوة جديد إضافة إلى القوة الموغلة فى القدم :
كانت تغنيه بشقشقة الطيور
وبكل عين فى الصحارى لاتغور
من ألف ألف وهي راهبة المسا
أو فاقها وطقوسها وشذا البخور
ثم قوة أسطورية أخرى يتعدد فيها توظيف الأسطورة فيطغى عالم الأسرار والعزائم (الأوفاق والبخور) على كل المدركات الأسطورية، لكن كل هذه الطاقات التي أضفاها على بطله ليصل به إلى المنزلة المطلوبة فما تزال الرعبوب (العالم العلوي) تخلع عليه من طاقتها: فى مدخل السرداب تنبش في الصخور… والطوطم الهندي نبع هيامها . وهي عندئذ تجمع بين قوتين القوة الإلهية والقوة السحرية، وبما أنها لا تخور: البيت 28 فإنها تحقق الكمال للبطل الذي سيصبح موضوع حديث السمار – البيت 29- ويصل به الكمال إلى القدرة على الحلول بكل مكان تشتد فيه الحاجة إليه :في كل ساقية تجف ضروعها *البيت 35 وبهذه القوة التي منحته القوة الإلهية أصبح بالإمكان أن يغير الواقع ، فقد اكتمل وأصبح قادرا –بكل ما أضفي عليه- على سحب الحالة المزرية : اخرج من السرداب أمك في فصام . وهنا تشرح الرعبوب بدل الشاعر حالة العجز والهوان : دخل اليهود بيوتنا… وتحكي أول ما تحكي عن هموم نسائية (أقراطنا) وكأن لسان حالها يعبر عن حال كل عربية ..عن فقدان الفارس الذي يستنجد به قبل “عصام” بكل مداليله.
وبهذا المقطع يبدأ الانفراج بالقدر الذي حققه عصام من الكمال فيستمر السرد (وأنا هنا والشيخ الضعيف…) الأبيات السبعة من البيت 43 إلى 39 لنصل فى آخر المطاف، إلى استحضار شنقيط أرض الشاعر حيث يودق المطر فتحل الرحمة بما استوحته من مدلولات المطر، عندئذ يكون بالإمكان تحرير فلسطين وهدم آمال الصهاينة ، كل ذلك في صورتين تقابليتين يعبر عنهما المطر هما: الرحمة والهدم –الرحمة بالفلسطينيين والهدم للصهاينة.
في حين يستمر الانفراج بفضل الودق في شنقيط المتحد- زمنيا -مع عودة الهديل الذي ارتبط في بداية القصة مع النبات المخضل. إلا أنه بعد ودق شنقيط أوحى بالانفراج لينتفي العقم والزغام فيما يحيلان إليه من خيبة عبر عنها المقطع الأول من القصيدة . وحلت الهمم العظام محل الوهن، وتحققت الأحلام في حلة الأسطورة والطبيعة (والمارد الشلال، إطلالة الفجر) ذلك الفجر الذي طال انتظاره.
وقد أسند الشاعر مهمة التعبير عن طول غياب ثورة الحجارة إلى الرعبوب مدمجا بين عالم الأنوثة : الرعبوب ، السعلاة ….. وعالم الأرواح الربانية (أكنت تبحر في الخلود) وعالم الأسطورة (وحدث عن تميم الدار) وعالم الطبيعة :البحر السندباد …. ممزوجا بالإيحاءات الدينية في تسخير فذ لهذين العالمين: (السندباد وعالم البحر… والهوام وعالم الصحراء ثم عالم الإيحاء الديني المستمد دائما من البحر
أو ما يزال النون منهوما؟ أيز درد الغواني والنبئين الكرام ؟
وباستحضار رومانسي مستلهم من الموروث التاريخي الديني ، بالإشارة إلى مأساة النبي يونس الذي التقمه الحوت ثم مأساة تميم الدار. وباكتمال شخصية عصام وأهليته لأخذ زمام المبادرة، وتقمص شخصية الفارس التي خلعتها عليه عدة قوى مستمدة من عوالم مختلفة ، يكون باستطاعة الشاعر الاستغناء عن بعض هذه العوالم وتعويضها باخرى: (فتضج أصداء الجنائز…)، وتأتي ملكة الجن : كأنها أشباح عبقر … لكنها ما تحضر إلا لتلحق الهزيمة بالعدو إثر ثورة الحجارة (ويطل من خلل الستائر طارق …) ليتواصل هذا الانفراج بل يصل إلى أكبر مدى له تدريجيا عندما يتقمص البطل شخصية القائد العظيم طارق بن زياد مطلا بحبيبته الرعبوب -ذات الأبعاد المختلفة- بطلة القصة الرئيسة لأنها (هبطت من الفردوس نهر أنوثة) لكن طارق لاغنى عنه ليصمد طفل الحجارة الغائب المنظور أمام سطوة عبقرومحاولتها مسخه ، كل ذلك ليتمكن من هزيمة جنود عبقر “الصهاينة” (فتضج أصداء الجنائز بالغطيط كأنها أشباح عبقر…)ولذلك وظف طارقا كمقوم رئيس للنصر من خلال تحيته للرعبوب فهو هنا لا يستغني عن البطلة الأولى وإنما يمدها بقوى جديدة كما فعل على مدار القصة لكن هذه القوى الآن منسجمة مع مدلول الرعبوب الغيبي وحاجة الحياة إلى ذكر وأنثى. وكذلك كانت الخاتمة هي الظفر بالمطلوب متجليا في إبحار البطل على لسان الرعبوب – قوته الخلفية- (وكيف ينجو المبحرون من الهوام.وظفر الرعبوب يكشف عن تفريج لهموم مختلف العشاق في أول القصة وأولهم ذلك العاشق الوهن الذي تخلى عنه الشاعر واستعاض عنه في خاتمة القصة – القصيدة – بعاشق مثل طارق بن زياد كان قد أحرق سفنه خشية الهزيمة لأن البطل هنا لم يعد بإمكانه أن يغدو مهزوما انسجاما مع إيحاء طارق وتغدو الرعبوب ملكة مرتين – ملك الجمال أعز من ملك الورى وتتعزز صفة الاتحاد بين طارق والرعبوب لأنها متأتية من علاقة أخرى استجدت في النص هي العلاقة بين الرصافة وشنقيط عندئذ ينتفي التأزم بحلول شنقيط من جديد (يرتاد في شنقيط…) وهذا الاتحاد لم يعد رمزيا إلا في الأبيات الأخيرة (يا أيها الألق البهي تعال نتحد) فتلك خاتمة القصة – خاتمة تناغم فيها تعدد القوى الغيبية مع تعدد الروي في القصيدة (آم-ور-آم) (آب، آت) وتكتمل القصة بعد أن طافت في عوالم إبداعية تسمو على المدركات الحسية وتتشبع بآفاق الأمل الذي ما جاء إلا ليهزم الإحباط.وبواعثه.