كانت علاقتي بالأرقام عموما وبعلم الحساب خصوصا، علاقة قائمة بفضل الله على النفور المتبادل، إنه الشعور الذي رافقني منذ دخول المدرسة الابتدائية وما زال متلبسا بي حتى يوم الناس هذا
هناك اختلاف في الطبيعة بيننا، فالرياضيات
كعلم مختص بالقياس والكميات والمقادير، تنبني على الدقة التسلسل المنطقي للأشياء، إنها علم لا يقبل الفوضوية ولا الإحتمالات ذات النتائج المتعاكسة، تفترض التنظيم والترتيب والأنضباط، وأنا بطبعي غير منظم ولا مرتب ولا منضبط، أنا بعبارة أدق فوضوي حد الاستهتار، ربما لأني تعودت منذ النشأة على أن دوري في المنزل ليس ترتيب الأشياء أو وتنظيمها وإنما استلامها مرتبة ومنظمة ثم بعثتها في كل اتجاه
أنا حقا أكره الأرقام وكل ومشتقاتها، لا أستطيع حفظها أو على الأصح لا أريد أن أحفظها، لا أريد تلك الرموز هجينة المصدر أن تشغل حيزا من مادتي الرمادية، ومع أنه ليست لدي مشكلة في الحفظ، حيث لم يستغرق حفظ القرآن مني وأنا طفل أكثر من سنتين ونصف بدأت بالحروف أول يوم منها وأكملت الحفظ في نهايتها، هذا ما يقوله العادُّونَ وأنا محايد بشأنه حيث كنت صغيرا لدرجة أنني لا أتذكر متى كان ذلك وهو ما يعني أنه في مرحلة عمرية لم أصل فيها بعد لاستيعاب أن الزمن أيام وشهور وسنوات مرقمة
حفظت بعض المتون والكثير الكتير من الشعر فصيحا ولهجيا، نظمت كتب القانون التونسي والمقارنه وحفظتها، ومع ذلك أعجز عن حفظ رقم سيارتي المكون من خمسة أعداد، ولا أحفظ أرقام جوازات السفر أو بطاقات التعريف، تصوروا أن البعض يحفظ سيارات زملائه وأرقام هواتفهم، بل إن البعض يحفظ أرقام البطاقات والحسابات البنكية، أي ذاكرة رقمية تلك التي تستوعب صفا من الأرقام يزيد عن العشرين.
أنا أعلم أن الرياضيات لا تعتمد على الحفظ بقدر ما تعتمد على المنطق والاستيعاب، لكن اللغة نفسها المعتمدة على الرموز هي ما يجعلني أكرهها حد المقت.
على كل أبارك لمحبي الرياضيات يومهم العالمي وأتمنى لهم سنة ملآ بالرموز والإشارات والأرقام
واليسمحوا لي أن أقدم لهم هذا الحوار كهدية بمناسبة اليوم العالمي للرياضيات. أتذكر نقاشا دار بين صديقين من رفاق درب الدراسة تسعينات القرن الماضي في تونس الخضراء،
كان أحد الصديقين من المولعين بالرياضيات ومن طلبة (MP) في كلية العلوم بجامعة المنار، أما الآخر فكان من دارسي العلوم الاجتماعية وربما كان له مع الرياضيات ثأر يعود إلى أيام الطفولة.
بالغ طالب الرياضيات في الحديث عن أهميتها ومحوريتها في كل العلوم، وأنه لولاها لما طار طير في الهواء ولا سبح حوت في الماء، كان الآخر يستمع غير معلق وينتظر فرصة يتمكن خلالها من ضرب حجج غريمه في مقتل.
استطرد الآخر معددا فوائد تخصصه قائلا: تصوروا أن حركة أي جسم مهما كان، خاضعة لمعادلة رياضية معينة، ثم أجال بصره في الغرفة باحثا عن دليل مادي يقوى حجته فقال: هذه النافذة مثلا نستطيع فتحها بمعادلة رياضية، هنا صاح طالب العلوم الاجتماعية - الذي كان قد أطال السكوت - مخاطبا غريمه المتحمس: توقف هنا وانتظرني لحظة، خرج من الغرفة مسرعا ليعود بعد دقيقة حاملا دفترا من الحجم الكبير وقلمين أحدهما أزرق والآخر أحمر، وضع الدفتر والقلمين بهدوء أمام غريمه وقال له، أريد منك أن تفتح تلك النافذة بالرياضيات، ولست مستعجلا فخذ من الوقت ما تشاء.
رد طالب الرياضيات وهو غاضب بالقول: أنت لم تفهم قصدي، فاستوقفه الآخر بهدوء قائلا (خلي عنك لعياط وافتحنا الكوَّ بالرياضيات، وظل يعيد نفس الجملة بهدوء كلما انتهى غريمه من تبرير حججه، لكن الأخير لم يستطع التحمل أكثر فخرج من الغرفة وهو يتمتم : انتوم أهل الأدب ما تفهمو بعرة وحدة.
________
شاعر وكاتب موريتاني