
يمثل الشاعر محمد ولد أبن، بحضوره الأدبي الطاغي وشخصيته الفذة، حالة إبداعية فارقة في الشعر الموريتاني بشقيه الفصيح والدارج خلال القرن الماضي؛ مما جعل تناول إنتاجه المتنوع أمرًا عسيرًا ضمن رؤى نقدية محددة تفضي إلى استنتاجات واضحة المعالم... فتراث هذا الرجل الثري يصعب حصره في إطار المنظومة الأدبية السائدة في عصره، نظرًا لكونه لم يكن مجرد استجابة للأنساق الثقافية والأدبية التي طبعت القصيدة العربية منذ نشأتها حتى اليوم، بل تجاوز ذلك بإضفاء بصمة إبداعية خاصة بصاحبها، خلافًا لمعظم شعراء هذه البلاد الذين ساروا على خطى شعراء العربية في عصورها الذهبية من الجاهلية إلى الإسلام، ولا تكاد تجد في نصوصهم الشعرية ألقًا شعريًا وإبداعيًا مميزًا...
فاللافت في هذا المضمار أن تراث ولد أبن الأدبي، رغم التزامه الإطار العام للشعر العربي الذي حدد ملامحه الآمدي منذ القرن الثاني الهجري، ظل يحمل نفسًا إبداعيًا خلاقًا جعله –حسب نقاد وباحثين في الأدب الموريتاني– يستحق لقب "متنبي هذه الصحراء" بجدارة، لجزالة لغته وعنفوان شاعريته من جهة، وما فيه من استعلائية واعتداد بالنفس من جهة أخرى...
كما أن الطابع المحلي في أدب ولد أبن، العاكس لخصوصية مجتمعه، كان كلمة السر في احتفاء الناس بأدبه واستجادتهم له، وجريانه على ألسنتهم انبهارًا به تارةً، وإجلالًا له وتوجسًا منه تاراتٍ أُخَر، للحد الذي وصفه الشاعر اللهجي بقوله:
أشبه حد إلى كد عن صيد إداشغره
يتمزره وان بعد اندور نتمزر
فالمتمعن في تراث هذا الشاعر، شعرًا فصيحًا أو عاميًا، سيدرك دون كبير عناء أن إنتاج هذا الرجل عصي على التصنيف المدرسي، خلافًا لأغلب شعراء هذه البلاد الذين ترسموا خطى شعراء بعينهم في العصر الجاهلي أو العصور الإسلامية التي تلته، وساروا على منوالهم أخيلةً ومعانيَ وصورًا، تأسيًا بهم وإعجابًا...
لكن ولد أبن عدل عن تلك السيمفونية الممجوجة، واختط لنفسه طريقًا إبداعيًا مميزًا، لا على مستوى الشكل الذي عصفت به الحداثة فيما بعد، وإنما على مستوى المضمون واللغة والأسلوب؛ مما جعل إنتاجه الشعري ماركةً مسجلةً باسمه، غير قابلة للانتحال أو الاجترار.
وتأكيدًا على ما سبق، ورصدًا لفرادة هذا الشاعر وتميزه، إليك أخي القارئ مقتطفات من شعره في غرضي النسيب والغزل دون غيرهما من الأغراض المبثوثة في الديوان، عساها تكون ختامًا مسكًا لهذه اللمحة الخاطفة، ولنستنشق من خلالها عبقًا من خمائل هذا الشاعر الغنَّاء، وحدائقه الشعرية الوارفة الظلال، والتي عناها بقوله:
إِذَا رُمْت قَطْفَ الشِّعْرِ أَدْنَى قُطوفـه
إِلَـيَّ فَأَجْـنِي مِنْـهُ مَـا أَنَـا جَانـِي
فَقَاصِيـهِ لِي دَانٍ وَعَاصـِيـهِ دائِــــنٌ وَأَعــيــنـــه شَــوْقًــا إِلَـيَّ روانِ
كـذلـك شعـري إن فــيـه لـحـكـمـــة بـيـانـيــة مـقــذوفـة بـجـــنــــان
تـنـاشـده الركـبـان في كـل وجــهــة وتـقــذفـه فـاس لأرض عــمــان!
فحين تقرأله في النسيب والعزل تجد صورا شعرية آسرة غير متكلفة كما في المقطوعات التالية
رِقَـــــابَ الــعُـقـلِ إِنَّ لَــنَــا وُلُــوعَـــا بِـجِـيـرَتِكُـنَّ قـد سـكـن الضــلــوعا
وَذادَ عَــنِ الـجُـفونِ الـنّـَـوم شَـجــوي وَأَجــرَى مِــــن مَـآقِـيـها الـدُّمُـوعَـا
وأوقَــدَ فــي الـجَـوَانِـحِ نَــارَ شَـــــوقٍ تُـذَكِّــرُنَـا الـمَــغـانـي والـرُّبُــوعَــا
وأطــــــــلاَلاً حَــوَالَـــيــكُـــنَّ كُـــنَّـــا نُـغَــازِلَ بَـيـنَهـا الـرَّشَـا الـمَـرُوعَـا.
وفي قوله :
رِقَــابَ الـعَـقلِ لــو تـدريـنَ مــا بــي بَـكَـيـت مـــن اغـتـرابـي لاقـتـرَابـي
فـــإنـــي مـــــا أبـــيــتُ الــلــيـلَ إلاَّ وقـلبي مـن غَـرَامِكِ فـي اضـطرابِ
يُــذَكِّــرُنِـيـكِ تَــهــتَــافُ الــقــمَــارى ويــذكـرنـيـكِ تَــشــحـاجُ الــغُــرَاب
وإن ذَكَــرتـكِ نَـفـسِـى فــي شَـــرَابٍ اكَـــادُ أغُـــصُّ مِـــن ذاك الــشـرابِ
وإن رَفَــــعَ الــسَّــرابُ عــلـى تَــنَـاءِ بَــلاَدكِ ظَــلـتُ مُـرتَـقِـبَ الــسَّـرَابِ
ولَــــم أكُ قَـــد نَـأيـتُـكِ بـاخـتِـيَــاري ولــم يَـكُ عـن قِـلاَي لَـكِ إغــتَـرَابي
لَــعَـمـرُكِ مـــا نَـأيـتُـكِ عـــن مَـــلاَلٍ ولَـكِـن مَـنـجنون قَـضـاً جَـرَى بــي
ومـــا قــامَـت مـقَـامَـكِ لــي تُــــرابٌ وكــيــف وأنــــتِ فــائـقـةُ الــتـراب
وأتــرَابــي لَــدَيــكِ وفــيــكِ أنــسِــي ورُوحِـــى واحـتِـرَامِـى واحـتِـرَابـي ..
وقوله وفي نفس المجال :
رقَـــــابَ الــعُـقـلِ إِنَّ لَــنَــا وُلُــوعَـــا بِـجِـيـرَتِكُـنَّ قـد سـكـن الضــلــوعا
وَذادَ عَــنِ الـجُـفونِ الـنّـَـوم شَـجــوي وَأَجــرَى مِــــن مَـآقِـيـها الـدُّمُـوعَـا
وأوقَــدَ فــي الـجَـوَانِـحِ نَــارَ شَـــــوقٍ تُـذَكِّــرُنَـا الـمَــغـانـي والـرُّبُــوعَــا
وأطــــــــلاَلاً حَــوَالَـــيــكُـــنَّ كُـــنَّـــا نُـغَــازِلَ بَـيـنَهـا الـرَّشَـا الـمَـرُوعَـا..
وحين تدلف لغزله ستبهرك قدرته على تخيل المشهد المشجي مستلهما من عناصر الطبيعة حالة تحفيز لهيامه ووجده بمحبوبته فيرسم لنا مشاعره في هذه الأبيات ببراعة فنية فريدة
وُرقُ الـحَـمَائِمِ مُــذ غَـنَّـت بِـأغصَانِ بَـــانٍ تَـعَـلَّـقـت وجــداً بِـابـنَةِ الـبَـانِ
فَـــإن تَـبَـيَّـنت بَـانـاً مَـائِـساً خَـضِـلاً غَــضًّــا تُـذَكِّـرُنِـيـهَا مَــيـسَـة الــبَـانِ
الـبَـانُ هَــدَّمَ صَـبـرِي مَـيـسـه وَبَـنَـى شَـجــوي فِـلِـلَّهِ هـذَا الـهَــادِمُ الـبَـاني
قَـلـبـي لِـعـمـرَانَ لا أصــبُـو لِـغَـانِـيَةٍ إِلا ِإذَا كَــانَ لِــي فـي الـحَـالِ قـلبَـانِ
قُـلبَانِ فـي مـعصَمَيـهـَا هَيَّجَـا شَجـني لاَ غَــروَ ِإن هَـيَّـجَ الأشـجَـانَ قُـلبَـانِ
وفي ذات السياق وعلى نفس المنحى تأتي مقدمته الغزلية
أبَــــرقٌ مَــــا لَـمـحـتُ لـــه ائـتِـلاَقَـا أمِ الــحَــسـنَـاءُ ثَــقَّــبــتِ الـــرِّوَاقَــا
أرِقــــتُ أشِــيـمـهُ ولــقــد شـجَــانــي وحَـمَّـلـنـي غَــرَامــاً لَــــن يُــطَـاقَـا
وِإن يَــكُــنِ الـبَـتُـول فَـــإنَّ عِــنـــدِى لـهــا ولِــمَــن يُــجَـاوِرُهَـا إشـتِـيَـاقَا
كَـلِـفـتُ بَــهَــا وأوقَــــدَ فــي فُـــؤَادِى تَـشَـوُّقُـهـا إضــطِـرَامـاً واحــتِـرَاقـا
وهل يمكن أن تتخيل إبداعا ووهجا شعريا فوق مانجد في واويته المشهورة
أرَاحَـــت لِـقَـلبي عَـازِبَ الهَـمِّ والهَـوَى رُبُوعٌ بِذَات الـرِّيعِ شَـرقِىِّ ذِي الـهُوَى
وألـوَت بِـصَـبـرٍ بَـعـدَ صَـبـرِى مَنَـازِلٌ بِجَنبـَةِ ذَاتِ الـدُّخنِ فـي مُـلتَوَى الـلِّوى
وقَـــد هَــيَّـجـت آيَــــاتُ دُورٍ مَـحِـيــلَـةٍ لَدَى مَـيـسةِ الـمَرضَى البَلاَبِلَ والجَوَى
وبِـالـسِّفحِ مِــن بَـصَّـارَةِ الـمَـيسَةِ الـتـي تَــلِــى تِــلـعَـةَ الـغُــدرَانِ مُـرتَـبَـعٌ قَــوَا
وفــي جَـانـبـي غَــورِ الـغَـدِيـرِ مَـرَابِـعٌ دَوَارِسُ هِــىَّ الــدّاءُ لِــي وَهِــي الــدَّوا
وفـــي جَـلـهَـتَي ذَاتِ الـجِـمَالِ ونَـعـفِهَا إِلَى مُلتَوَى الوَعسَاءِ مِن حَيثُ مَا التَوَى
مَعَاهِدُ إِن رُمـت إرعَـوَاءً عَـنِ الـصِّـبَا أبَـى ذِكـرُهَــا إِلاَّ ارعـوَاءً عَـنِ ارعِــوَا
مَـنَــازِلُ مَـاهَـاجَـتـهُ مَــاهِـيـجَ قَـبـلَـهَــا فَـقـلبي عَـلَى صَـفوِ الـوِدَادِ لَـهَا انـطَوَى!
وحين نتقدم في استنطاق هذه النصوص ذات المنزع الواحد نجد ولد أبن قد أمم قاموسا لغويا خاصا به يؤلف ثم يجعله عصيا على غيره فهل أنت واجد مثل هذه الحوارية البديعة عند غيره ؟
قَـــال لِـــي عـاذلـي وعَـيـبَةُ سِــرِّي ومَـــن اخــتـرتُ صَـاحِـبـاً ونَـدِيـمَـا
إن تَـــكُــن كُــلَّـمَـا مَــــررتَ بِـــدُورٍ قَـد حَـوَيـنَ الـرَّبَـابَ دَهــراً قَـدِيـمــَا
عِـثنَ بـاللُّبّ واسـتَبَحنَ حِـمَـى الصــ صَـبـرِ ومَـلاَّنَ بـالـزَّفِـيرِ الـحـزيـما
وبَـثـثنَ الأسَــى الـرَّسِــيــسَ حَــوَالَي كَ وأبـــديـــن ســـــرك الـمـكـتـومـا
وَنَــــثَـــرنَ الــــدُّمـــوعَ نَـــثــــرَ لآلٍ يَـــتَــحَــدَّرنَ لُــــؤلُـــؤاً مــنــظـومـا
لا تَــمُــرَّنَّ بــالـلِّـوَى إِنَّ فـــي جَــنــ ـبِ اللّـوى أربُـعــاً لَــهَـا ورَسُــومَـا
ولَــهَـا عِـنـدَ ذي الـهُـوَى دِمــنٌَ مِــن دِمَــــنِ الــلَّـهـو ِيـسـتـلبنَ الـحَـلِـيمـا
فَــــإِذَا مَــــا أتَـيـتَـها هِــمـتَ فِـيـهَــــا وحَــــــرٍ إِن أتَــيــتَـهـا أن تَــهِــيـمَـا
لَــذَّ فِـيـهَا الـصِّـبا وطَـابَ الـتَّصابــي وجَــنَــيــنَـاهُ بُــــســـرةً وجَــمِــيـمَـا
وأرَتـــنَــا الـــرَّبَــابُ فِــيـهِـنَّ مِــنـهـا قَــمَــراً نَـــيِّـــراً ولَـــيـــلاً بَــهِـيـمَـا
وَكَـــثِــيــبــاً وبَـــــانَــــةً وقَـــــنَــــــاةً ومَــَـــاةً وخـــيــزرانــا وَرِيــــمَـــا
وَسَـــدُوســـاً وَأُقــحُــوانَــاً وَرُمَّــــــــا نـاً وَكَـشـحاً مِـنَ الـحَـريرِ هَـضـيمَا
وَجُــمــانـاً أُدِيـــــرَ فَــــوقَ جُــمَــــانٍ وَرَحِــيــقـاً مُـشَـعـشَـعـاً مَــخـتُـومَـا
ولَــمًــى إثــمــدا وشَــــوكَ سَــــيَـِــالٍ وبُــرُوقــــاً وَرِقَّـــــــةً ونَــعِــيــمَــا
وَسَـقِـيـماً مِـــنَ الـلِّـحَاظِ صَـحِــيـحــاً وصَـحِـيـحاً مِــنَ الـجُـفُونِ سَـقِـيـمـَا
وكَــلاَمـاً أشـــدُّ فــي الـقَـلـبِ وَقـعـــاً مِـن رِقَـــاقِ الـقَـنَـا أغَـــنَّ رخـيـمـا
وَارتَـشَـفنَا الـرُّضَـابَ بَـعدَ الـكَرَى رَا حــــاً ومِــسـكـاً مَــذَاقَــةً وشَـمِـيـمَا
ولتقس على هذا المنوال كل مقدماته الطللية والغزلية المتفردة المشجية كما هو الحال في مقدمة مديحيته الآتية :
سَـبَـت لُـبَّـهُ مِــن بَـعـدِ كَـبـرَتِهِ جُـمـلُ فـفـي جَـفـنِهِ وَبـلٌ وفـي عَـقـلِـهِ خَـبـلُ
وفِــي صَــدرِهِ نَــارٌ مِـن الـهَمِّ تَـلتَظِي زَوَافِــرُهَــا تَـعـلُـو وتَـسـفُـلُ إِن تَــعـلُ
وقَـــد طَـالَـمـا أورَت تَـبَـارِيحَ وَجــدِهِ ولـم تَـمنَحهُ الـوَصلَ إِن مُـنِـحَ الوَصلُ
فَــلِـلـهِ جُــمــلٌ مَــــا أمَــــرَّ فِــرَاقَـهَـا ومَـا أَعـذبَ الـمُرَّينِ إِن رَضِـيَت جُملُ
كَـسَـتنِي الـهَوَى الـعُذرِي أيَّـامَنَا عَـلَى نَـقَى الـدِّعصةِ الـغَرَّا إِذِ اجـتَمَعَ الأَهـلُ
لَــيَـالِــيَ لاَ أزوَرُّ عَـــنــهــا لِـــزَائِـــرٍ ولَـــم يُـنِــنِـي عَـنـهَا مَــلاَمٌ ولاَ عَــذلُ
سَــبَـتـنـي مِــنـهَـا نَــظــرَةٌ وإشَــــارَةٌ بِـطَـرفٍ كَـحِـيلٍ مَــا أُمِــرَّ بِــهِ كُـحـلُ
غَـــدَاةَ الـتَـقَينَــا فــي ظِــلاَلِ بَـشَـامَـةٍ وحَفَّـت بِنا الأحقَاف والأعـيُـنُ النـَّجـلُ
وغــنــى غَــزَالٌ كـالـغَـزَالَـةِ شَــــادِنٌ غَـــدَائِــرُهُ قـــبــل وأردَافُـــــهُ رَمـــلُ
وَوَجـنَـتُهُ صُـبـحٌ وفـي الـرِّيقِ خَـمـرةٌ وفـي طَـرفِهِ سِـحرٌ وفـي لَـحظِهِ نَـبـلُ
فـأَطـرَبَـنَا حَــتَّـى اضـطَـرَبنَا تَـوَاجُـداً وَرَقــص مَـشوق فـي تَـوَاجُـدِهِ سَـهـلُ
بِـنَـفـسِـى ذَاكَ الــيَـومُ لَـــولاَ رِسَــالَـةٌ مِــنَ الـبُـعدِ وافَـتنَا بِـها أرسَـل الـبَعـلُ
لَـظَلَّت عَـلَينا الـرُّسلُ تَـتَرى ولَـم نَكُن لِـنَـتَّـبَعَ فِـيـهَـا مَــا أتَـتـنَا بِــه الـرُّســلُ..
وصفوة القول أن محمد ولد أبن رغم كونه لم يبلغ من العمر عتيا فقد كتب الله الخلود إذا مايزال بشعره وإلى اليوم خالدا قي دنيا الناس مل ء أسماعها وابصارها لايضمحل ذكره ولايخبو وهجه !
محمدن أحمدو أحا
المصدر: مجلة الثقافة الموريتانية