اكتوبر 1983 دخل حائط إعدادية البنين بانواكشوط يحمل حقيبة صغيرة فـــــــيها معدات أستاذ حدث يتقاسمه عالمان: عالم الأحلام الوردية التي يغرق فيها ذوو العشرين ربيعا عادة، يهيمون في دنيا الصفـــــــــــــاء والخيال والجمال قبل أن تنزل بهم من فضاءات الحلم أثقال الهموم وعقبات الحياة، عالم آخــــــر كانت مخالبه تخز خاصرة الأستاذ الشاب فـترميه بعيداعن عالمه الجميل: عالم الــــــــفقر ومسؤوليته امام امه واخواته....
يقبل الأستاذ بأعوامه العشرين، و بـــــهمومه على عمله راضيا ومستميتا لا يرى في الدنيا أنبل منه رسالة ولا أشرف منه عملا... حسبك أن تعلم أنه طلب من المدير أن يملأ له جدول عمله فهو لم يأت إلا ليكون وقته كله في سبيل الوطن، أليست هــــذه قناعة الفتى الأبي؟ وقد بلغ الحماس بفتانا أنه كان يشتري المشروبات لزملائه الأســــــاتذة وأعضاء الإدارة والبواب وعمال النظافة أوقات اجتماعات الفصول.. كم هو ساذج وغبي حسبما تسره تلك الوجوه المحيطة به من كهول الأساتذة.. وهـــــــــم يتناولون الشراب وينظرون إلي (الطفل) زميلهم بعيون منكرة ساخرة مستزيدة...ومن شابات يرشونه بعبارات التمجيد الزائف ..
عانى صاحبنا من عقيدة مهنية متطرفة اصابته احيانا بما يشبه الحب الصوفي لعمله والناس من حوله زملاء فصول وتلاميذ تارة يختزلون درج الترقيات بسرعة البرق...رفض الاستعانة بالسياسة لانه آمن انها عكاز يستند عليها الضعيف والاعرج اما هو فقد انعم الله عليه بالصحة وبرجلين صحيحتين لله الحمد والشكر..
رفض عروض عمل في بعض دول الجوار ودولة خليجية في وقت مبكر لانه يؤثر ان يبقى قريبا من امه...لا ارض احلى من حضن الام...ولا مال أغلى من قرب الام !!!
ومن نعم الله عليه ان جعله من عشاق الكتب وفيها استثمر جل امكانياته وقعد بينها ونعم منها بحسن الصحبة والمجالسة....
زحفت اليه الترقيات بطيئة كسلحفاة عرجاء...فترقى كجندي املد الكتفين لا يملك مؤهلات علمية...
استفاد لقب المدير يقولها له اثنان: ســاخر وساذج، ساخر يدرك أنه ليس شيئا ولا قريبا من شــــيء، وساذج مسكين يرى له شانا أي شان؟؟؟ يستقدمه الوالــــــي أو الحاكم لأتفه الأسباب.. يأتيه البسطاء والمغفلون في حاجاتهم يظنون انه من عائلة السلطان ....
تحيط به طواقم بشرية بين أساتذة ومعاونين: أمـــا بعضهم فينصفه ويؤازره، وأما بعضهم فـــــيراه خصما تجب محاربته من أول يوم ، وأما بعضهم فيرى مخالفة رأيه فتحا يسجل في ذاكرة الايام.
وتمضي الايام مثقلة بالهموم ...وتطغى قيم الفساد على قيم المعرفة ...وتفرز حياتنا السياسية فكرا مخنثا يتسلق عبر ثقافة التصفيق والزغاريد الى الواجهات الحساسة ، وتقزمت قامة المدرس الى اقل من مليمتر...وكان اصلاح 1999 المرتجل والذي قدم الحاجة السياسية على الحاجة التربوية ....في الخضم وجد صاحبنا نفسه غريبا ...حبيس اقامة جبرية داخل مكتب هرم في بناية موحشة...محكوما عليه بالاستماع القسري الى انين جرس مسكين نجلده كل ساعة في تكرار ميت ...والاصغاء الى الدعابة الرخيصة للعمال اليدويين وهم يحاولون طي ساعات عمل رتيبة ومنهكة...وكاد يصبح اميا لان نشاطه الفكري اليومي اصبح مقصورا على تحرير الرسائل الادارية بكلمات مبتذلة وعبارات قتلها تكرار الاستخدام لا تتجاوز ادنى مستويات الابلاغ....
بحكم علاقته مع السلطة الادارية اكتشف ان بعض الاداريين يمارس السلطوية تعويضا عن نقص تكوين أكاديمي عميق...فرضت عليه بعض المواقف غير المعهودة مع هؤلاء...خاطبه الوالي قائلا ما هذا الم تعلموا انا قادمون ؟؟؟؟ قال له بلى ونحن هنا ام تصورتم اننا سنحتفل بقدومكم ؟؟؟ أخطاتم العنوان يا سيادة الوالي...قال له القائد : بنتي تتابع ريثما نحولها!!قال له نمهلها اسبوعا فان لم يات التحويل اخرجناها...استنكر القائد فقال له هذه طريقتنا مع من هم اضعف منك ونحن لا نطبق سياسة بني اسرائيل ...من المواقف الطريفة : دعي لحضور زيارة ممولين اجانب للكفالات الى قريته ليتفقدوا سير الكفالة المدرسية فيها...امام الوفد الاجنبي ووفد الادارة الجهوية وبعثة الممولين وبعض الاهالي في خيام منصوبة ووجبات معدة وتلاميذ ياكلون ... لما استحسن اعضاء البعثة عمل الكفالة قال صاحبنا : ايها الناس أهل قريتي يكذبون ! هذا كله زيف وتزوير...والله ما اكل التلاميذ هنا قبل اليوم ..الخيام معارة .. والاواني معارة .. والتلاميذ يسكنون عند اهلهم وانا ابو ذلك الطفل...الكفالة تذهب الى جيوب المعلمين والمتواطئين معهم في الادارة الجهوية...اغلقت الكفالة في اليوم الموالي...لا اكتب هذا تزكية لنفسي بل استعراضا لبعض المواقف الصعبة التي تعترض الناس في حياتهم المهنية...
اليوم فاتح اكتوبر 2018 استيقظ لصلاة الصبح...أم المصلين في المسجد المجاور...وبقي في المسجد ما شاء الله له ان يبقى...لم يبادر ليقف امام الحائط يحث التلاميذ على الاسراع ويراقب وقت حضور الموظفين....امس خلع عنه الاغلال التي كانت عليه ...اخرج رقبته من ربقة الاسترقاق المهني حين دفع مفاتيح المكاتب وكل ممتلكات المؤسسة الى خلفائه...تنفس الصعداء وهو يخرج واستنشق اكسيجين الحرية الصافي لاول مرة منذ دخل حائط اعدادية البنين اكتوبر 1983 طفلا ...وهو يخرج كهلا أعتقته سنوه ال35.....واستعاد اسمه الحقيقي وتخلص من سلطة الاسم المستعار....
وبعد : هذه مقتطفات من ذاكرتي المهنية احببت ان نأكلها على النار ..قبل ان تصبح عملا ناضجا اكثر تفصيلا...اريد منها ان اشكر كل زملائي في العمل من مختلف مواقعهم واعتذر لهم ولتلاميذي عن كل تقصير غير منوي ولكنه طبع بشري مالوف... أوصي زملائي الاساتذة بتقوى الله واذكرهم ان مهنة التعليم مهنة الفقر لكنها مهنة النبل والشرف...اوصيهم بالتلاميذ الفقراء الذين لم يتمكنوا من الولوج الى المدارس التي يتصور الناس انها متميزة واقدعدهم الفقر في مدارس الدولة...هؤلاء امانة في ايديكم وانتم خير من يؤديها... شرف الاستاذ ان يودع حياته المهنية مدينا لتجار وليس مدينا لأمة ووطن.....