توفي اليوم الاثنين الأديب والشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح في العاصمة صنعاء عن عمر ناهز 85 عاما إثر صراع مع المرض.
يعد المقالح رائد القصيدة اليمنية المعاصرة، وتدين له أجيال من شعراء اليمن الشباب بالأبوة الرمزية، وهو يعد إلى جانب علي أحمد باكثير (1910-1969) من أبرز الأدباء اليمنيين الذي لهم حضور وحظوة كبيرة في الوطن العربي.
وكتب الشاعر الراحل أولى محاولاته وهو بعد طفل على ضفاف الحزن الشفيف، ونشرها باسم "ابن الشاطئ" غير مصدق أن ما يكتبه شعر.
ومن إيقاعات حزن عديدة جمع أيضا محاولاته الشعرية في ديوان سماه "دموع في الظلام" كانت أولى قصائد المقالح الموقعة باسمه وتحمل اسم "من أجل فلسطين" أواسط خمسينيات القرن الماضي، وظلت فلسطين وقضايا الأمة منذ ذلك التاريخ قبسا مستمرا في دواوينه الكثيرة، وبعد أن أصبح شاعرا وناقدا ومثقفا علما.
فقيد اليمن
ونعاه اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين في بيان قائلا إن "اليمن والأمة العربية والعالم خسروا بوفاة شاعر اليمن الكبير المقالح واحدا من أهم الأسماء الشعرية التي مثلت إضافة ورصيدا لقصيدة التفعيلة والنقد العربي الحديث، علاوة على التعليم الأكاديمي الذي كان المقالح من أبرز أعلامه".
وأضاف البيان "ما تمتعت به قصيدته الحديثة ومقاله الرصين من سمات عززت من مكانته وكرست حضوره الإبداعي والإنساني اسما كبيرا وعلما عظيما من أعلام القصيدة العربية".
ولد المقالح عام 1937 في قرية المقالح بمحافظة إب في جنوب اليمن وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة عين شمس في مصر.
تميزت كتاباته في البداية بشيء من الكلاسيكية لكنه سرعان ما انفتح على الحداثة،
وتقلد العديد من المناصب منها رئيس جامعة صنعاء ورئيس مركز الدراسات والبحوث اليمني ورئيس المجمع العلمي اللغوي اليمني.
حاز جوائز وأوسمة كثيرة من بينها وسام فارس في الآداب والفنون من فرنسا عام 2003 وجائزة الشعر من مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في الإمارات وجائزة أحمد شوقي للإبداع الشعري من اتحاد كُتاب مصر عام 2019.
وأصدر المقالح 15 ديوانا شعريا أبرزها "لا بد من صنعاء" و"أبجدية الروح" و"عودة وضاح اليمن" و"بالقرب من حدائق طاغور"، كما ألف أكثر من 20 كتابا منها "صنعاء" و"شعر العامية في اليمن" و"عبد الناصر واليمن" و"شعراء من اليمن" و"أزمة القصيدة الجديدة".
الشعر والنقد
وفي حوار سابق مع المقالح قال للجزيرة نت "إنني أعطيت الشعر الجانب الأكبر من حياتي، وإنه لم يبخل علي، وأعطاني شيئا مما كنت أحلم به، وأقول شيئا ولم أقل كل ما كنت أحلم بقوله، فقد كنت -وما زلت- أبحث عن قصيدة العمر التي يظل الشعراء يحلمون بها طوال حياتهم، وما زال عندي أمل بأن تأتي هذه القصيدة في يوم من الأيام".
واعتبر المقالح أنه في استطاعة الشاعر الذي يتعاطى النقد أو الناقد الذي يتعاطى الشعر أن يفصل بين هاتين الحالتين: حالة الكتابة الشعرية، وحالة الكتابة النقدية، وإذا جاز للناقد أن يستعين بحدسه الشعري أثناء تعاطيه النقد فإن من واجبه أن ينسى أنه ناقد أثناء الكتابة الشعرية، لأن لحظة حضور القصيدة إنما تنبثق عن العفوية والتلقائية والانبهار بهذا الكائن الجميل، والاستمتاع بحضوره وألقه، وهذا لا يمنع الشاعر في ما بعد من أن يجري على نصه الشعري بعض المراجعات النقدية التي يرى أنها ضرورية لإبرازه بصورة فنية أبهى وأكثر إشراقا.
وأضاف "في اعتقادي أن شعرنا العربي المعاصر تجاوز جدلية هذه الثنائية، خاصة أن كبار النقاد فيه شعراء، مثل أدونيس وعلي جعفر العلاق وكمال أبو ديب وحاتم الصكر، وأسماء أخرى كثيرة استطاعت أن تحقق حضورا لافتا في الحقلين: حقل الشعر والنقد".
وقال المقالح "شديد التفاؤل بأن في هذا الجيل من المبدعين من يحمل راية الشعر باقتدار، ويهيئ نفسه لكي يحل محل الراحلين العظام، وقد لا يكون بنفس المستوى، لكنه مع ذلك قادر على أن يحفظ للشعر مكانته ودوره في الحياة".
وعن العولمة والشعر، اعتبر المقالح أنه مما لا ريب فيه أن العولمة جنت على العالم العربي اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وجنايتها على الثقافة والأدب كانت أفدح، فهي جناية تلامس الروح والهوية، وتسعى إلى خلخلة مفاهيم ورؤى ونشر النمطية والعدوان على اللغات واستهداف الأمة في أخص خصوصياتها.
وأضاف "قد يكون الشعر أول ضحايا هذه الهجمة الخطيرة، وتكاد تطالع ذلك في ما باتت تسمى القصيدة العالمية أو الكونية التي تتماثل أشكالها ورؤاها من الصين إلى أميركا إلى أوروبا إلى الوطن العربي، وقصائد هذه الموجة عديمة الانتماء، فاقدة الهوية، ولا معايير متينة تحكمها، وكثيرا ما يراها فاقدو الموهبة مدخلا سهلا لحضورهم المفاجئ على خارطة الشعر المزعوم".
التكريم الأخير
وكانت مكتبة قطر الوطنية قد أقامت في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري فعالية احتفاء بمرور 51 عاما على صدور باكورة دواوين الشاعر الراحل، وتضمنت الفعالية -التي شهدها كل من الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري وزير الدولة القطري ورئيس مكتبة قطر الوطنية وسفير جمهورية اليمن لدى دولة قطر راجح حسين بادي عرض فيلم قصير عن المقالح وكلمة للروائي التونسي نزار شقرون، فضلا عن أنشطة ثقافية وفنية أخرى، منها قراءات في شعر المقالح وعزف منفرد على العود.
وأكد الكواري في كلمته بالفعالية أن المقالح يعد صوتا استثنائيا للشعرية العربية، فقلمه لصيق بوطنه، وقد حمل منذ صباه ليس أوجاع اليمن فقط، بل أوجاع أوطان العرب جميعا، موضحا أن المقالح استطاع أن يحفر مجرى نهره الخاص في الشعر العربي، فعبرت شعريته عن حاجات الإنسان وآماله بلغة جديدة ومتجذرة في بيئته المحلية ومتجاوزة لها في آن واحد لاتصالها بمحن الإنسان العربي.
علامة مضيئة في الوطن العربي
وأضاف الدكتور الكواري في حديث للجزيرة نت أنه لا يمكن لأي مثقف عربي أن ينكر فضل الشاعر والناقد اليمني الكبير على الشعر والثقافة العربية حتى أصبح علامة مضيئة في الوطن العربي، مشيرا إلى أن تكريم المقالح يأتي بمناسبة مرور أكثر من نصف قرن على أول كتاب صدر له وبمناسبة إهدائه مؤلفاته لمكتبة قطر الوطنية.
وأوضح أن هذا الاحتفال في حد ذاته هو أحد دلائل الصداقة، خاصة في هذه الأيام التي تعيشها قطر، وأنه على الرغم من التركيز على استحقاق كأس العالم فإن الحياة مستمرة في جميع المجالات، ومنها المجال الثقافي.
وأشار إلى أن الاحتفاء ليس مقصورا على العرب فقط، فمنذ أيام قليلة تم الاحتفاء بشعراء من آسيا الوسطى وأفريقيا وأميركا اللاتينية، موضحا أن الصروح الكبيرة مثل مكتبة قطر بنيت من أجل رسالة مهمة، وهي أن تكون الدوحة عاصمة أبدية للثقافة العربية.
وأضاف أن الأمم تتفاخر وتزهو بأدبائها ومفكريها أكثر من مواردها وثرواتها واقتصادها، موضحا أن هذا الأمر جزء أصيل من رسالة المكتبة ورؤيتها.
السفير اليمني بالدوحة: الشاعر المقالح حمل هموم العرب منذ بدايته في كتابة الشعر (الجزيرة)
المقالح وحد الشعراء
من جهته، أكد السفير اليمني في الدوحة راجح بادي للجزيرة نت أن الشاعر عبد العزيز المقالح لم يحمل هموم اليمن فقط، بل حمل هموم العرب جميعا منذ بدايته في نظم الشعر قبل أكثر من نصف قرن، موضحا أن المقالح دائما ما يعبر في كلماته عن الحب والتقدير لكل ما هو عربي.
وأشار بادي إلى أن المقالح لم يكن يمنيا فقط، بل كان عربيا خالصا "فقد استطاع توحيد الشعراء وجعل صنعاء قبلة المثقفين والشعراء العرب الكبار أمثال محمود درويش وأحمد علي سعيد (أدونيس) وغيرهما من الكثيرين الذين عشقوا صنعاء حبا في الشاعر عبد العزيز المقالح".
وأضاف السفير اليمني أن المقالح ظُلم إعلاميا في السنوات الأخيرة التي مرت بها اليمن، ويمكن أن نطلق عليها العشرية السوداء، والتي تسببت في عدم معرفة الأجيال العربية الجديدة بالدكتور المقالح جيدا.
وتابع "لكن المؤكد أنه قامة عربية كبيرة وينتمي لجيل الكبار، فلا يكاد يوجد شاعر أو مثقف عربي لا يعلم من هو المقالح ولا يعرف إضافاته للشعر العربي وللمكتبة الثقافية اليمنية والعربية، ولكن الظروف التي مر بها اليمن أثرت كثيرا على حضور الشاعر الكبير في المحافل الدولية".
رائد في القصيدة الحديثة
بدوره، قال الشاعر والأديب المستشار في وزارة الثقافة القطرية نزار شقرون للجزيرة نت إن الحديث عن الشعر اليمني بشكل خاص والعربي بصفة عامة لا يستقيم إلا بذكر الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح الذي كان شعره للوطن وللعروبة، وكان شاعرا مجددا في تجربة الشعر العربي الحديث، فهو إضافة إلى انتمائه لحركة رواد الشعر في القصيدة الحديثة استطاع أن يبني لنفسه أسلوبا شعريا خاصا، وأن يحرر القصيدة التقليدية بحيث يبني من خلالها عالما شعريا قابلا للتأقلم مع السياقات الاجتماعية والحضارية الجديدة.
وأضاف شقرون أن انتماء المقالح إلى حركة الشعر العربي هو انتماء الثائر، لأنه كان في تصوره للشعر ثوريا، وبقدر ما كان يؤمن بأهمية الإيقاع والموسيقى والوزن في القصيدة والصورة -فلم يكن منغلقا على الشعرية الجديدة- فقد استطاع أن يرسم أفقا جديدا للشعرية العربية.
وأشار إلى أن الميزة في عبد العزيز المقالح هي قدرته على نقل الشعر اليمني نقلة كبيرة إلى شعر الحداثة، إذ أصبحت المعاني الشعرية حديثة في مستوى القضايا، ولكنها في مستوى الشكل والأسلوب بقيت على وفائها قدر الاستطاعة للشعرية العربية القديمة، ولذلك فإن شعره قريب لقارئه.
وأكد شقرون أن أثر وفضل المقالح على الثقافة والشعر العربي كبير، وسيظل الشاعر الكبير قدوة لكثير من الشعراء الذين يؤمنون بأن الشعر لا يمكن أن يقطع مع الأجيال، وأن الشعر هو بناء وليس طاقة هدم، وأنه تقريب للشقة أكثر من زرع للفتنة.
وأضاف أن المقالح كان يؤمن بالدور النقدي، فلم يتراخ أو يجلس في كهف الشعر، بل كان مناضلا في الميدان، وأيقونة من أيقونات الثورة اليمنية، كما واصل جهده الجامعي الأكاديمي والثقافي، فهو يعطي صورة للمثقف العربي الذي لا يتخلى عن مسؤولياته.
مشعل الحداثة الشعرية في الوطن العربي
من جهته، رأى الأديب والأكاديمي الجزائري عز الدين جلاوجي -في تصريح للجزيرة نت- أنه يمكن اعتبار المقالح أحد أقطاب الجيل الشعري الذي تلا جيل النهضة العربية الأولى، موضحا أنه انفتح على التجارب الغربية والعالمية، مما مكنه من حمل مشعل الحداثة الشعرية في الوطن العربي.
وأشار إلى أن المضمار كان مكتظا والسباق محموما، وأفرز قامات مثل السياب ونازك وعبد الصبور والبردوني، ولا شك في أن عبد العزيز المقالح كان واحدا منهم بما امتلكه من أدوات فتحت أمامه الباب واسعا، فهو إضافة إلى موهبة المبدع لديه، ناقد عميق النظر في المنجز الشعري العربي.
وأضاف أن المقالح له إسهامات مهمة، منها "الشعر بين الرؤيا والتشكيل"، و"أزمة القصيدة الجديدة"، وقد تشكلت لديه بفعل تكوينه الأكاديمي الرصين ومتابعاته الذكية للقصيدة العربية التي شهدت آنذاك تخلقاتها العميقة وتحولاتها الكبرى.
وأشار إلى أنه ظل بما امتلك من حس إبداعي يتقلب في رحم التجديد يتتبع مساره بوعي عميق، متنقلا كما النحلة بين القصيدة الكلاسيكية التي امتلك أدواتها والقصيدة المعاصرة في هندستها ولغتها وصورها وكل خصائصها، دون أن يغفل عن استدعاء الموروث من خلال رموزه التي تجلت حتى في عتبات دواوينه.
وأكد أن المقالح تجاوز القصيدة العربية الكلاسيكية التي ظلت سيدة المشهد حتى مع شعراء النهضة العربية الأولى، إضافة إلى المضامين الفكرية التي اكتنزت بها نصوصه، فقد كان يؤمن بأن الشعر رسالة في الرؤية، فارتبط شعره بقضايا الإنسان عموما، والعربي خصوصا.
المصدر : الجزيرة