ترجمة " محاكمة الأمير المختار بن امحمد ولد إعلي الكوري"

سبت, 01/22/2022 - 16:26

مشروع ترجمة " محاكمة الأمير المختار بن امحمد ولد إعلي الكوري" الذي نشرناه في السنة الماضية مع مقدمة بقلم هيئة تحرير ( صحيفة نواكشوط)...

ننشر اليوم مشروع وثيقة محاكمة الأمير التروزي المختار ولد إعلي الكوري في ترجمة قمنا بها لهذه الوثيقة الهامة
توطئة لترجمة محاكمة الأمير المختار ولد امحمد ولد إعلي الكوري:

قبل الدخول في فقرات الترجمة الجزلة التي قام بها الأستاذ الكبير سيدي محمد ولد متالي حول تفاصيل اعتقال ومحاكمة وإعدام الأمير التروزي المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي، نرى من الضروري أن نوضح للقارئ الظروف والملابسات السياسية والصراعات السلطوية المحيطة بحياة هذا الأمير اليافع الذي تربى يتيما وسعى إلى الإمارة وهو مراهق..

لقد حكمت إمارة ترارزه أسرتان من عقب إعلي شنظوره ولد هدي ولد أحمد بن دامان. فبعد أحمد بن دامان، مؤسس الإمارة إثر معركة انتيتام سنة 1631، والمتوفى سنة 1636، تأمّر ابنه هدي ما بين 1636 و 1684، ثم تولى بعده الإمارة ابنه السًيِد.. ثم بعده أخوه أعمر آكجيل.. ليصل الحكم إلى إعلي شنظوره الذي تأمر من سنة 1703 إلى سنة 1726. وحسب محمد فال ولد بابه وولد أبو مدين فقد تأمر بعد إعلي شنظوره أخوه الشرقي ولد هدي، إلا أن المختار ولد حامدن وبول مارتي يحذفان الشرقي من لائحة أمراء ترارزه، علما بأن خلافة الشرقي لأخيه إعلي شنظوره، على شؤون الإمارة، خلال مقامه في المغرب بحثا عن السند ضد لبراكنه، لا يرقى إليها الشك..

بعد إعلي شنظوره، بدأ عهد أهل أعمر ولد إعلي الذي تواصل لمدة 74 سنة (تزيد أو تنقص قليلا حسب الخلاف في تواريخ الوفيات).
وقد تميزت إمارة أهل أعمر ولد إعلي بأمور كثيرة.. من أهمها أنها لم تشهد انقلابا واحدا.. لا هادئا ولا دمويا، بل لم يمت من أمرائهم مقتولا غير واحد توفي في معارك خارجية (ضد تحالف بين إمارة لبراكنه والدولة الألمامية).. كما أنها الإمارة الوحيدة التي لم تعتمد التوريث الأبوي (أي أن الإمارة وصلت من أعمر ولد اعلي إلى ابنه المختار، لكنها من عهد المختار تعاقبت بين الإخوة وأبناء العمومة (داخل أسرة أهل أعمر ولد اعلي) إلى أن تم الانقلاب على حكمهم..

و أول من حكم من أسرة أهل أعمر ولد اعلي هو أعمر نفسه الذي مارس السلطة الأميرية ما بين 1726- 1756.. تولى الإمارة بعده ابنه المختار ولد أعمر ولد إعلي الذي حكم ما بين 1756- 1771، وتولى بعده أخوه إعلي الكوري ولد أعمر ولد إعلي الذي حكم ما بين 1771- 1786 (قتله جيش المامي عبد القادر: أحد أمراء الدولة الإسلامية في فوتا تورو.. المتحالف مع إمارة لبراكنه). تولى بعده الإمارة ابن أخيه محمد الجواد ولد المختار ولد أعمر ما بين 1786 إلى 1792 .. ثم تولى بعده الإمارة أخوه عاليت ولد المختار ولد أعمر في الفترة ما بين 1792- 1794، ثم تولاها بعده أخوه أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد إعلي المعروف بـ"أعمر ولد كمبه".. الذي حكم ما بين 1794- 1800، وتوفي في زهرة العمر دون أن يترك أي وريث بالغ من جميع أفراد أسرة أهل أعمر ولد إعلي..

ثم يصل الحكم، في انقلاب أبيض، إلى أهل المختار ولد الشرقي الذين عـُـرفت إمارتهم بـ"إمارة أهل محمد لحبيب".، وكان أعمر ولد المختار ولد الشرقي ولد هدي أول من حكم منهم في الفترة ما بين 1800-1829.

وكان امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي أول بالغ من أسرة أهل أعمر ولد اعلي يقود معارضة مسلحة ضد حكم أعمر ولد المختار (ولد الشرقي)، فحاول، خلال أيام مشهودة، استرداد الحكم، واستنجد في سبيل ذلك بحلفاء من داخل قبيلته، ومن أبناء عمومتهم أولاد دمان، ومن أصهاره إدوعيش.. خاصة في عهد الأمير محمد ولد امحمد شين..

وتولى الإمارة بعد أعمر ولد المختار ابنه محمد لحبيب الذي حكم في الفترة ما بين 1829-1860، وقتل من قبل أبناء إخوته في محاولة انقلابية فاشلة، ليتولى الحكم من بعده ابنه سيدي ولد محمد لحبيب الذي تأمّر في الفترة ما بين 1860-1871 .. وسقط قتيلا في انقلاب دبًره أخوه أحمد سالم (الأول) ولد محمد لحبيب. وقد عرفت فترة إمارة أحمد سالم، الممتدة لثلاث سنوات، مناوشاتٍ ومعاركَ طاحنةً مع أخيه إعلي (ابن اجّمبت: ملكة الوالو) انتهت بقتل الأول في شهر مايو 1873، ليستتب الحكم لأخيه الأمير اعلي ولد محمد لحبيب الذي قتل سنة 1886 في انقلاب دبرته جماعة من أولاد أحمد بن دامان من ضمنها أبناء أخيه خاصة أحمد الديد (الأول) ولد سيدي ولد محمد لحبيب ومحمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب. وهنا أخذ محمد فال ولد سيدي السلطة الأميرية سنة 1886 في جو مضطرب لم يشهد استقرارا حتى قتل بعد أربع سنوات (سنة 1890) على يد ابن عمه أحمد سالم (الثاني) ولد اعلي (الملقب بياده)، وقيل إن محمد فال تنازل عن الإمارة لعمه أعمر سالم قبل مقتله، وإن تأكد ذلك يكون أعمر سالم قد حكم من 1890 إلى حين مقتله في إحدى معارك الصراع على السلطة سنة 1893.
ثم استتب الأمر للأمير أحمد سالم ولد إعلي " الثاني" الملقب بياده.. حتى اغتيل سنة 1905 على يد جماعة يقودها أحمد للديد، الثاني، ولد محمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب..

في هذه الفترة بالذات دخلت الإمارة في العهد الفرنسي، فتأمر أحمد سالم ولد ابراهيم السالم.. وأحمد للديد ولد محمد فال، بالتزامن تقريبا، حتى توفي أحمد سالم سنة 1929، لتبقى الإمارة عند أحمد للديد ولد محمد فال ولد سيدي حتى يوم وفاته سنة 1944، ويرثها منه ابنه محمد فال (ولد عمير)، ثم تعود لعقب أحمد سالم ولد ابراهيم السالم.. ممثلا أولا في إحبيب ولد أحمد سالم ثم أبنه أحمد سالم الأمير الحالي...

في هذه الظروف، كانت المصالح الاقتصادية، المتمثلة في تجارة الصمغ وما تدره من ضرائب، وفي الإتاوات والإكرامات الممنوحة من قبل الفرنسيين والوسطاء التجاريين، قد طغت على كل الجوانب الأخرى، فتفكك، شيئا فشيئا، حلف أهل أعمر ولد إعلي تبعا لموازين القوة، وقلّ عددهم هم أنفسهم، ولم تنجح محاولات امحمد ولد اعلي الكوري في استعادة السلطة بالقوة، إلا أن أهل أعمر ولد إعلي، رغم كل ذلك، ظلوا يتمتعون بوزن كبير وبمكانة قوية جعلت حضورهم في الإتاوات والإكرامات بارزا، بل ظلوا يرفضون التنازل عن نصيبهم تحت أي ظرف...
في هذا السياق يظهر المختار ولد امحمد ولد إعلي الكوري الذي ترك له والده أمجادا داخلية و علاقاتٍ خارجيةً كبيرة.. و أموالا طائلة في عاصمة المصالح الفرنسية سان لويس...
لقد مات عنه والده وتركه يتيما، فتربى في سان الويس (اندر) حيث عقاره وأمواله، وحيث عايش الفرنسيين (وكان يتكلم الفرنسية بطلاقة، كما كان يلبس الزي الفرنسي بإتقان، ويضع ربطة العنق تماما مثلما يضعها الأوربيون). وقد وصفته وثائق المستعمر بأنه شاب وسيم ذو طباع حضرية راقية لا يتحلى بها أي بيظاني حينها..

وكان هذا الشاب، المولود بين 1810 و1815، يسعى لاسترداد السلطة على خطى والده امحمد ولد إعلي الكوري وأبناء عمومته أولاد أعمر ولد إعلي الذين لم يبق منهم أي بالغ عندما توفي آخر أمرائهم أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد إعلي الملقب أعمر ولد كمبه.
إلا أن جملة من الظروف لم تساعده في مسعاه، من بينها:

أولا: صغر سنه، فقد بحث عن الإمارة وهو بعد لم يبلغ الـ 18 من العمر..

ثانيا: تفكك القوة التي كانت تساند ذويه من أولاد أحمد بن دمان وأولاد دمان وأخواله إدوعيش الذين أتوا مرتين بخيلهم ورَجلهم وقاتلوا في أقصى الجنوب، لكنهم فشلوا في استعادة الحكم لابن ابنتهم وإن انتصروا في إحدى المعركتين اللتين شاركوا فيها إلى جانب والده امحمد وأنصاره الدامانيين: معركة أفجار سنة 1817 ومعركة أباخ (الصطاره) في ذات السنة 1817

ثالثا: ميول الفرنسيين إلى الأسرة الحاكمة الجديدة لاعتبارات من أهمها أن مصلحتهم تقتضي التعامل مع جهة واحدة وزعيم واحد، بالإضافة إلى ما استشفوا من قلة حظوظ الأسرة الأميرية الأولى في استرجاع عرشها..

رابعا: قبوله للتنازل عن المطالبة بالإمارة (لفقدان السند الداخلي والخارجي)، ورفضه المطلق البات للتنازل عن المصالح والإكرامات التي كانت من حق أجداده على ضفة النهر (كالإتاوات، والتعويضات عن توقف القوارب التجارية والمزايا المادية التي تمنحها سلطات سان الويس)...
الأمر الذي شكل مساسا بهيبة الإمارة وبجزء من سلطاتها وبعض مصالحها الحيوية، فكان لابد لها أن "أن تتصرف" بشكل أو بآخر، خاصة أن الأمير الشاب يعتبر، وربما يعتبر بعض أبناء عمومته المباشرين، أن التنازل عن المزايا الخاصة بهم سيكون بمثابة التخلي عن جزء آخر من أمجادهم أو عن النصيب المتبقي من سيادتهم.. بعد أن أجبرتهم الظروف على التخلي عن السلطة..

خامسا: المؤامرات الداخلية.. والشِراك التي وضعت للشاب.. فوقع فيها دون أن يحسب عواقبها، ومن أبرزها عملية قتل التاجر جاك موليفار: صديق والده وصاحب المكانة الكبيرة لدى الفرنسيين، ما جعل فرنسا تعتبر أنها إن لم تقتل قاتله ستخسر هيبتها وسمعتها لدى سكان المنطقة، فكان لابد لها من استدراج الشاب إلى "اندر" لتجعل منه مثالا تروع وتردع به كل من يحاول المساس بمواطنيها وحلفائها.
وعند القراءة المتأنية لما بين سطور الوثائق الفرنسية، نكتشف أن الإمارة شاركت في عملية الاستدراج تلك.. لأن الشاب أظهر قدرات فائقة على المنافسة، ولأنه ينبئ بمستقبل واعد قد يهدد أركانها ولربما تمكن، بحنكته وشجاعته وعلاقاته وثرائه المادي وما لديه من مقومات التفاهم مع الفرنسيين، من انتزاع السلطة وإعادة الإمارة إلى صيغتها الأولى..

إذن قـُتل التاجر الخلاسي سنة 1831 على يد المختار ولد امحمد ولد إعلي الكوري، أو على يد أبناء عمومته أبناء إعلي ولد بوشارب... انطلاقا من شهادات تم الإدلاء بها خلال المحاكمة المنعقدة في سان لويس سنة 1832 .. أو قتل بحضور الشاب الذي تمتْ فبركة التهمة لجره إلى المشنقة... فهو يُحرِج الإمارة لأنه يطالب بنصيب من الدخل.. ويحرجها لأنه مهيأ لقيادة التناوب السياسي، ويحرج فرنسا لأنه يفرض إتاوات وإكرامات مضاعفة على اعتبار أنها تدفع نفس الإتاوات والإكرامات للإمارة، ويحرجها لأنه يشكل قطبا ثانيا...
وفرنسا تعتبر أن مصالحها تقتضي التفاوض والتعاطي مع قطب واحد.
وهكذا وجهت له التهمة.. وحكم عليه بالإعدام.. ونُفِذَ فيه الحكم رميا بالرصاص، ليكون بذلك أول بيظاني يحاكم محاكمة عصرية مكتملة الأركان: من رئيس محكمة، مرورا بالقضاة، فممثلي النيابة، إلى المحامين، والشهود.. وبذلك يكون أيضا أول بيظاني يصدر عليه حكم بالإعدام وينفذ فيه رميا بالرصاص. علما بأن بعض أعضاء المحكمة أصيبوا بحزن شديد وإحباط كبير إثر تنفيذ الإعدام في الشاب المختار لأنه، بالنسبة لهم، أعدم على خلفية أحداث وقعت وهو بعد لم يصل سن البلوغ القانوني (كان سنة 1931 في حدود الـ 16 من العمر، وإن حاول رئيس المحكمة تقديم أدلة غير مؤصلة على أنه في حدود الـ 21 سنة)..
كما يعتبره بعض الفرنسيين من أقرب البيظان إلى نمط حياتهم العصرية، وأنه يتكلم لغتهم بطلاقة، ويمكن التفاهم معه أكثر من غيره، بالإضافة إلى أنه ضحية لمؤامرة تروزية - فرنسية بشعة لم يفهم أبعادها لصغر سنه..

ومهما يكن، فإن ملفه يظل نقطة سوداء في جبين العدالة الفرنسية، سيجد، في يوم من الأيام، من يرفع اللبس عن قضيته ويفكك ألغازها وطلاسمها. كما سيظل مفخرة تروزية لأنه، وإن أنكر التهمة، رفض التنازل عن مصالح ذويه، ورفض المساومة في حقهم على المراسي والمراكز التجارية، ورفض الخضوع لسلطة لا تقبل به شريكا، وذهب إلى مكان الإعدام متماسكا بخطى واثقة حسب شهادات الفرنسيين أنفسهم...

محرر زاوية " تاريخ مغيب" في صحيفة نواكشوط

" حلقة من تاريخ السنغال"
بقلم: آلفريد غيشون دو كِرانبونه... ترجمة: سيدي محمد بن متالي..
النص الذي ننشره اليوم عبارة عن ترجمة لتقرير عن محاكمة للأمير التروزي المختار ولد امحمد ولد إعلي الكوري في سان لويس سنة 1832 على إثر اتهامه بمقتل التاجر الخُلاسي جاك موليفوار قبالة مدينة ريشارتول السنغالية في شهر يونيو 1831 ...
و قد لخص زميلي الدكتور سيد أحمد ولد الأمير تلك الحادثة في مقال سابق له تحت عنوان" مصارع الأوربيين في موريتانيا قبل دخول الاستعمار" بتاريخ 19 يناير 2014 ...
كما تحدث عنه الدكتور و الباحث الشهير محمد المختار ولد السعد في مقال له في مجلة مصادر الصادرة عن جامعة نواكشوط و جامعة أكس الفرنسية سنة 1995 تحت عنوان: " العلاقات الفرنسية ـ التروزية في فترة الاستعمار الزراعي"...
و أشار إليه بول مارتي في بعض كتاباته عن الاتفاقات الفرنسية ـ التروزية..
و اشتهر المختار في اتهيدينة " لوصاية" التي يخاطبه فيها الفنان الشاعر إعلي ولد مانو.. و التي نعتزم نشرها كاملة في آخر هذه الترجمة التي سنحاولها لتقرير كِرانبونه.. عن هذه الحادثة...
الترجمة...
"يمثل هذا السرد أداء لأحد أتعس واجباتي المهنية إذ أنه يروي قصة إحدى ذكرياتي الحزينة..
..كان ذلك في شتاء 1832 عندما جئت مدينة سان لويس بالسنغال في السابع من أكتوبر لأمارس وظيفة مفتش عام في محكمة الاستئناف.. فكُلِفتُ لمدة ستة أسابيع من طرف الوالي "رينولت سان جرمان"، رئيس الفرقة... الذي يُعد من ألمع الرجال الذين عرفتهم و أبرزهم... فقد كان مثقفا، ذا رأي صائب، و ذا نخوة.. مع خبرته في إعمال بعض القسوة في الوقت المناسب...
كلفني بقوله: " قضية كبيرة و أساسية.. تتطلب كل عنايتك... تتطلب من الحذر ما تتطلبه من العزم و الحزم.. لقد اعتقلتُ في حي {كِت إندر} أميرا تروزيا متهما بالقتل و الحرْق... اقرأْ ـ أولاـ الرسالة التي بعث لي بها هذا الصباح.."
{ أخذتُ اقرأ الرسالة}
" هذه الرسالة صادرة عن المختار بن امحمد ولد إعلي الكوري إلى السيد الوالي " ألانه" و إلى جميع سكان سان لويس..
موجبه إعلامكم أنني أريد أن أكون في عافية معكم.. و أن أحافظ على صداقتنا التي كانت بين أسلافنا معكم..
لقد ظلمتموني باتهامكم لي بقتل انجاك ماليفوار.. و لم أكن أنتظر ذلك منكم.. فما فعلتموه لي لم أفعله لكم.. لو كنتُ أريد قتلكم لكنتُ فعلتها من قبلُ.. في ما يتعلق بإكرامياتي التي تمنعونها منذ سنتين.. أشير إلى أنكم لو أرغمتموني على كلامٍ سيئ فلن أجيبكم إلا بكلام طيب.. و إذا كنتُ أتصرف هكذا فلأني أعرف أن لكم عقلا و أنكم تعرفون لماذا أتصرف هكذا.. فإني لا أحب إلا العافية و إني أحبكم..
و كما أنه من المستحيل عليَ أن أتراجع عن اعتقادي في الله تبارك و تعالى.. فإنه من المستحيل عليَ أن أتراجع عن مطالبتي بإكرامياتي.. قد أُضحِي بأمرٍ آخر.. و لكن ليس بهذا..
و إن أراد أيٌ من أقاربي أن يسلبني ذلك الحق.. فإنني سأقتله..
و لا تحتسبوا أنني أطمح للسلم معكم لأنه ليس بمقدوري شيء آخر.. كلا.. ذلك لأنني فقط أحب العافية..
و بالنسبة لكم فقد قابلتموني بكل سوء بمنعكم لإكرامياتي منذ سنتين.. و ليس بمقدوركم أشنع من ذلك.. و ممتلكاتي ليست تحت أيديكم..
قيلَ لي إنه إذا اجتمع ترارزه سأمنح إكرامياتي..و كنتم التقيتم بهم في السابق..
و كل ما تقولونه لي دون منح إكرامياتي لا يهمُني.. و السلام.."
.. يستمر جرمانه قائلا: " المختار هذا يتطلع إلى أن يكون ملكا على رأس القبيلة البيضانية ـ ترارزه ـ الإمارة الأقرب من منطقتنا..
و قد جاءني رسوله بجوادٍ أصيلٍ و رددته عليه.. آمرا هذا البائس أن يبتعد إذا كان لا يحب أن يُعامل مُعاملة قاسية..
و قد كان منعُ إكرامياته كافيا لإرجاعه إلى وضعية مقلقة له.. و كان أجابني قبل قليلٍ هكذا:".. أيحكم هؤلاء البيض قبل أن يسمعوا... أريد أن أمثل أمام محكمتهم .. و أن يحاكموني.."
" لقد أصَبتُ في توقيفي له.. و هو مودعٌ في السجن.. اذهب إليه.. قابلْه.. قابل العمدة و رئيس المحكمة الابتدائية المكلف بالتحقيق..
لا تتسرعوا و لا تتباطؤوا تباطؤا مُخِلا..."
عندما ذهبتُ من عند الوالي كنتُ أحاول أن أسيطر على تأثري.. كان عمُري إذ ذاك خمسا و عشرين سنة.. و كانت ذكريات بداياتي في قضاء {ديجونه} كفيلة بأن تجعلني أضطرب.. فقد منحتني إحساسا، متواضعا، بالرضى.. إثر الحصول على براءاتٍ.. أو التخفيف من أحكام في قضايا رديئة..
أتجاوز صفحات و أصل إلى الاستماع إلى مجلس الاستئناف...
كان أول من التقيته هو الملازم "دوسلانص " { قال لي}:
"... المسكين المختار.. أعرفه منذ عدة سنوات.. و لم أكن أنتظر {له} ـ أبدا ـ { مصيرا} كالمهمة التي كُلِفتُ بها هذا الصباح..
إنه يثِق في صفته الأميرية و صفته الملكية التي ينبغي أن تنأى به عن وضعية كهذه.. كان، و هو في منزل شيخ " إندر" ينتظر جوابا إيجابيا من الوالي.. حتى هرولت إليه إحدى النسوة و قالت له: " هنالك جنود يعبرون النهر.. قادمين لتوقيفك.." فأجابها بقوله: " ذلك قدَر الله"..
و برز مباشرة أمامنا حاملا معه قدحا مملوءا بالحليب.. فقدَمه إليَ مرحِبا بي..
و عندما رفضتُ التناول من القدح قال لي:" لماذا جئتم بهذا العدد الكبير.. لن أزيد على أن أتبعكم.. اذهبوا بي إلى الوالي..
بدا قليلٌ من الاستغراب على وجهه عندما علِم أن الأمر جاء مباشرو بإيداعه السجن.."
عمدة {إندر} الذي كان ينتظرني يقول: "إنه ليس من اللائق إيداع المختار السجن.. نظرا لإصابته بمرض في الصدر.. و لان الليالي بدأتْ تميل إلى البرودة.... أليس من الأوْلى حجزه في المستشفى؟"..
" .. بلى .. بالفعل.. و سأتباحث مع الرئيس في الموضوع..
سرد لي السيد " ألانه" الأحداث التي قادت إلى التوقيف قائلا: " ... بيد أنه { يعني المختار} كان يتظاهر بالإخلاص و المحاباة للسلطة العليا لم أكن على علمٍ أن قاعدة عريضة من السكان كانت تهتم به..." و أضاف قائلا: " لقد أثيرت إشكاليات هامة:
{ هل يُسمح للبيض بالمحاكمة؟ ، هل إن الجريمة وقعت على التراب الفرنسي؟ هل إن ما وقع جريمة أو عمل حربٍي؟ هل إن المختار وصل بالفعل السن القانونية لكي يكون مسؤولا عن تصرفاته؟..}
هذا فضلا عن أن أصدقاءه يأملون في سحبه من القضية تعاطفا معه و حفظا لسالف المودة بينهم مع أبيه و جده.. البطلين اللذين ماتا مقاتلين شريفين... هذا مع الخِشية من تداعيات سياسية في حالة عرقلة الإدانة مهما كان الحكم المُعلن..."
لم أستفد من زيارتي للرئيس " دو لاروك" إلا تبادلا للشروح حول بعض تفاصيل المسطرة الإجرائية..
يومان بعد ذلك أُحيل المختار إلى المستشفى حيث كان لي معه لقاء مطول... لم يترك لي { ذلك اللقاء} أي تأنيب للضمير حول الواجب الذي ينبغي لي أداؤه...
حاولتُ عدة مرات أن أقنع الوالي بإرسال هذا المسكين إلى فرنسا لمحاكمته هناك.. أو إلى مُستعمرة أخرى.. و لكن دون جدوى...
تم استدعاء المجلس الاستشاري اليوم 17 ديسمبر من أجل عقد ثلاث جلسات مطولة للنقاش في الموضوع.. و سأعرض مراحلها الأساسية:
مثُل المتهم طليقا مصحوبا بدفاعه الرسمي السيد" تايل هاردات ـ فاييت".. ضابط الحالة المدنية في جزيرة " سان لويس".. يبدو أن سنه تتراوح بين 22 و 23 عاما... كانت خطواته ثابتة و بطيئة.. كان مع كلامه اللغة الفرنسية يرتدي الزي البيضاني..طلب أن يكون الحوار معه بلغته الأصلية..
تم استدعاء السيد "أوهارا" الذي يتقن اللغات الفرنسية و العربية و الولفية لأداء اليمين القانونية بوصفه ترجمانا للجلسة..
عندما سئل المتهم عن هويته أجاب بأنه يُدعى المختار بن محمد ولد إعلي الكوري.. و أنه من قبيلة بيضان ترارزه... حيث يُقيم عادة.. و أن سنه سبعة عشر عاما، كما يبدو, و أنه أمير و محارب...
بعد قراءة الأمر القانوني المتعلق بالإحالة و قضية الاتهام عرض السيد غيشونه دو كِرانبونه، مفتش المستعمرة و المكلف بمهمة المحامي العام للمملكة، الموضوع كما يلي:
أيها السادة:
منذ سبعة عشر شهرا، تقريبا، و في انصرام شهر يونيو 1831 .. عم الحديث في سان لويس عن جريمة.. و شاعت في كل حدب و صوب على ضفاف نهر السنغال.. و هي القول إن البيضان قد اغتالوا جاك ماليفوار... زنجي حر و تاجر في هذه المدينة.. و هو من الرجال الأكثر احتراما بين سكان المستعمرة.. و لم يكتف { البيضان} بتلك الجريمة وحدها.. و إنما قاموا أيضا بمهاجمة سفينة المسمى مافال، من سكان المستعمرات هو الآخر.. حيث قُتل و أُسر كلُ طاقمه و نُهبت سفينته .. و أغرقت.. و منذ ذلك الوقت نسَب كل من شارك في هذه الأحداث الجبانة فعلها للمختار بن امحمد بن إعلي الكوري، الماثل أمامنا.. و إليكم، سادتي، التفاصيل التي أعطوها..
كانت سفينة المختار قادمة من محطة " كِايه".. هابطة من نهر السنغال.. محركة بشراع من طرف طاقمها.. الرياح العاتية ألقت المركبة على الضفة.. قبالة مدينة " ريشار تول".. عند ذلك أعطى ماليفوار أوامره بالتوقف و تم النزول أرضا لتجفيف بعض الزرع و بعض الجلود التي بللتها الأمواج... في تلك اللحظة قدِم فرسان أربعة و توجهوا إلى الطاقم الذي كان مشغولا بمهمته..
.. تقدم أولا المختار ولد محمد ولد إعلي الكوري و توجه إلى ماليفوار.. و حياه و صافحه يدا بيدٍ.. طلب المختار من ماليفوار بعض التبغ.. قدم له ماليفوار وعاء التبغ.. ثم طلب منه منحه غطاءه.. فرد عليه ماليفوار بهدوء:
" لو كنتُ في سان لويس لأعطيتك إياه بكل سرور... أمَا و أنا هنا في الصحراء فأنا بحاجة ماسة إليه.. و أحتفظ به.."
خاطبت إحدى النسوة ماليفوار قائلة: " أعطه إذا هذا الغطاء.. ألا ترى أن البيضاني جاء من أجل اختلاق مشاجرة كي يقتلك..؟"
" و لماذا يقتلني..؟ أجاب هذا.. فالمختار طفلٌ من السنغال... و لم أمسسه بأذى قطُ.."
فجأة .. رمى المختار أمام الرجل بوعاء التبغ الذي ما زال يمسكه بيديه.. انحنى ماليفوار لالتقاط الوعاء.. أدار البيضاني فرسه.. صوَب بندقيته نحو خاصرة الأسوَد.. محدثا طلقة سيطرت عليها التميمة التي كان الضحية يُعلقها في جنبه...
أوعز المختار إلى أحد الفرسان بأن يطلق النار.. امتثل هذا الأخير الأوامر.. أصيب ماليفوار بطلقة من تحت الأذن.. فمات على الفور..
لم يُطلق الفارسان الآخران النار.... و انصرف الأربعة هابطين إلى النهر بعد هذه الجريمة النكراء...
و بينما كان رجال ماليفوار يوارون جسده الثرى.. في واجب خيِر.. اكتشفوا آثار ضربة رصاص في بطنه.. جزموا أنها من الطلقة التي سددها المختار نحوه.. ولكن الرصاص لم يخترق جسده.. مما أرجعوه إلى قوة تمائم ماليفوار..
بعد ذلك بقليل، كان المختار و هو على فرسه قد مر ب { لافاي}، مرسى الصحراء القديم، حيث ترسو سفينة المسمى " مافال".. كان هذا البيضاني مرفوقا بأعمر، نجل إعلي بوشارب.. في ذلك الأوان كان البيضان يقوضون خيامهم على جناح السرعة كي يرحلوا.. و يردون على من سألهم بأن الحرب { تتقد} بين قبائلهم.. بقي مافال هادئا قائلا: " هذا لا يعنينا في شيء.."..
لقد كان المسكين على خطإ.. في المساء عاد البيضان راجلين.. و بدون إثارة منه أو من رجال طاقمه المشغولين بتجفيف الزرع.. و دون أدنى مؤشر مشاجرة أخذ القادمون يطلقون النار على الرجل و طاقمه.. و قتلوا على الفور مادمبا غويان.. الرقيق، عامل التشريفات و دمبا غيرين.. حُر و عامل تشريفات..و أصابوا مافال إصابة بالغة.. فعبَر النهر سباحة ليصل مرهقا إلى سان لويس.. وأخذوا الزنجيين من الطاقم الفرنسي محم و أدبان أسيرين.. و نهبوا المنشأة و أغرقوها في عمق المياه..
شوهد أعمر ولد إعلي بوشارب و هو يشارك في تلك العملية.. كما شوهد المختار نفسه على مسافة قريبة من ذلك.. و هو في وضعية القائد الذي يريد أن يتأكد من تنفيذ أوامره..
تلكم ـ سادتي ـ هي الرواية التي تداولتها الأفواه..
أما عن دواعي الجريمة.. فلا يخامر أحدا هنا أدنى وهمٍ أنها تعود إلى امتناع ماليفوار من تسليم غطائه للمختار.. و لا إلى الرغبة في النهب فقط.. و لكن كانت لهؤلاء دوافع انتقامية و ذلك مما يلي:
قبل أيام من تلك الأحداث كان الضابط قائد المركز الفرنسي بدكِانه " السنغال".. قد شاهد جُثة فرس متحللة في مكان قريب من المركز.. و تنبعث منها رائحة كريهة.. فطلب من إعلي {ولد} بوشارب.. الأمير البيضاني الطاعن في السن، أن يزيل الجثة عن ذلك المكان.. ما دامت ملكية الفرس تعود إليه.. فامتنع من ذلك قائلا إن الذين يتضررون منها عليهم أن يسحبوها حتى ضفة النهر..
لم يرتح القائد لذلك الرد و اعتبره و قِحا.. فأوقف الشيخ المُسن.. و سجنه لمدة ساعات.. ثم أطلق سراحه بعد ذلك..
غضِب الأمير من تلك المعاملة حتى لقيه السيد "بلكَرانه".. عمدة سابق لمدينة سان لويس فحاول تهدئته: أفهمه أنه لم يكن على صوابٍ في امتناعه عن سحب جُثة فرسه عند أول طلبٍ.. هذا بالإضافة إلى أنه لا يليق به أن يغضب من أشياء تافهة أمام أوامر ضابط يظن أنه قام بواجبه بكل حزم و مسؤولية.. و كان من الأمر في النهاية أن اقتنع الشيخ بالرجوع إلى المركز.. و صافح الضابط.. و جعلا الحادثة في طي النسيان.. فهل كان ذلك النسيان حقيقيا عند إعلي ولد بوشارب..؟
عندما عاد إلى ذويه أخبرهم بأمر سجنه..
و هكذا اتفق أعمر، ابنه، و بعض أقاربه على الثأر له.. و وقع اختيارهم على المختار الذي كان أميرا شجاعا.. أقوى منهم..
فأين تكمن قوة المختار الذي يمثل أمامكم {الآن} و هو ضانٍ ضعيف..؟
المختار حفيد إعلي الكوري، ملك ترارزه.. و عند وفاة هذا الملك كان ابنه امحمد غِرا صغيرا بحيث لا يمكن إسناد ممارسة السلطة إليه.. و هكذا عُهِد بالملك إلى أعمر، أكبر أمراء ترارزه، فاعتلى العرش.. و عندما بلغ امحمد ولد إعلي الكوري أشُده طالب بمُلك والده الذي لم يعد أعمر يقبل التنازل عنه.. و هكذا دارت معارك داخلية، طويلة المدى و ضارية، كان امحمد خلالها، و هو المحارب المتمرس و الأمير المظلوم يحل بالسنغال المرة تلو الأخرى طالبا اللجوء.. كان ابنه المختار الماثل أمامنا اليوم يأتي برفقته فيحظيان بالاستقبال اللائق.. و ليس هذا فقط.. بل يُسَلمان، باستمرار، إكرامياتهما.. و هذه، لا شك، عناية سخية و هامة.. ليس من الممكن رد جميلها بعمل عدواني و جبان كهذا..
و في النهاية، و عندما قاد امحمد محاولة أخيرة ضد أعمر قُتِل امحمد غدرا على يد عدو كان هو نفسه قد أنقذه من الموت في السابق..
فصار مناصروه السابقون يتظاهرون بالإخلاص لمعتلي العرش الذي يحظى بالملك و المال..
و نشأ المختار يتيما.. فأقام فترة في ضواحي النهر.. حتى تم تنصيبه ملكا على مجموعة صغيرة من قبيلته في بلاد {الوالو}.. و كان يأتي دائما لقضاء أيام في سان لويس.. فيستقبل من طرف أحد السكان أو من طرف آخر.. فتعوَد على الأخلاق الفرنسية ..فتزيا بالزي الفرنسي.. و لبس بذلتنا و تكلم لغتنا.. و طرِب في حفلاتنا.. فصار الجميع ينظر إليه باعتباره، حقيقة، من أطفال السنغال.. كما وصفه ماليفوار عند وقوع الجريمة. بيد أنه كان يشي منذ ذلك العهد بشرِ غريزي.. و يقوم بتجاوزات عديدة..
و في النهاية اعترف هذا الشاب بسلطة الأمير الحالي في ترارزه محمد لحبيب نجل أعمر.. و التحق بقبيله.. حيث استُقبِل، بكل فرح، من قِبل أصدقاء والده الذي جعلوا منه قائد معارضة الأمير الحالي..
... فمنحوه قوة حقيقية و إن كانت تلك القوة قد وُضعت تحت أيادٍ سيئة مما كرس خطورتها..
و مع أنه كان للأمير محمد لحبيب أبناء و إخوة تمْكنهم خلافته في الإمارة.. فإن المختار، وريث الأمراء القدامى، كان يعتبر نفسه و تعتبره طائفة عريضة من القبيلة ولي العهد المفترض لهذا العرش الذي سُلب من والده على يد الملك الحالي لترارزه..
تلكم هي، سادتي، القوة الحقيقية للمختار.. و يمكنكم من خلال ذلك أن تتفهموا ببساطة كيف أن رجالا يرمون إلى أن ينتقموا انتقاما خاصا يريدون البحث عنه ليدفعوا به، بوصفه قائدا ساميا، لإعلان الحرب فجأة ضد السنغال.. فجعلوا منه بديلا يعولون عليه للوقوف أمام قوانيننا التي هي أشد صرامة و صدقية .. و لا يمكن تجاوزها.. كقوانينهم...
و لكن.. لماذا قبِل المختار هذه المهمة القذرة التي أقحم فيها.. خاصة أنه لم تكن له مصلحة شخصية في الانتقام لإعلي { ول بوشارب}؟
{ الإجابة على هذا السؤال} تكمن، سادتي، في طموح المختار و تطلعه إلى الاستيلاء على العرش.. و لكي يمتلك امتيازاتٍ تُخوله الوصول إلى أشياء أهم.. مما دفعه إلى تصرفات متهورة.. لم تُمْل عليه إلا خدْعات بائسة {تمثلت} في اغتيال صديق { والده} من أجل إضرام حرب بين السنغال و ترارزه، إن حالفه الحظ في ذلك فهي فرصة كي يستعيد عرش أسلافه..
هذا هو دافع الانتقام الذي ينظر له آخرون و يسندون تنفيذه إلى المختار..
إنها مصالح سُلطوية و طموح يُبحث عنه بمغامرات لا تليق بشخصية شريفة..
ذلكم، سادتي، هو السبب الحقيقي للجريمة التي نتابع صاحبها..
هذا هو، حسب تصورنا، ما جعل من المختار همجيا قاتلا بدلا من أن يكون بطلا..
و هو ما يستدعي اليوم كل الحرص على توقيفه.
لقد كنتم شاهدين، سادتي، على مستوى انحطاط القيم الذي تكرسه هذه التصرفات التي سردتُ لكم تفاصيلها..
إن كل هذا الشعب الذي يبدو اليوم مسالما, و الذي ينتظر بكل ثقة الحكمَ الذي ستصدرونه.. كل هذا الشعب على استعداد للخروج من أجل الانتقام لموت المسكين ماليفوار.. و لا بد من منعهم من ذلك لأن حربا، و أكررها، بين ملك ترارزه و السنغال هي بالضبط ما يصبو إليه المختار بكل ما أوتي من دهاء و ينبغي أن نكون حريصين كل الحرص على الوقوف ضد رغبته تلك..
لقد توبع هجوم الأمير و المتمالئين معه باعتباره جريمة سطحية.. و عندما طلبنا من أمير ترارزه {محمد لحبيب} تسليمهم أو طردهم من أرضه و تجريدهم من امتيازاتهم و حقوقهم لديه.. أبدى عجزه الحقيقي أو المفترض عن ذلك.. بينما منع والي السنغال المسمى المختار من إكرامياته..
و ستسمعون، سادتي، حول هذه النقطة و عن تفاصيل هامة قراءة لشهادة مكتوبة من الوالي نفسه جوابا على الأسئلة التي نظن أنه ينبغي طرحها على ممثل الملك هذا.. و هي في شكل صيغها اللائقة و المنصوص عليها للمستعمرات الأخرى.. و التي ينبغي أن تطبق في السنغال..
و المختار مُدرج بالفعل في قوائم ترارزه.. و لا نريد استباق الأحداث لنطلعكم على السبب منذ الآن.. ولكن قلقله من فقدان إكرامياته، و هو آخر دوحة عرش أسلافه.. و رغبته الجامحة في الحصول على هذه الوسيلة الوحيدة لضمان قوته و إشباع رغباته دفعته إلى المجيء لسان لويس لكي يمثل أمام الوالي و يطالب باسترجاعها...
خاطب المختار الوالي بعبارات نابية.. و سيحكم المجلس في ما يخص خروجها عن حدود اللباقة.. و ذلك بعد قراءة الرسالة التالية المكتوبة باللغة العربية و التي ترجمها السيد " آلانه"، عدة سان لويس.. { تجدونها في الصفحتين 1 و 2...}..
إن رسالة مثل هذه لا يخفي فيها المتهم تهديده المُغشَى بالعبارات الخطابية المعسولة لتجعل المرء يقلع عن كل مظاهر اللباقة مع صاحبها.. و هو ما تم بالفعل...
و عندما فوجئ { المختار} في حي "كِت إندر" سلمَ نفسه طواعية للفرقة التي جاءت لتوقيفه.. و صرح أنه لم يأت إلا لكي يبرئ نفسه من الجريمة التي ألصقت به.. و يبحث عن إكرامياته..
و ستستمعون، بعد قليل، إلى شهادة الشهود على كل هذه الوقائع التي تحدثنا عنها آنفا..
أيها السادة.. إن تكييف الملف الذي قام به رئيس المحكمة الابتدائية قاد إلى ظروف و مستلزمات ستساعدكم على الحكم { في هذه القضية}..
ف{هذا} المتهم.. إما أن رجالا يعرفون قوانيننا استطاعوا أن يجدوا له منفذا كي يسدوا له نصائح عندما كان، افتراضا، في الخفاء..
و إما أن حذره و دهاءه الطبيعيين خولاه وسيلة للاتصال بقضاته.. و أخيرا.. إما أنه، و إن كان ذلك حقا، في اعتقادي، أنه أعلن منذ بداية المحاكمة أن سنه لا تتجاوز سبع عشرة سنة.. و قام، اللحظة، بتأكيد ذلك أمامكم.. و هذا يُفضي إلى أنه لم يتجاوز السادسة عشرة عند ارتكاب الجريمة.. و بناء عليه.. فإذا قُبل ذلك عند المجلس.. فإنه سيثير إشكالية اختصاص المحكمة..
و كما تعلمون فإن المتهم الذي لا يتجاوز ست عشرة سنة، و المرتكب لجريمة تقتضي عقوبة الإعدام لا يدان في قوانيننا و كما تعلمون فإن المتهم الذي لا يتجاوز ست عشرة سنة، و المرتكب لجريمة تقتضي عقوبة الإعدام لا يدان في قوانيننا إلا بعقوبات تأديبية بسيطة..
و خدمة للمجتمع الذي نمثله.. و للحق و للعدالة.. و من أجل تكييف هذه القضية، فإننا سنلزم المختار، إذا تمادى في القول إن عمره، بالفعل، 17 سنة، فإذا أجاب بالإيجاب على ذلك.. ألزمناه أن يحضر شهودا لكي يسمعوكم شهادتهم و يدلوا بحججهم على ذلك..
و من جانبنا فقد استدعينا شهودا من أجل إثبات العكس..
بقي لنا الآن أن نلتمس من المحكمة أن تأمر بإجراء هذا التحقيق أمامها قبل الاستماع للشهود الآخرين.. و تُقر نتائجه و تلحقها بوصفها مُلحقاتٍ بالملف الأصلي للمحكمة الجنائية لكي يبت في ذلك خلال جلسة واحدة..
و لكي لا يخامركم شك، أيها السادة، في حقنا أن نوجه لكم ملتمسات، و في اختصاص المحكمة الجنائية في قضايا الدولة.. اسمحوا لنا أن نطلعكم على ما نص عليه القانون الفرنسي في هذه النقطة..
تنص المادة 46 من المسطرة المدنية على ما يلي:
"إذا لم يوجد سجل أو ضاع السجل فإن الدليل يؤخذ من الأسرة أو من الشهود.. و في هذه الحالة فإن عقود الزواج و الميلاد و الوفاة... تثبت بالتصريحات و الوثائق الصادرة عن الآباء أو الأمهات.. و مثلهما في ذلك الشهود".
و إذا كان هذا الدليل مسموحا به في فرنسا فإنه من المناسب اعتماده من طرف الأجانب الذين لم تصلهم،قط، المدنية الحديثة
... فهذه الشعوب لا تؤكد نسبها إلا بتأكيد أواصرها التي لا جدال فيها...
يقول العالم " مارلين" في كلمة "عمر" من موسوعته:
"... و لكن الجهات المعنية و حتى القطاع العمومي.. يسمح لها، حسب الظروف، أن تدحض هذه البراهين بالأدلة و بشهود آخرين.."
لنفتح الآن المجلد 16 من مجموعة {سيري} الجزء الأول.. ص59 .. لنقرأ فيها:
"... تكون قضايا الحالة المدنية من اختصاص المحكمة الجنائية عندما تُقدم بوصفها عنصرا من الحكم بوجود فداحة الجريمة.."
هكذا حكمت المحكمة الخاصة بروما و أكدت حكمها محكمة الاستئناف على قرارات المدعي العام { مارلين}..." انظر تلك القرارات و الأحكام في المجموعة المذكورة أعلاه..."
أيها السادة:
لقد كانت محكمة روما تحاكم لدى المحكمة الجنائية بدون محلفين، تماما مثل محكمة الاستئناف بالسنغال.. و الطريقة التي كانت تقدم بها أمامها قضايا الحوادث من حيث التكييف، بدون شك، هي نفسها التي تقدم بها أمامكم قضايا السن القانونية .. و من هنا فإن منطوق القرار سيكون واحدا.. هذا إذا قبلت المحكمة ذلك..
فإذا افترضنا أن المسمى المختار المتهم بالقتل العمد مع سبق الإصرار لا تتجاوز سنه الآن 17 سنة، أي أن عمره عند ارتكاب الجريمة لم يكن يصل 16 سنة.. فإن ثبتت تلك السن له فإنه ستطرح قضية الاختصاص إذا سلمنا بصدقية تلك السن له.. و عند ذلك فإن المتهم سيحكم عليه بأحكام تأديبية بسيطة.. و إذا افترضنا العكس فإن المتهم لن يحكم عليه بأي عقوبة..
و اعتمادا على المادة 46 من المسطرة المدنية، و باعتبارها من اختصاص المحكمة الجنائية عندما تؤخذ باعتبارها عنصرا من عناصر القرار حول فداحة الجريمة.. و من هنا يلزم الاستماع إلى الشهود لصالح المتهم و النيابة العامة من أجل إثبات دليل السن و أن يُستمع في هذه الجلسة حول قضايا الحالة المدنية.. و إضافة ذلك باعتباره ملحقا بالملف الأصلي من أجل عقد جلسة واحدة دون اللجوء إلى الاستئناف..
و سيعلن الدفاع حول هذه النقطة رجوعه إلى بصيرة القضاة..
و المجلس سيعلن حكمه طبقا لقرارات الإدارة العمومية..
و قد تم الاستماع إلى ما يقدر بثلاثين شاهدا حول إشكالية السن.. و من هؤلاء الشهود من كان لصالح المتهم.. و قد أجمع هؤلاء على أنهم سمعوا من بعض البيضان و من محمد نفسه {والد المتهم} أن المختار ولد بفترة وجيزة قبل معركة " إنتيمركاي" التي كانت سنة 1816 .. و لكن المتهم نفسه يُقر أنه عندما هاجر والده إلى " إدوعيش" أي حوالي 1819 .. بأنه رافقه ممتطيا جملا و مدعوما بسواعد أمه و أنه كان له في تلك الفترة شقيق و شقيقة أصغر منه.. و أن سنتين على الأقل هما الفاصل العمري بين الأطفال الثلاثة...
في حين صرح شهود آخرون أنه منذ سنة 1822 عندما تعرفوا على المختار لأول مرة..تابعوا تقدم سنه و أنه كان عمره في تلك الفترة ما بين العاشرة و الثانية عشرة من العمُر.. مما يفرض أن عمره الآن لا يقل عن 20 أو 22 سنة..
كما استُمع إلى شهود آخرين حول أصل التهمة.. و رد المختار على شهاداتهم البينة بأنه جاء إلى مسرح الجريمة مع القتلة.. و لكن ليصرفهم عن ارتكاب الجرائم..
و اعترف أنه أطلق النار و لكنه أطلقها في الهواء .. متخذا منها إنذارا بالخطر يوجهه إلى ماليفوار...
الكلمة الآن للسيد المحامي العام الذي بدأ بتقديم ملاحظات قبل أن يفصل الاتهامات الموجهة ضد المتهم قائلا:
" أيها السادة:
لم تصل أية مرافعة في المستعمرات إلى المستوى الذي وصلت إليه هذه المرافعة.. و لذلك فإنه من الجوهري أن نجعلها في مستوى الانضباط الممكن من أجل تأسيس القانون على قواعد مضبوطة في المستقبل..
أيها السادة:
إنكم لا تصدرون في المحاكمات الجنائية عن أي قانون مضبوط للقضايا الجنائية..
فما فتئ الوزير يأمر بأن نقترب، قدر الإمكان، من المسطرة الجنائية الفرنسية.. و على الخصوص بالرجوع إلى الأشكال المعتمدة في المستعمرات الأخرى..فحتى في فرنسا التي تنطق فيها المحاكم في قضايا النوازل.. فإنه ما زالت تُطرح لها، في البداية هذه الإشكالات...
و يحق للمتهم و لوكيل النيابة أن يعترضا على ذلك.. و تُقرأ الحلول في الجلسة.. و تطالب النيابة العامة بالحكم ثم تنسحب المحكمة للتداول.. و تعود للنطق بذلك القرار..
و في المستعمرات الأخرى التي لا يوجد فيها إلا مجالس بدون محاكم و مع ذلك تضم مجالسها 7 قضاة مثل مجلس الاستئناف في السنغال تطبق هذه الإجراءات البسيطة.. و لا فرق بينها مع الأخرى سوى أن المحكمة تنسحب إلى قاعة مداولاتها من أجل طرح الإشكالات الناتجة عن النقاش.. و تعود لتقرأها في جلسة علنية.. و ليس هذا فقط.... فالأمر القانوني بتاريخ 7 يناير 1822 حول النظام القضائي في السنغال لا يحدد النصاب القانوني الذي تتخذ به الأغلبية في إعلان الإدانة..
و المادة 14 تنص، فعلا، على أنه في حالة تعادل الأصوات فإن رأي المتهم يكون مرجِحا..و لكن ذلك، حسب رأينا، لا يكون إلا في حالة عدم وجود أغلبية.. و إلا فإن الأغلبية البسيطة بإمكانها أن تدين.. هذا فضلا عن أن المتهم يمكنه أن يمثل أمام عدد زوجي من القضاة لا أن يمثل أمام عدد غير زوجي.. و هنا تسير الأمور لصالحه..لأنه في الحالة الأولى لا بد من صوتين من أجل إصدار حكم إيجابي في موضوع الإدانة..
هذا مع العلم أن النسخة القديمة من مسطرة المرافعات الجنائية تكرس أيضا هذا المبدأ العام.. أي أنه في حالة تصويت المحكمة فإن رأي المتهم مرجح.. علما أن 7 ضد 5 ليست كافية لإعلان الإدانة.. فكان من المفروض أن تنطق المحكمة ذاتها حول هذا الموضوع الواقعي.. و حول العدد المعلوم للمحلفين و القضاة المحدد للحل..
و أخيرا، سادتي، لا يمكن أن يوجد ترجيح إلا إذا كان العدد زوجيا.. فالأمر القانوني لم ينص إلا على هذه الحالة.. و يتم التعويل على حكمتكم و نباهتكم المعروفتين و خبرتكم القانونية في الحالة المنافية...
ونظن، نحن، أن الإدانة لا يمكن لها أن تعلن إلا بأغلبية صوتين على الأقل.. أي أكثر من 4 أصوات على 7 و 3 أصوات على 5 ... لكن دون تحديد عدد الأصوات التي يمكنها أن تقرَ القرار...
و يمكننا الاستئناس قانونيا بما يلي:
1 ـ المادة 344 من قانون المرافعات الجنائية في جزر الآنتيل و بوربونه و غويان..
2 ـ المادة 347 الجديدة من قانون المرافعات الجنائية الفرنسية..
3 ـ رأي مجلس الدولة في 30 و 27 من السنة الثانية عشرة... الملخص كما يلي في الجدول الأبجدي في مجموع نوازل {سيري}..عند لفظ " لجنة عسكرية"..
"... إن مرافعات اللجنة العسكرية الخاصة لا تُتخذ إلا بالأغلبية البسيطة من الأصوات فلا بد، على الأقل، من أكثر من صوتين للإدانة وفقا للقانون 13 من العام الخامس ... في ما يخص لجان الحرب.."
هذا، أيها السادة، مع العلم أنه ألا يمكنكم أن تفكروا أن نية محرر الأمر القانوني بتاريخ 7 يناير 1822 كان يقتضي أن مجلس الاستئناف في السنغال يوفر أقل من الضمانات و يترك أقل من الحظ للمتهم أمام اللجان العسكرية للجمهورية و الامبراطورية؟
كلا... إنه لا ينبغي أن يكون ذلك مدار شك لديكم....
... و بالمناسبة.. وانطلاقا من المادة 14 من الأمر القانوني بتاريخ 7 يناير 1822 المتعلق بالنظام القضائي في السنغال.. و استئناسا بالمادتين 336 و 334 من المسطرة الجنائية المعمول بها في المستعمرات الأخرى نستخلص أنه من المناسب للمحكمة أن تساير القوانين السابقة و تخضع في مداولاتها لأشكال و شروط الأغلبية المنصوص عليها في هذه المواد القانونية... مع العلم أنها لم تحدد بصورة دقيقة عدد الأصوات التي يتطلبها القرار..
و قد أعلن الدفاع، حول هذه النقطة بالذات اعتماده على الترتيبات التي أخذت بها الإدارة العمومية..
و هكذا يعلن المجلس عن انسحابه لغرض المداولات ثم يعود مباشرة ليعلن قراره على النحو التالي:
" إن المجلس... إلخ.. اعتمادا على سلطاته في تغيير نظام المستعمرة حول النقاط و القضايا و الترتيبات الصادرة عن الإدارة العمومية المقررة و المسيرة بالنظام... يصرح بأنه سيتجاوز الترتيبات المذكورة.. و هذا القرار يشمل كل من حضروه و يطبق عليهم.."
و الآن نصل إلى مرافعات المحامي العام المدافع عن المختار.. فقد قال الأستاذ كِرانبونه، مفتش المستعمرة و هو المحامي العام:
أيها السادة:
لقد نطقت شهادة الرجال.. ذلك الصدى المتغير.. و المتسم بالعفوية و النأي عن الخوف و الطمع..
و عموما فإنه من هذه الشهادات المختلفة ينبغي أن تتولد الحقيقة القانونية.. التي هي صوت رجال نزهاء و قضاة محايدين..
أيها المحلفون و القضاة.. إن واجباتكم في هذه المحاكمة الجنائية ستنعقد اليوم عن طريق قضاء مدني صار يوما بعد يوم مألوفا عندكم..
و إنكم ستحكمون في قضية مدنية و قضية جنائية.. ستقررون في تاريخ ميلاد رجل بالرجوع إلى سلطة تقدرية أو تقررون بقراراتكم الشخصية الوقت غير المضبوط لميلاده..
اسمحوا لي أن أقول لكم إنه لكي تؤدوا، بجدارة، المهمة المعينة المسندة إليكم فإننا سنتابعكم في خضم مداولاتكم و في النقاشات التي قد تكون تارة دقيقة و لكنها أساسية.. و ستلخص حل الإشكالات الناتجة عن هذا النقاش الهام..
فهل تبين مظهر الجريمة في مقتل جاك ماليفوار؟
فهل تبين مظهر الجريمة في مقتل مافال و جزء من طاقمه و أسْر جزء آخر و نهب سفينته و إغراقها..؟
فإن أي شك لا يخامر حول هذه القضية..
و قد أجمع الشهود، سواء لصالح أو ضد المتهم على هذه الجريمة.. دون أن يدينوه..
هل إن المكان الذي وقعت فيه الجرائم محدد.. و هل هو تابع لدائرتكم القضائية؟
إن هنالك كثيرا مما يدفع إلى الشك في هذا..
لدينا، بالفعل، النص الأصلي لمعاهدة موقعة بين أعمر، ملك ترارزه، بتاريخ 7 يناير1822 و هي تحوي من بين ترتيبات أخرى ما نصه:
" المادة 5 : يُسمح للفرنسيين أن يبسطوا نفوذهم على الضفة اليمنى للنهر من سان لويس حتى قبالة "كِايه" و كل الأراضي الواقعة بين هاتين البلدتين تمنح لهم بملكية تامة.." بينما، و باعتبار إجماع الشهود و المتهم، الجرائم وقعت قبالة ريشارتول و " لافاي"..على الضفة اليمنى للنهر.. أي في المنطقة المعترف بها بأنها جزء من التراب الفرنسي.. التي استفاد أمراء ترارزه، في مقابل منحها من أجمل إكرامياتهم.. و لم يكن من المعتاد أن هذه المعاهدات المحلية تُنشر رسميا في السنغال.. مثل العقود الأخرى التي لها قوة القانون.. بيد أنه لم يوقع أي منها قبل أن يجر إلى كثير من النقاش و أن يشعر به كل الوطن.. خاصة ما يتعلق منه بالإكراميات في مقابل الأقاليم المذكورة أعلاه..
فلا يهم أن الفرنسيين لم ينشئوا بعدُ مؤسسات على الضفة اليمنى للنهر.. فالمادة 5 من المعاهدة تنصُ على أن ذلك يحق لهم.. و لكن ذلك بشرط، و شرط فقط، أن تكون المنشأة ضمن المساحة المعترف بها منذ 7 يونيو 1821 بأنها أراض فرنسية..
و قد تم الاستلام بتقديم الوثائق إلى الجهتين المتعاقدتين..
و لسنا نشك، سادتي، أن القرار الذي ستعلنونه سيؤكد في الحال هذا الاستلام بأمثل طريقة و أعرقها في الوقت ذاته..
اِسمحوا لنا الآن أن نتوجه إلى هذا الجمهور الذي يتوافد على جلستكم و نخاطبه باسم الملك لنقول له:
"أيها البيضان.. أيها السنغاليون..هؤلاء هم قضاة المختار الطبيعيون لان الجريمة التهم فيها نفذت على أرض تابعة للسنغال.. و عليه فإن القرارات التي ستصدرها هذه المحكمة و العقوبات التي ستحكم بها يستوي فيها الأجانب و الفرنسيون.
و لكن لتعلموا جيدا أنه إذا أصيب طفلٌ فرنسي أو سنغالي على أرضية أي مكان من ضفاف إفريقيا فإن قوانيننا تحتفظ للمجرمين بمحاكمات أسرع و عقوبات أقسى.. فليطمئن المسالمون و ليهدأ المضطربون..
هل إن المتهم مذنب في حالة أنه محرض و متمالئ في الاغتيال الذي وقع في نهاية يوليو 1831 على شخص جاك ماليفوار؟
هل هو مذنب بظرف سبق الإصرار الذي اتصف به الاغتيال؟
لنفحص الآن، سادتي، اعترافات المتهم و تصريحات الشهود حول هذا الموضوع..
فالمختار يعترف بأنه أتى إلى مسرح الجريمة برفقة عدة فرسان.. و يعترف أنه طلب من ماليفوار بعض التبغ و أن يعطيه غطاءه..و يعترف حتى أنه أطلق النار.. و لكنه يقول: "... لم آت مع القتلة إلا لتثبيطهم عن مشروعهم.. و قبل ذلك منعتهم من إحداث سوء في المراسي... و لم أرافقهم على طول النهر إلا لتجنب الاحتكاك بأي أحد.. و عندما وصلنا قبالة ريشارتول شاهدنا جاك ماليفوار على الشاطئ .. كان صديق والدي.. اضطربتُ و حثثتُ الخطا.. و كنتُ أول واصلٍ إليه طالبا منه بعض التبغ و غطاءه..و أومأتُ إليه إيماءاتٍ يبدو أنه لم يفهما.. عند ذلك أطلقتُ النار من اجل إشعاره بالخطر الذي يتهدده ... و لكن.. فات الأوان..فقد أطلق الثلاثة الآخرون النار... و سقط ماليفوار على جانب الماء.."
و في هذا السياق يُجمع الشهود على أن واحدا فقط من الفرسان هو من أطلق النار و ذلك تنفيذا لأوامر المختار..
و بالفعل، سادتي، فإن تصريح المتهم ليس منافيا للصواب.. و إذا كنتم لا تعرفون خُلُقه، جيدا، فيمكنكم أن تتفاجأوا ... فالمختار، هذا، الذي يدعي أنه أُرغِم على الالتحاق بالقتلة.. كرر عليكم عدة مراتٍ، و بكل اعتزازٍ، أنه أقوى منهم جميعا.. و لم يذكر أي مظهر عنف مورس عليه من أجل إرغامه على مرافقة القتلة.. فهذا الإرغام لا يصِح عقلا.. و لا يشكل تسويغا مقبولا و لا اعتذارا.. إلا إذا كان عبارة عن سلوكٍ يريد المختار أن يتظاهر به.. فهو يريد، دائما، إقناع المحكمة أن دافع القتل كان لغرض الانتقام الشخصي .. و من أجل إضرام حربٍ مُحرجة للملك محمد لحبيب.. ونحن نشك، جازمين، أن المختار الذي كان لديه هدفٌ أقرب من ذلك، و كان قويا، أنه سيغطي أو يتنزه عن الانتقام.. و إن كان أطلق النار في الهواء و من على منكبه من أجل إشعار ماليفوار بالخطر الذي يهدد حياته..
آه.. هذا، سادتي، يتجاوز حدود الدهاء و النفاق الطبيعيين.. حتى أنه يريد أن يقنعنا أن طلقة نارٍ من بندقيته، كان بالصدفة، طريقة للإنذار.. أما نحن فنعتبر ذلك وسيلة للقتل...
... لا شيء أقل شبها باللباقة من السلوك الذي تحدث عنه الشهود في طلب المتهم من ماليفوار أن يعطيه غطاءه.. و الذي لم يكن وديا لدرجة أنه أثار امرأة مسكينة.. و هذه بتصرفها الطبيعي في جنسها خاطبت ماليفوار قائلة:" أعطه غطاءك.. ألا ترى أنه يبحث عن سبب لكي يُحدث فتنة... و لكي يقتلك..؟" و رميه وعاء الدخان بطريقة عنيفة و كان سُلِم له بكل سخاء.. و إيعاز المختار لمجموعته بقوله" أطلق النار" و جواب أعمر" أطلق أنت النار.. يا مختار"... و الطلقة النارية المسددة من المتهم.. و ليس ذلك من على المنكب.. و إنما من الأعلى إلى الأسفل.. في اتجاه خاصرة ماليفوار.. و البارود الذي أشعل النار في ثوب هذا الأخير .. و عبارة الدهشة التي ترددت على الفم الملائكي للضحية: " يا مختار.. لقد أضرمت فيَ النار.." و هذا الأمر الجديد بإطلاق النار و المنفذ لا من طرف الفرسان الثلاثة، كما قال المختار، و إنما من طرف أعمر.. و هو الوحيد الذي أصاب ماليفوار في رأسه.. و أخيرا الإصابات القاتلة التي وجدت في أجزاء الجسم التي أصابها المختار و التي اِعترضتها تميمة ماليفوار.. كل هذه الشهادات المنقولة منذ سبعة عشر شهرا من طرف شهود مبرزين و بدون اختلاف جوهري... ألا تبدو كافية لتؤلف أمام أعينكم لوحة واضحة و مخيفة للاستنارة..؟
و حقيقة.. فإن التكروري بابكار، التيرنو {المرابط}، المُبرز في الإشهاد.. و الذي غاب.. و لا تعرفون إلا شهادته الكتابية التي رسمها أمام قاضي التحقيق و صرح فيها أن المختار أطلق النار في الهواء.. و أنه لم يحضر مع الآخرين إلا لكفهم عن إحداث الشر.. و اتفق محمد البيضاني، رقيق المختار و محمد الآخر ، المولى.. معه على ذات الشهادة.. و لكنهم اتفقوا كلهم أنهم كانوا على بعد ما يناهز 100 خطوة عن مسرح الجريمة .. و كلهم مخلصو الود للمتهم..
فهذه الشهادة التي لم يمثل أصحابها ليكرروا الإدلاء بها أمامكم.. عندما تقارنوها بشهادة طاقم ماليفوار الذين كانوا على بعد خطوات فقط من المسرح .. و الذين رأوا كلهم و سمعوا التفاصيل الدقيقة للحدث.. و الذين ليس لهم هدف معين في إدانة المختار دون غيره { تجدون مصداقيتها}..
أما ما يخص البصيرة { أو سبق الإصرار} فلن نقول فيها بنت شفة ما دامت النقاشات قد أكدتها... و سيكون بإمكاننا القول في تصرف المتهم إن هنالك كمينا { كان منصوبا للضحية}.. فيكفينا أن نقرأ فقط المادتين 297 و 298 من قانون العقوبات اللتين تنصان على هذه الظروف الخطيرة.." انظر المادتين المذكورتين أعلاه"..
هل إن المتهم مذنب في التدبير و التمالؤ في القتل العمد على شخص مافال و رجال من طاقمه..؟ هذا فضلا عن السرقة و الجرائم الأخرى الناتجة عنها..
هل هو مذنب في ظرف سبق الإصرار الذي تتصف به عملية الاغتيال؟
بإمكاننا أن نقولها، سادتي، فإنه ليس لدينا ما يثبت هذه التهمة إلا افتراءات خطيرة و شهادة شخص واحد هو المسمى مابووي.. الذي صرح، بعد أدائه اليمين أمام القاضي أنه عند مهاجمة السفينة عاد المختار مع أعمر ولد بوشارب و البيضان الآخرين.. و لكنه كان منعزلا قليلا في الداخل.. و هو نفسه اعترف لكم أنه كان هناك.. هذا فضلا عن أن سمو مكانته و الإدارة التي قاد بها عملية اغتيال جاك ماليفوار و مروره في صباح ذلك اليوم أمام لافاي برفقة أعمر .. و أخيرا شهادة مابووي تبدو لنا دلائل واضحة على أن المختار كان هنا للسهر على تنفيذ أوامره... بقيت لنا بعض الشكوك حول التهمة في القضية الجنائية، و الشك، سادتي، قضية مقيتة.
فإذا أعلنتم، سادتي، أن المتهم مذنب فإنه لن تبقى، دائما، قضية سبق الإصرار مستبعدة..لأنه من الملاحظ أن كل الانتقام و كل الفوضى و كل الجرائم الممكنة كانت منْوية منذ فترة.. أي من اليوم الذي تم فيه سجن إعلي ولد بوشارب.. و هذا لا يحتاج إلى تسويغ..
و هكذا أنهينا، سادتي، فحص الجرائم المسجلة وتبقى الآن قضية الحق العام..فهل تحاكمون طفلا أو رجلا تاما، مرتكب جريمة منفذة بدون نية؟ أم جريمة مرتكبة بنية القتل العمد؟
و بصيغ أخرى.. فهل كان عمر المختار ست عشر سنة عند ارتكابه الجرائم المتهم بها؟
و إذا كان عمره أقلَ من ست عشرة سنة.. فهل تصرف دون أو مع سبق إصرار؟
ليس هنالك أي من الشهود المبرزين عندنا أو عند محامي المختار من حضر ميلاد المختار.. و لكن هنالك ما يستشف من الشهادات الأساسية التي أدلى بها الشهود في الملف أنه من الممكن أن يكون ميلاده إبان معركة { إنتيمركاي} التي كانت بين ترارزه و إدوعيش في بحر سنة 1816 مما يفرض أن يكون عمره الآن ست عشرة سنة و نصف السنة.. و عليه يكون عمره عند ارتكاب الجريمة لا يتجاوز خمس عشرة سنة فقط..
و قد رآه آحادٌ أبان المعركة المذكورة في حضن أمه و رآه آخر و هو يرضع ثدي أمه.. و هنالك آخر أعار أباه قالب سكرٍ لزوجته عند وضعها به..
هذه، أيها السادة، تحديدات دقيقة و الشهادات التي تدل عليها متفقة بامتياز.. و لكن كيف يمكننا أن نقتنع بها في داخلنا..؟
لأننا نعرف، بما لا يدع مجالا للشك كل ما يعرفه الناس هنا مثلنا.. فالشهود الذين أقسموا على أن يتكلموا دون خوف.. يظهر منهم بعض الغموض في هذا الجانب.. أو، على الأقل، إذا كانون لا يخشون شيئا اليوم فإنهم جعلوا من شهاداتهم وسيلة لتفادي نتائج صعبة المراس.. و سنقول إنهم أقسموا على أن يقولوا الحقيقة، كل الحقيقة، و لا شيء غير الحقيقة..
و لكننا نريد أن نتعامل مع هؤلاء الشهود بنوع ما من التصرف و الحذر.. و لا نقول لهم على ما ذا يدل عندنا ما يعنونه بكلمة " الحقيقة...
هنالك، سادتي، عند كثير من الناس، و في عديد الظروف، نوعان من الحقيقة:
ـ بعض من الحقيقة مطلق و إيجابي و يقال إنه ملموس..
ـ بعضٌ منها نسبي، تواضعي، وهمي.. و هو بالفعل مثالي..
و هكذا توجد أحداث تاريخية ذات حقيقة مطلقة .. بيد أنه من بين المؤرخين، و في جميع الأمم و في جميع المجتمعات.. وجد رجال اهتموا بمقاضاة في قضايا عمومية دون أن يحصلوا على تفويض في هذا الموضوع..
هؤلاء الرجال لديهم مبدأ أن الحقيقة تصير كذبا عندما تشكل نوعا من أنواع الخطر.. و لا يحتسبون أنهم يكذبون عندما يلفقون القضايا بطريقتهم الخاصة.. عندما يزكون ما يعتبرونه مطابقا للصالح العام و متفقا معه.. و هذه الحقيقة لا توجد سوى ذلك إلا في أهوائهم الشخصية و في تعاطفهم مع أنظمة معينة أو في حالة مخاوف خيالية.. و على العموم عندما تتداولها الأفواه و تنتقل من جيل إلى جيل.. ينتهي بها الأمر لتصبح غير قابلة للنقاش..
هذه أيضا، سادتي، حقيقة مطلقة.. و هي أن تكون خيِرا و فاضلا.. هنالك أشخاصٌ يجيبونكم على ذلك أن الحقيقة بالنسبة لهم هي السعادة و الغنى... و لن تُخرجوهم من هذه الحلقة المفرغة..
و في الأخير، و هذه حقيقة إيجابية و مطلقة تنيرها لنا الشمس.. و مع ذلك.. لا يخلو الأمر من أشخاص يريدون أن يجعلوكم تشكون في ضوء النهار عند الظهيرة..
فكل الشهود الذين أراد دفاع المتهم إثبات السن بشهادتهم ينتمون إلى إحدى هاتين الفئتين.. فمنهم من أخذ للحقيقة المصلحة العامة بمفهومها على طريقتهم.. و التي لا تتوفر فيهم صفة مناقشتها.. و منهم من اعتمد كثيرا على مصلحته الخاصة.. و أخيرا هنالك واحد.. وُجِد وحده.. و وحده فقط أمام قضية ذكرها وحده .. ينعدم فيها المنطق و تخلو من المعقولية لدرجة أننا لا نعرف كيف نصفها..
فالسيد آلانه، شقيق العمدة جوزيف، أراد أن يجعلكم تظنون أن المتهم المختار كان عمره سنة 1827 لا يتجاوز ثمان سنوات.. مما يجعله لا يتجاوز عمره ثلاث عشرة سنة في عام 1832 ...
فإذا كانت هذه مزحة أرادها ألانه.. فإنه كان ينبغي له أن يختار مكانها و زمانها..و الأشخاص الذين يتوجه إليهم بها..
فالشهود الذين استمعنا إليهم أدلوا بشهادات متناقضة.. تحدثوا بكثير من الاحتشام و الحذر.. حتى كان لا بد من طرح الأسئلة واحدا واحدا.. عسانا نحصل على كلمات قليلة منهم...
بينما كان شهود المختار يتكلمون تلقائيا و بثرثرة و استفاضة... فماذا يُستنتج من ذلك؟
... فهم أقوى تأثيرا من المختار.. الذي تعد أسرته أضعف ناصرا و أقل عددا من أسرتهم.. و لا تُقاس القوة لدى هذا الشعب بالسبق في الميلاد و إنما تقاس بالنفوذ و كثرة المناصرين..
فأمراء أولاد بوشارب الغاضبون من سجن أبيهم أصروا على الانتقام له.. و من هنا كونوا خطة للانتقام من كل {من التقوه} من " البيض".. { و يطلق البيضان مصطلح البيض على كل سكان السنغال}.. و هكذا خرجوا من أجل تنفيذ مشروعهم الكارثي.. و شاءت الأقدار أن يلتقوا المختار و هو في نزهة خارج حيِه.. فتحدثوا معه .. و اقترحوا عليه أن يرافقهم..و لكنه رفض عندما عرف هدفهم.. { فأرغموه على ذلك} حتى خرج معهم مُكرها لا بطلا..
استطاع المختار أن يبعد مرافقيه من المراسي التي يبسط نفوذه عليها.. فسلكوا ضفة النهر.. و كان يحتسب أنهم لن يلقوا أحدا.. و لكنه لم يكن على صواب.. فجأة.. شاهدوا باخرة تلقي مرساها.. فتقدم إليها المختار.. من أجل إنقاذ صاحبها المحتمل.. فتبين أنه جاك ماليفوار.. و كان ماليفوار صديق والده..فحياه و طلب منه بعض التبغ و غطاء كان معه.. و في تلك الأثناء كان يغمزه حتى ينسحب من المكان.. لم يفهمه ماليفوار.. عند ذلك سمع أبناء بوشارب، و هم خلفه، يحتجون على عدم إطلاقه النار.. فأوعز إلى أحدهم أن أطلق النار... و هو ما أجاب عليه أحدهم بقوله: " أطلق أنت النار أولا..." و هذا ما أكده الشاهد " باتيي فاري" أمام المحكمة.. و هي شهادة لها من الأهمية ما لا ينبغي أن يجعلها تفوت عليكم... عند ذلك كان المختار، الذي خشي على حياته، مُرغما على إطلاق النار..
و لكنه وجه طلقته بطريقة لا يصيب بها ماليفوار.. فأطلق أحد أبناء بوشارب النار بعد ذلك و قتل ماليفوار..
هذا، سادتي، عن سرد الوقائع.. و سآخذ الآن في تحليلها...
لقد أجمع كل الشهود على أن المختار عندما أطلق النار على ماليفوار أدار دابته نصف دورة.. و لكن ليس ممكنا، حسب هذا الزعم، أنه كان قادرا على التسديد أثناء هذه الحركة...لأن الفارس لا بد له أن يجعل دابته في حالة استراحة من أجل أن يُسدد..{ لأنه في هذه الحالة لا بد من استخدام اليدين معا} .. و هو ما لا يتأتى له إذا كان الجواد متحركا... فإذا كنتَ متوقفا فإنه من المستحيل أن تخطئ رجلا على بعد خطوتين منك.. و إذا كان الجواد متحركا.. فإن المختار لا يستطيع أن يسدد.. و في الحالتين فإن المتهم لم تكن لديه نية قتل ماليفوار الذي كان على مسافة قريبة منه.. و لأن الرمية الثانية التي كانت على أبعد بخطوات من رمية المختار هي التي أصابت ماليفوار... و هي طلقة ولد بوشارب...
و ردا على ما قاله الاتهام... كيف تتصورون أن تميمة كان ماليفوار يحملها تحطمت و تتمزق ثيابه الداخلية بمفعول طلقة نار؟ فأقول إن وسائل الإقناع ،هنا، هزيلة.. فالتميمة و الثياب الخارجية لم تكن بادية.. فليس من المنطقي أن نؤكد أن هذا التمزيق كان بمفعول طلقة نار.. أو لسببٍ آخر.. و تعرفون جيدا أن ذات النتائج قد تَحدث لأسباب أخرى مختلفة...
فكيف لهؤلاء الشهود المصابين بالرهبة القوية و الذين صرحوا بذلك، و هم من شاهدوا ما حدث أمام أعينهم.. كيف لهم أن يشهدوا على تكسير التميمة و تمزيق الثياب؟ فشهادتهم لا يمكن أن تكون لصالح الادعاء... و هلا شهدوا على الأحداث الأخرى التي جرت من قبلً؟ فكيف أغضى الشهود عن ذلك أم كيف نسوه؟ قد أقبل هذا القول مؤقتا.. و لكن.. هل جاءت الطلقة من قُبُلٍ أو من جانبٍ؟ فليس من المعقول أن تبطل طلقة نار من هذه المسافة بمفعول تميمة معلقة على الصدر أو على البطن.. و تخترق اللحم، بالضرورة.. و إذا كانت من الجانب فإن الطلقة التي كسرت التميمة لم تُلامس الجسد.. و التميمة التي اتخذت اتجاه الرمية لم تصطدم بالجسم أو تحدث آفة فيه.. إذا.. فلا يمكن أن يوجد انتفاخ أو احتراق، كما يزعم الشهود... و هكذا، سادتي، فوسيلة الإقناع غير موجودة أو هي، على الأقل، مشكوك فيها...
مع العلم أنه إذا وجد شك فلا سماح بالخطإ.. لأن القانون ينص على أن الشك ينقلب يقينا لصالح المتهم... و ليس من حقنا أن نكون أقسى من القانون...
آمل أن أكون قد أقنعتكم أن المختار بريء من نية القتل التي يتهم بها.. و التي يقال، بدون جدوى، إنها نية ظاهرة... فهل نسيتم أن المختار لم يكن له شيء ينتقم له أو شخص ينتقم له.. و أنه لم يكن مدفوعا للقتل بأمل إحداث حربٍ لكي يستعيد ملكه.. لأنه لا هدف له في حرب مع أمراء أقوى منه.. و لهم مناصرون أكثر من مناصريه... و لا هدف له في عزل مَلك هو وريثه من أجل الاستيلاء على مُلْك فقده.. لأن أبناء بوشارب المنتصرين يريدون الاحتفاظ بالملك لأحدهم.. و هذا يبرهن على أن المختار إذا كان حضر مقتل ماليفوار فهو مدفوع بالقوة.. و لكنها قوة معنوية.. و هذه تفوق القوة المادية...
و أن هذه الأفعال خارجة عن نيته.. و لكنها جاءت بدافع هذه القوة المعنوية.. و أنه ما دامت النية مفقودة فليست هنالك جريمة.. و أتجاوز الآن إلى التهمة الثانية و هي مهاجمة سفينة مافال.. و الذي تلته جريمة قتل.. لقد فحصتُ بدون جدوى الإشهاد المكتوب و أصغيت بانتباه للشهود الذين صرحوا أمامكم.. و ما زلتُ أتساءل هل يمكن أن يتهم المختار في هذه القضية...؟
ما ذا؟ أيها السادة.. ليس هنالك أي شاهد أقر بمعرفة المختار.. و لا أي شاهد أقر أنه رآه... و إلا فإنني نسيتُ: ليس هنالك شاهد واحد.. و لا شاهد واحد فقط.. لأنه لم يحضر.. و بالتالي فلا تمكننا مواجهته مع المتهم: قال إنه سمع لدى البيضان قولهم إن المختار كان حاضرا.. و بالتالي فإن أبناء بوشارب سيكونون وحدهم المسؤولين عن هذه الجرائم التي تعود إلى دافع انتقامهم... و مع ذلك يريدون أن يكون المختار مذنبا فيها... فلا بد من براهين.. و براهين واضحة أمام العدالة.. فإذا كانت الافتراضات تقوم مقام الحجج فأين يكون الضمان للفرد... ألا نرتجف { خوفا} كل لحظة لوجود قرينة بسيطة و غير صادقة تجرنا إلى قفص الاتهام... من أجل أن ندان إدانة {لأسبابٍ} واهية...
لا.. يا سادتي، فليس ذلك و لن يكون ذلك ما أراده المُشرِع.. بل أراد على العكس أن تكون هنالك براهين واضحة و دقيقة من أجل إدانة المتهم.. أراد المشرع أن يكون القانون حاميا للمتهم.. و ألا يكون اعتباطيا بالنسبة له.. و أن يجد فيه ملجأ حتى في أقسى حالاته...
إنكم لاحظتم، مثلي، أن المختار لم يكن و لن يكون من بين مرتكبي الجريمة التي يتهم بها.. و أنه إذا كان من بين مرتكبيها فليس هو، على الأقل، المدبرَ لها... لأنه، و كان ليَ الشرف أن أقولها لكم من قبلُ، كان مدفوعا بالعنف المعنوي الممارس عليه من قِبلِ أبناء بوشارب فلم يحضر إلا بدافع الدفاع عن النفس.. و من أجل التخلص من التهديدات التي توجه له.. و هكذا فإن أبناء بوشارب هم وحدهم المسؤولون عن مقتل مافال و عن مقتل ماليفوار.. و هم وحدهم من قاموا بالجرائم.. و هم وحدهم من يعاقبون عليها...
و الآن، أيها السادة، أصل إلى إشكالية السن..و أبدأُ من ذلك بفحص شهادات الشهود... فالشهود الذين قدمهم المتهم، كانون كلهم، باستثناء اثنين مجمعين أنهم سمعوا من امحمد ولد إعلي الكوري أو من وزيره آليزو أو لدى{ رواد} المراسي أن المختار ولد في ذات السنة التي كانت فيها معركة انتيمركاي... و هي التي دارت رحاها سنة 1816 .. فقد كان منهم الإجماع على هذه النقطة..
و من بين الثلاثة الآخرين أحدهم، و هو بيير موسى الذي صرح أنه في شهر يونيو من سنة 1816 كان المختار لا يزال رضيع ثدي أمه.. و البيضانيان الآخران أحمد و محمدا: فقد صرح أحدهما أن المختار وُلِد بشهر واحد قبل معركة انتيمركاي.. و أنه رآه عند ذلك.. و صرح الآخر أنه رآه في ذات الفترة و كان، بالكاد، قد وُلد.. فهذه الشهادات تبدو لي حاسمة.. أيها السادة، و تبدو الشهادات المعاكسة لها و التي تعتمد عليها النيابة واهية أمامها..
و بالفعل.. فمن بين الخمسة عشر شاهدا هنالك تسعة لم يحددوا أية حادثة.. و لم يشهدوا إلا على السن التي يظهر لهم أنها كانت للمتهم في مراحل مختلفة من رؤيتهم له.. مما يجعل عمره اليوم ما بين 18 و 20 سنة.. بينما أفاد شهود ستة آخرون أن سنه كانت تبدو لهم في ذات الفترة أصغر من ذلك..
و انطلاقا من هذه الشهادات، سادتي، أظن، جازما، أن المختار وُلد في السنة التي كانت فيها معركة انتيمركاي التي كانت سنة 1816 .. و إن كان ذلك في الشهر الأول من هذه السنة فإنه لم يبلغ حتى الآن سبع عشرة سنة.. أي أنه في الفترة التي وقعت فيها الجريمة { يوليو1831 } لم يكن عمره يتجاوز 16 سنة.. فإذا كان هنالك اشتباه حول قامته أو ملامحه أو قضايا أخرى عالقة.. استمعوا إلى ما يقوله بهذا الشأن بعض مشاهير الأطباء...
استشهادات
................................................................................................................................................

فمن خلال ذلك.. ألا تبدو جميع أنواع الشك مدحوضة .. و ألم يبرهن على أن عمر المختار قد حُدِدَ بدقة..؟
و قد تتبعتُ التهم في كل تفاصيلها و أرجو أن أكون قد رسمتُ أمامكم، بطريقة أكيدة، براءة المتهم.. مع أنه إذا كانت بقيتْ عليَ دلائلُ لم أسُقها فإنني أعول فيها، دون وجلٍ، على حكمتكم مقتنعا أنها ستجد سبيلها إلى ضمائركم الحية.. و أن تتيقنوا أنه إذا كان هنالك نقص فإنما هو من النسيان الذي لا نية لي فيه..
و أشير أنه إذا قبِلت المحكمة ذلك قد أعود في ردي لأعوض ما فات من النقص و أجيب على ذلك بكل سرور..
... و لن أنتهي، أيها السادة، قبل أن أسوق بعض الملاحظات التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار في عملكم المنصف.. أريد أن أتحدث، أولا، عن هذه الرسالة التي لوحت بها النيابة العامة.. و التي وجهها المختار للوالي.. فالتهمة قد تكون سلاحا ذا حدين.. إذ يستغلها الادعاء كما يستغلها الدفاع.. و أود، هنا، أن نفكر بكامل المعقولية..
أيها السادة: ما فحوى هذه الرسالة؟ عن أي شعور تعبر؟ لا شيء إلا المسالمة.. فالكلام الذي تحويه ماهو سوى كلام رجل بريء يطالب بما تمنحه له المعاهدات { الثنائية} و هو الشيء الذي لم يكن يخطر على باله أنه سُحب منه.. فهو، هنا، يعتمد على السخاء الفرنسي.. و هو مدعومٌ بنصائح الملك محمد لحبيب.. و يطالب بما ساهم في فرضه { على الفرنسيين}.. و من هنا أنبهكم، أيها السادة، على سلوك هذا الملك حيال المختار.. المختار المقرب منه... فعندما كان محمد لحبيب عائدا من سان لويس مع ذويه، بعد أن وقَع تلك الاتفاقية الغريبة التي تعلن المختار قاتلا.. و تُجرده من لقبه.. و تطرده من وطنه.. التقى محمد لحبيب بالمختار عند مرسى { دار مانكورْ " مرسى إدولحاج " تكشكمبه"}.. و هنا أحاطه علما بما قام به من إجراءات ضده.. و في المقابل تعهد له أن إكرامياته ستمنح له مع إكرامياته هو الشخصية.. و طلب منه ألا يستعجل الأمر.. فاعتقد المختار، الذي لا يعرف النفاق، في كلام الملك.. و عاد بسلام ليسكن معه ، لأنه، أيها السادة، لم يكن، يوما، محتقرا.. و كان محببا في وسطه الاجتماعي.. فلم تفارق خيمته خيمة الملك مذ كانت تلك الأحداث....
و عندما لاحظ المختار انقطاع إكرامياته.. سأل مرة أخرى محمد لحبيب.. فأجابه بهدوئه { المعتاد}: " إذهب إلى سان لويس لتبحث عن إكرامياتك.. و إذا مُنعت منك فإني سأعلنها حربا على السنغال.." و هكذا.. توجه المختار، الواثق من ذلك الخطاب و الذي لا يخامره شكٌ في براءته، إلى {كِت إندر}.. و تعلمون البقية.. و لن أفيد شيئا إذا كررتها لكم..
و لكننا إذا توقفنا، هنيهة، أمام هذه الوقائع.. التي، هي للأسف، كاملة الصحة سنظن أننا لم نعُد نخشى تصرفا أكثر غدرا سيشتكي منه هذا المسكين الذي هو ضحية { خداع مقيت}..
و هذا الغدر و الخداع ليسا صادرين ضده إلا من ملكه.. الذي هو موضع كامل محبته و ثقته..
أقول، يا سادتي، إنه كان واثقا في ملكه.. و لم يكن يحتسب أبدا أنه مذنبٌ.. و كان بعيدا كل البعد من أن يفكر في محاكمة جنائية ضده... فلو لم يكن بريئا لما جاء ليسلم نفسه.. فليس من عادة المجرم أن يسلم نفسه للعدالة.. و لننظر إلى ما قام به عند وصوله إلى {كت إندر}..ففور دخوله إلى كوخ شيخ القرية أرسل مترجم الميناء إلى العمدة ليشعره بقدومه.. حتى إنه طلب منه بعض الثياب للكسوة في انتظار استراحته في الكوخ..
و فجأة.. دخل عليه بيضاني من أتباعه.. و الاضطراب بادٍ عليه ليقول له: " هنالك كثير من الجنود في سان لويس يستعدون للمجيء هنا لإلقاء القبض عليك.. فالهربَ.. الهربَ.. فلديك ما يكفي من الوقت لذلك.." فرد عليه المختار: " و لماذا أهرب.. فأنا لم آت شرا.. و الفرنسيون ليسوا ظلمة.. و أنا ليس لدي ما أشك فيه..."
فهذه ثقة كاملة في صفتنا الوطنية... ثقة ينبغي لكم أن تحكموا بها.. و لن أعلق عليها.. لأنني على يقين من أن ضمائركم الحية كفيلة بالمكافأة عليها..
و أتوقف هنا، أيها السادة، فمهمتي انتهت.. و بانتهائها تبدأ مهامكم أنتم.. و بعد لحظات..عند انسحابكم إلى قاعة المداولات ستقررون إن كان المتهم مذنبا.. و هل إنكم ستنزلون به كل خطورة القانون.. و هي الخطورة التي قال عنها الخالد " آغيسو" إنها أقوى قليلا من التساهل...
إن مهمتكم نبيلة.. لأنكم، فضلا عن واجباتكم بوصفكم قضاة هنالك تكليفكم الجسيم بوصفكم محلفين.. و هو التكليف الذي لا يطلب منكم القانون، بموجبه، تسويغ قناعتكم التي ترك لمعتقداتكم كيفية التصرف فيها.. فأنتم في مستوى هذه المصالح و لن تنقصكم الإرادة القوية التي تضمن لكم الانتصار{ للمظلوم}..
و عقبت النيابة و الدفاع على التوالي في جلسة ال 19 من ذات الشهر.. و بعد نقاش الإجراءات العملية أسدل الستار على النقاش و انسحبت المحكمة إلى قاعة المداولات لتخرج منها بعد أربع ساعات.. و قرأ رئيس المحكمة، بصوت لا يخلو من التأثر، قرار المحكمة الذي أدان المختار بحكم الإعدام..
و أعلن المجلس أن الحكم لا يقبل الاستئناف.. و قرر الوالي أنه ليس هنالك مجال للطعن في الحكم.. و لا مجال للعفو..
عند ذلك تم تنفيذ حكم الإعدام رميا بالرصاص في حق المختار فورا..
و في مساء ذلك اليوم غادر جميع البيضان الذين كانوا في سان لويس تلك الجزيرة التي اتخذت فيها إجرءات أمنية مشددة، تحسبا لأي عمل انتقامي محتمل، لمدة أسابيع عدة.. خاصة على شخوص القضاة الذين شاركوا في المحاكمة...