عاد التاه بن حلاب إلى الخيمة قبيل السحور، وهو يحمل بين يديه مُداً من العيش مملوحاً وميدوماً، فتحلق حوله أصدقاؤه، مهنئين ومحتفلين بأدائه الرائع والمتميز لشخصية الشيخ يعقوب بن عبداللطيف، فخاطبهم قائلاً ، انْتُومَ تَعِرْفُ عَنْ كوم "الفتيان" مَاهُمْ نَافْشِينْ العَبَثْ، ومنذ أيام وأنا أفكر في سبب اختيار "النَّيْدْ" لتلك الأبيات بالتحديد من القصيدة، ثم قررت أن أحتال حتى أستمع لقراءة الشيخ يعقوب عن قرب، فذهبت إلى منزلهم ليلة أمس وتظاهرت بالنوم، ولما تعارَّ الشيخ من الليل قام إلى القربة فأحسن الوضوء ثم شرع في صلاة التهجد، فأصغيت إلى قراءته فلاحظت أنه يترسل ويعطي الحروف كامل حقها، ولما رجعت إلى القطعة المختارة لاحظت أن كلمة "كلاب" وردت مرتين في البيت الأخير، والكاف كما تعلمون حرف شديد مهموس ومستفل، كما تكرر حرف السين أيضا في لفظ "سنبس"، والحروف الصفيرية أقوى من صوت ما جاورها من الحروف، فقلت في نفسي هذا والله هو مربط الفرس، فتدربت طيلة اليوم على محاولة تأدية البيت على الطريقة اليعقوبية، فهز محمدن بن عبدالله رأسه بالإيجاب وأردف قائلا: لقد وفقت جدا في تقليد تلاوة الشيخ خاصة أن الناس متعودون على الحدر.
كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء، عندما التأمت جماعة أهل امين بن أكمتمين، فانتهزت تات قدوم ابن أختها "التاه بن حلاب" من البئر، وسألته وهي تبتسم قائلة: مِنْهُوَ العَصْرْ اللِّ لاَهِ إقِيمْ تِزِكْرَارْ اللَّيْلَ؟ فأجابها وهو يحل وكاء إطار مطاطي مليء بالمياه، ظَاهِرْلِ عَنْهَ اللَّيْلَ اعْلَ الغَالْبِينْ، قالت "تات" وهي تتناول من يده القدح بعدما ملأه من الماء، وَخْيَرْتْ ابْعَصْرْ الفُتُوَّة وَالمُروءَة، فتدخلت شقيقتها عيشة قائلة، إن الأديب أحمدُّ بن انكذي قد مدح عصر الغالبين بنص جميل ومرفود، ثم بدأت في إنشاده:
صِرْتَكْ يَا نْتَ يَالْغَالْببنْ ** هُومَ زَادْ الَّ رَاكْبِينْ
مَانَلَّ مَا هُمْ كَاظِّينْ ** هُومَ وَالوَسَطْ حَالِتْ
هُمْ هُومَ وَحْدَ كَامْليِنْ ** عِيِّلْ مَا كَطْ اذْبَالِتْ
بِالمَدْ افْنَوْبَ دَافْرِينْ ** لِلشِّكْرْ الزَّيْنْ احْتَالِتْ
وَخْيَرْتْ الْوَسَطْ ذَاكْ جَادْ * حَكْ انْكَالِتْ وِاطْوَالِتْ
حَتَّ وَخْيَرْتْ الغَالْـ – زاد – بـينْ اطْوَالِتْ وْانْكَالِتْ
فاستحسنت النسوة الطلعة، واتفقن على تميز عيشة بحفظ نوادر الأدب والأخبار و"اجْعَيْفْنِ" لعصار، ثم تدخلت تتو بنت أحمد فال قائلة، إن سيد ول البهيت مازح عصر الغالبين وهم صغار بقوله:
شِعْرُ ذَ العَصْرِ الجَدِيدِ * لَيْسَ مَمْسُوسًا بِالأَيْدِي
لَيْسَ بِبَحْرِ بَسِيطٍ * وَ لاَ بِبَحْرِ مَدِيدِ
تِهْلِيهُمُ تَرَكُوهُ * مَلْقَى تُرَابِ الصَّعِيدِ
مِنِ بَعْدِ مَا قَدْ بَنَوْهُ * كَمِثْلِ قَصْرِ مَشِيدِ
خَلَقَ اللهُ رجَالاً * لِكُلِّ أمْرٍ شَدِيدِ
كَخَلْقِهِ لِرِجَالٍ * لِقَصْعَةِ مِنْ ثَرِيدِ
كَمِثْلِ مَنَّ وامَّدْ * وَكَالبَشِيرِ وَدِيدِ
قام أعضاء عصر لسياد بالتحضيرات اللوجيستية المعتادة، وبدأت الأعصار بالتجمهر قرب الخيمة، ولاحظ عبدو ول بكي زيارة "أوفَّى" لصديقه محمدن بن فالي، وفهم أن "لغفال" يريدون متابعة العرض عن كثب، ثم بدأ الشاب الموهوب التاه بن حلاَّب يقلد القراء الواحد تلو الآخر، و يبدع في محاكاتهم، فقد مكنه تكرار المشاهد من إتقان تقمص الشخصيات، وكلما أنهى المشهد يطالبه الحضور بالإعادة فيعيد ويبدع مجددا، ثم انسحب فجأة وجلس مع رفاقه دون أن يقوم بتقليد الشخصية المتوقعة، فزاد تشوق الجمهور للتعرف على إمام التراويح الجديد.
لم تمض دقائق حتى أزاح عبدو بن بكي "أكورار" الخيمة، فخرج بل بن ديد مظاهراً بين دراعتين بيضاء وزرقاء، ويحمل في يده اليمنى سبحة، وقد أدار عمامة من النيلة فوق رأسه، ولما وقف أمام الجمهور هبت عليهم رياح المسك من طي ثوبه، ثم بدأ يقرأ بصوت جهوري قول امرئ القيس:
أحار بن عمرو كأني خمر * ويعدو على المرء ما يأتمر
فلا وأبيك ابنة العامر ي لا يدعي القوم اني أفر
تميم بن مر وأشياعها * وكندة حولي جميعا صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا * تحرقت الأرض واليوم قر
تروح من الحي أم تبتكر * وما ذا عليك بأن تنتظر
أمرخ خيامهم أم عشر ** أم القلب في أثرهم منحدر
دخل الجمهور في موجة عارمة من الضحك، خاصة الكبار الذين يتابعون المشهد من وراء حجاب، واتفقوا على إبداع وإمتاع بل في تقليد أغباد الشيخ ومحاكاة طريقة مشيه وهندامه، وقد نجحت خطة تبادل الأدوار التي اقترحها عبدو ول بكي بين التاه وبل، خاصة أن الأخير ملم بأبعاد الشخصية وسبقت له مساكنة الشيخ عن قرب.
بعد انتهاء العرض، ذهب أطفال من عصر "ديشنات" إلى منزل أهل "فالي" المجاور لخيمة لسياد، وكانوا محتارين في هوية صاحب التراويح الليلة، فانتهز "أحمدو بن ألما" فرصة وجود خالته الشيخة "دَادُ" في المنزل وطلب منها تعريفهم بالقارئ الذي حاكاه "بل" الليلة، فأجابته بأنه الشيخ محمد صالح بن محمد سيديا بن الشيخ أحمد الفالل، الملقب انَّنَّ، وهو سيد همام ممدح من أعيان القبيلة، وهو الذي عناه الشيخ الأديب أوفى بن يحظيه بن عبد الودود عام الهَوْفَ بقوله:
أقول لنفسي حين حان ارتحالها*عن أكجوجت المعروفة اليوم حالها
رويدك إن انَّنَّ فيها وكم فتى*بـه شرفت أرض وراق جمالها
كريم السجايا فيه أنشد من مضى* وما فضل الأرجاء إلا رجالها
تكتسي ليلة السابع والعشرين من رمضان أهمية كبرى لدى أهل انيفرار، ففيها يتم ختم القرآن في المسجد، ويحرص المصلون الذين في الصف الأول على مد أيديهم للإمام لينفث فيها بعد انتهائه من قراءة دعاء الختم، كما يطوف الشباب بمنازل الشيوخ والأكابر والصالحين ملتمسين دعاءهم في هذه الليلة المباركة، أما النساء فيقمن بتبادل الزيارات ليلاً بنية صلة الرحم وطلب المسامحة والتحلل من الحقوق، ثم يشرعن في تحضير مستلزمات زينة العيد من علك وفحم وخضاب حناء، كما ينظمن الخرز في الأجزاع التي ستلبسها الجواري، مع الأسورة والخواتم والخلاخيل، وملاحف "التاج وانعامة وانميرات"، كما يبدأ الأطفال التشوف لأضواء السيارات التي تقل الرجال القادمين بمناسبة العيد.
أوقد "عبدو ول بكي" النار ووضع "المغراج" فوق الفرن، ثم أدخل الكأس في "الكونتي" وملأها من الشاي، ثم صبها في الإبريق، وهرق "التشليلة"، وملأ الإبريق من الماء ووضعه فوق النار، ثم بدأ في تكسير قالب السكر، وبعدما استوى الشاي، واحمر لونه وفاحت، رائحته الزكية، أضاف قطعا من السكر وعرشا من النعناع إلى الإبريق وتركه فوق الطاولة، وحرصاً منه على توازن المقادير، صب قليلا من الشاي في الكأس وهم بارتشفاه، فخاطبه "بل بن ديد" وهو يضحك قائلا: صِرْتَكْ بَعْدْ الَّ زَيْنْ كَافْ وَالِدْتَكْ أثَابِتْ بَاطْ، ثم بدأ في إنشاد الكاف:
أَتَايْ اعْبَيْدُ يَلْقَدِيرْ
مَاهُ كَابِلْ فِيهْ القِيَّاسْ
كَاسُ مِنُّ هُوَ لِكْبِيرْ
وِالرَّوْزَ عَنْدُ كِدْ الكَاسْ
افتتح "التاه بن حلاب" جلسة السمر قائلا، التركَ عندكم لخبار، آن الليلة كست أهل الشيخ سيد محمد بن النجيب للتبرك والتماس صالح الدعاء، فوجدت الشيخ يصلي، فجلست أمام الخيمة، فلما انتهى من نوافله، سأل "الشفاء بنت بديه" عن الطارق، فأجابته قائلة: هَذَا التَّاهْ وُلْ أَهْلْ حَلاَّبْ جَايْكُمْ ادُورْ الغُفْرَانْ الليلة فقال لها "غَزَّ"، فقاطعه محمدن بن عبدالله بن مناح قائلا إنه تفاجأ اليوم أثناء مطالعته للكتب، بسؤال وجهه إليه والده، فقال له عبد ول بكي وهو يسلمه كاسا من الشاي، كَابِظْنِي آنَ بَعْدْ اغْبَ سُؤَالْ بَلاّ؟ فأجابه محمدن وهو يبتسم: سَوَّلْنِ كَانْ ذَللِّ فَيْدي اكْتَابْ الستِّ، فضحك القوم حتى بدت نواجذهم، وفهموا مغزى الشيخين من توظيف التورية وأسلوب الحكيم، واعتبروا تلك الإشارات بمثابة إجازة ضمنية لمحتوى المسرحية، وأسدل الستار على تِزِكْرَارْ السِّتْ.
أعتذر للقراء الكرام عن الإطالة والإيغال في المحلية.
يعقوب بن اليدالي