لقاء الإفطار على شرف علماء الدين العرب والمسلمين المقيمين في تركيا

خميس, 04/13/2023 - 21:41

 

إسطنبول 11 ابريل (نيسان) 2023

 

 

الكلمة الافتتاحية للدكتور هشام الطالب رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي
 

 

سعادة البروفسور محمد غورماز رئيس معهد التفكر الإسلامي في أنقرة والرئيس السابق لهيئة الشؤون الدينية التركية

 

سعادة الدكتور بدي المرابطي مدير معهد الدراسات الإبستمولوجية في بروكسيل،

 

 أصحاب المعالي علماءنا ومشايخنا الفضلاء الأجلاء،

 

أحييكم بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

أرجو لكم إفطاراً كريما سعيدا ورمضانا مباركا ميمونا، تقبّل الله صيامنا وصيامكم وقيامنا وقيامكم وضاعف لنا ولكم الأجر إن شاء الله جلّ وتعالى.

 

كان بودّي أن أكون معكم حضورياً ولكن إكراهات الالتزامات الراهنة لدينا هنا في مكتب إدارة المعهد في واشنطن لاسيما خلال شهر رمضان المعظم جعلتْ السفر متعذراُ في هذه الأيام، ولكنكم تعرفون أنّ ما لا يُدرك كلّه لا يترك جله، فلعلّ سانحة الحديث عبر تقنيات التواصل عن بعد تعوّض جزئياً عن الحضور المباشر ولو أن فرصة لقائكم المباشر لا تعوّض.

أودّ باسم المعهد العالمي للفكر الإسلامي وباسمي شخصيا أن أشكركم فرداً فرداً بحرارة على تشريفنا بحضوركم الكريم اليوم، وأودّ أن أثني من خلالكم على شريكنا في هذه الدعوة معهد التفكّر الإسلامي في أنقرة وأن أهنئه وأهنئ رئيسه سعادة البروفسور محمد غورماز على نجاحاته المشرفة وعلى جهوده الحثيثة ما شاء الله.

 

مرحبا بكم جميعا علماءنا ومشائخنا الأفاضل في هذه الأرض الكريمة وفي هذا المكان المضياف.

والشكر موصول لكلّ الطواقم المباركة التي أشرفتْ على تنظيم هذا اللقاء المبارك الذي التأم بفضل الله ثمّ بفضلكم أنتم علماءنا ومشائخنا الذين تمثلون أبرز الوجوه العلمية الدينية في العالم الإسلامي وتقيمون في إحدى أبرز عواصم الخلافة الإسلامية التاريخية إسطنبول الميمونة.

 

 

 حضرات العلماء والمشائخ الأفاضل،

أيها الجمع الكريم

 

لقد تأُسّسَ المعهد العالمي للفكر الإسلامي منذ أكثر من أربعين عاما كمشروع يهدف تحديدا إلى الاستجابة للتحدّي المعرفي المطروح في العالم الإسلامي والذي نظرْنا إليه بعد مسار علمي وعملي طويلين من المناقشات والتأملات في مناطق عديدة داخل وخارج العالم الإسلامي باعتباره التحدي الأكبر الذي يواجه بلداننا.

إن مقارباتنا المعرفية تـنبني على إعادة صياغة أدوات ووسائل وطرق مفاهيمية ومنهجية تهدف إلى تجديد فهم القران الكريم وسبر دلالاته ومعانيه، وتهدف كذلك إلى التعامل مع مدونات السنة تحقيقا وفهما وضبطا لمستوياتها المعيارية أي لدلالاتها في مستوى المرجعية والأصول.

كما أن مقارباتنا المعرفية تهتم كذلك بصياغة أدوات بحث جديدة للتعامل مع التراثين الإسلامي والغربي، وذلك من أجل إعادة صياغة أدوات معرفية ومنهجية تكاملية تسمح باستنفار جميع الحقول المعرفية وأدواتها الإبستمولوجية في سبيل فهم متجدد للوحي وإدراك متقدّم للواقع، أعني الواقع الاجتماعي والواقع الإنساني.

إننا بعبارة أخرى نهدف في عملنا المعرفي البحثي إلى إعادة تأسيس الوعي الحضاري دينًا وتدينًا، عبر فهم أوفى للوحي المنزَل ووعي أدق بطرق تنزيل الوحي في الواقع.

 

 

 حضرات العلماء والمشائخ الأفاضل،

أيها الجمع الكريم،

 منذ اللحظة الأولى لتأسيس المعهد عام 1981 كنّا على وعي تامّ بأن إصلاح التعليم بصورة عامة والتعليم الديني بصورة خاصة ضرورة قصوى، وبأن ثمة تشوهات فكرية أصابت التعليم الديني والعقل المسلم ينبغي تشخيصها وتجاوزها.

وقد سبق هذا الوعيَ المؤسسيَ ممارساتٌ من لدن مؤسسي المعهد، وظَهرَ هذا جلياً في المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي في مكة 1977؛ إذْ حُدّدتْ مشكلة التعليم بالازدواجية التي شطَرتْ التعليم إلى شطرين: الأول يختص بالعلوم الدينية التقليدية، والثاني بالعلوم الحديثة البحتة والاجتماعية. ولعبَ المرحومان الفاروقي وأبو سليمان دوراً مهمّاً في مؤتمر مكة وخلاصات المؤتمر الذي أوصى بأن تستثمرَ المشاريع المقدّمة له في شكل كتب جامعية ومدرسية، وأن يتم إعداد المعلمين والأساتذة وتأهيلهم. وقد ركَّزَ الرئيسُ السابق للمعهد العالمي للفكر الإسلامي المرحوم الدكتور عبد الحميد أبو سليمان بصورة خاصة على ضرورة إصلاح المنهجية التربوية،
وتطوير المناهج والكتب الدراسية، ووضع خطة لمدرسـة إسـلامية نموذجيـة عالميـة، تكون نواة لنظام تربوي إسـلامي عـالمي يغطـي كافـة مراحـل التعلـيم مـن الولادة والتربية الأسرية إلى الروضـة ثمّ إلى المرحلتين الثانوية والجامعية، نظام تربوي يقـدِّم نـماذج للتربيـة الوجدانية والروحية والنفسية والعقلية للطفل والتلميذ والطالب على أساس المقاصد والكلياّت الإسلامية.

 

أيها الحضور الكرام،

 لقد كانت مسألة التعليم الديني وما زالت مفردةً مهمَّة على خارطة عمل المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ إذْ بذلَ المعهد جهوداً كبيرة في تطوير بُعدها المعرفي والمنهجي والتربوي. وتمثّلتْ هذه الجهود في عقد المؤتمرات، والحلقات النقاشية، والأيام العلمية، وتنظيم الدورات التدريبية المتعلقة بتطوير منهجية التعامل مع العلوم الإسلامية والتعليم الديني إلخ. ولعل أهم ما أنجزه المعهد في هذا الإطار فتحُ البرامج العلمية الأكاديمية في الجامعات والكليات والمدارس، والتعاون مع المؤسسات الأكاديمية ذات الصلة بالتعليم الديني وإعداد الخطباء والأئمة.

فقد أسهم المرحوم الدكتور طه جابر العلواني – أحد مؤسسي المعهد والرئيس الأسبق له- في مدّ جسور التواصل مع المؤسسات الدينية في مناطق مختلفة من العالم؛ ومن أهمها: الندوة التدريبية للأئمة والدعاة في أمريكا الشمالية التي عُقدت في شيكاغو، وكذلك الدورات النوعية التي عُقدت في مصر المحروسة؛ إذ أشرف على برنامج نوعي لتدريب الأئمة وإعدادهم وتأهيلهم، وكان الهدف منه تزويد الأئمة بالآليات المنهجية التي تمكّنهم من تجديد خطاب ديني معاصر قائم على اللُحمة بين الإرث الحضاري للأمة، والإفادة من المنجز الحضاري المعاصر، بوصفه حكمة المؤمن وضالته، من أجل الانطلاقة الحضارية المنشودة.

ولعلَّ اللحظة التاريخية المهمّة في مسيرة المعهد لتطوير التعليم الديني وترقيته بصورة تتّسقُ ومقاصد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كانت في تكليف المعهد العالمي للفكر الإسلامي بتأسيس وإدارة الجامعة العالمية الإسلامية في ماليزيا، وإنشاء كلية معارف الوحي والعلوم الاجتماعية والإنسانية؛ إذ عملتْ مدرسة المعهد من خلال الجامعة على ترسيخ مفهوم التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وإصلاح منهج المعرفة وتوحيد مصادرها الإلهية والإنسانية واستعادة الرؤية الكلية، والقيام بمراجعـة شـاملة للحالـة الفكريـة والتربويـة في مؤسـسات الأمـة التعليميـة، بحيـث يـتمُّ تحويلهـا مـن تدريس العلوم برؤية جزئية مادية مستعارة من أمم وحضارات أخرى، إلى دراسـتها في دائرة الإطار الإسلامي بمنطلقاته وكلياته وقيمه وغاياته، مع التركيـز عـلى تنـشئة الإنسان المسلم عليها. مما سيسهم إن شاء الله في تكوين الشخصية المسلمة المعاصرة القادرة على الاستيعاب والتجاوز، ونقل المعارف والمهارات إلى مختلف فئات المجتمع ومنها المدارس بمختلف أطيافها.

 

حضرات العلماء والمشائخ الأفاضل،

أيها الجمع الكريم،

 

ندرك أهمية العمل على استعادة التعليم الديني ألَقه وانفتاحه على الطفرات المعرفية الحالية وقدرتَه على استقطاب الطالبات والطلبة الأكثر تميزاً، ندركه مثلاً حين نتأمّلُ الخريطة الدعوية والفوضى التي عرفتْها في العقود الأخيرة، وما نتجَ عن ذلك من تداعيات مؤسفة على أكثر من صعيد.
ومن منطلق التزام المعهد العالمي للفكر الإسلامي بإصلاح التربية والتعليم في المجتمعات الإسلامية قام المعهد في سنة 2018 بوضع برنامج متكامل لتحسين وتطوير البعد البشري والتعليمي وكذلك التركيز على البحث الميداني لإثراء البحث النظري الذي يقوم به المتخصصون ألأكاديميون. وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي يأخذ فيها المعهد على عاتقه القيام بالبحث الميداني لفحص آراء وتوجهات طلاب المدارس والجامعات في 15 مجتمعا مسلما حول القيم الاسلامية والعالمية ومهارات متعلقة بها، وهذه الدول هي:
بنغلاديش، الأردن، المغرب، الجزائر، السودان، ماليزيا، إندونيسيا، الهند، قرقيزتان، البوسنة، تتارستان، موريشوس، كينيا، تانزانيا، وكذلك المدارس الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية.
 

حضرات العلماء والمشائخ الأفاضل،

لا شكّ يجمعنا وإياكم همٌّ علمي واحد وأفق بحثي مشترك وفوق ذلك يجمعنا وإياكم هذا الدين وهذا الديْن، أعني بالديْن الشعور بالمسؤولية العلمية والمعرفية في عالم إسلامي يمثِّلُ اليومَ التحدي المعرفيُ أكبرَ تحدياتِه، بلْ يُـمثّلُ من وجهة نظرنا في المعهد العالمي للفكر الإسلامي المفتاحَ الأعظم لكلّ التحدّيات الأخرى التي يواجهها المسلمون.
إننا نعول عليكم كثيراً في النهوض الفكري والقيمي للأمة عبر الدفع بعجلة الإصلاح والتغيير في المناهج الفكرية والأدوات المعرفية وفي آليات وطرق التعليم الإسلامي وأيضاً في السياسات التعليمية.

 
إن البحث العلمي واستمراريته في المدارس الدينية وغيرها في مجتمعاتنا يُعّدُ أحد الأهداف المهمّة لمشروع الارتقاء بالتعليم في المجتمعات المسلمة وهو ليس بالضرورة مشروعا يهدف لكشف نقاط الضعف وإنما الهدف هو توثيق نقاط القوة أيضاً ودعمها بشكل علمي ومنهجي لكي نضيف إلى المعرفة التراكمية التي يقوم بها باحثون مسلمون في مجتمعاتهم.

لذلك ركّزتْ مشاريعنا في السنوات الأخيرة على الارتقاء بالتعليم والمؤسسات المشاركة في المشروع حول مخرجات البحثيْن الميداني والنظري بالنسبة للتربية والتعليم في الدول المختلفة ومنها المهارات التعليمية للمربّي وفهم الطالب واحتياجاته التطورية.

 

حضرات العلماء والمشائخ الأفاضل،

أنتم ونحن لا نتحركُ في فراغٍ معرفيٍ ومؤسسي ولحظةٍ صفرية، بل علينا أن نتعاطى بإيجابية مع مختلف المعارف نقداً وتطويراً، وأن نتجاوز مقولة "ما ترك الأولون للآخِرين شيئاً" فالمعرفة في نماء وتطور مستمر. وبهذا المعنى للتراكمية تتحقّق أهدافٌ متعددة، أهمها: احترامُ الجهد البحثي والخبرةِ البشرية، والكشفُ عن مكنونات حضارتنا وكنوزِها المعرفية. كما أننا نستطيع أن نسيرَ عمودياً بإغناءِ مفردات العلم، وأفقياً بتثوير المنهجية المناسبة لهذا العلم.

وختاماً ألحّ مرّة أخرى على أمرٍ بدهي ولكنّه يستحق أن نلحّ عليه مراراً من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين، وهو أننا نعوّل عليكم كثيرا في النهوض الفكري والعلمي والتعليمي والأخلاقي بالأمّة، أو بعبارة أخرى أمّتُنا تعوّل عليكم كثيراً للخروج من كبوتها التاريخية. أمّتنا تعوّلُ عليكم كثيرا وعلى جهودكم لتجديد الفهم وفهم التجديد.

شكرا لكم على المشاركة وعلى تجسم عناء الحضور لتشريفنا خلال هذا الإفطار المبارك.

وباسم المعهد العالمي للفكر الإسلامي أقدّم شكرنا العميق وخالص دعواتنا لكم ولأمتنا بمناسبة هذا الشهر العظيم، نرجو منكم خالص الدعاء لنا خلال صيامكم وقيامكم المتقبّل إن شاء الله، نرجو منكم خالص الدعاء لنا وللإنسانية عموما وللأمة الإسلامية خصوصاً، هذه الأمّة التي آن لها أن تستعيد ريادتها الحضارية، وما ذلك على الله بعزيز.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
الدكتور هشام الطالب
رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي