العرب واليونسكو.. صوت العقل والاعتدال

اثنين, 10/13/2025 - 04:51

د. السيد ولد أباه

 

وأخيراً وصل العربُ لليونسكو بانتخاب عالم المصريات ووزير الآثار المصري السابق خالد العناني مديراً عاماً للمنظمة الثقافية العالمية. لقد اقترب العرب سابقاً مرتين من هذا المنصب السامي، الذي ترشح له سنة 1999 الأديب والوزير والسفير السعودي الراحل غازي القصيبي، في حين تقدم له وزير الثقافة المصري الأسبق الفنان التشكيلي المعروف فاروق حسنى عام 2007.

وفي هاتين المناسبتين كان المرشح العربي مؤهلاً بحكم ثقافته وخبرته لهذه الوظيفة العليا، لكن اعتبارات غير موضوعية حالت دون نجاحه. واليوم إذ فاز خالد العناني بهذا المركز في شبه إجماع عالمي، يكون هذا الاختيار تتويجاً لما وصلت إليه الثقافة العربية من إشعاع وتألق، رغم موجة العداء العارمة للحضارة العربية الإسلامية في بعض الأوساط الغربية. كما أن فوز الصوت العربي هو في الآن نفسه تكريس لثقافات الجنوب، بعد أن صارت منظمة اليونسكو المؤسسة الدولية الوحيدة الخارجة عن المركزية والتحكم الغربي.

بدأ هذا الاتجاه خلال الفترة التي أدار فيها المثقف السنغالي البارز أمدو مختار مبو المنظمةَ العتيدة (من 1974 إلى 1987) بعد أن تولي لسنوات مسؤوليةَ المدير العام المساعد المكلف بالتعليم. وخلال ولايته، انسحبت الولايات المتحدة الأميركية من اليونسكو (1984)، ثم تلتها بريطانيا (1986)، احتجاجاً على ما اعتبره البلدان تحيزاً ضد الثقافة الغربية وتسييساً راديكالياً للمنظمة.

والواقع أن اليونسكو في عهد مبو تبنّت مفهومَ التعددية الثقافية وحقَّ التنوع الحضاري، ودافعت عن التوازن والعدالة في نظام المعلومات والأخبار. وفي عام 1976 اعتمدت المنظمة الإعلانَ الدولي حول وسائل الإعلام الذي تحول إلى مشروع متكامل يهدف إلى كسر احتكار القوى الغربية للمعلومة، صناعةً وانتقالا، في مرحلة اتسمت بشدة الاستقطاب الأيديولوجي بين الشرق والغرب وببروز كتلة عدم الانحياز على خارطة العلاقات الدولية.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، بدأت اليونسكو العملَ على الدفاع عن حقوق التعددية الثقافية واللغوية، بما كرسه في عام 2001 الإعلانُ العالمي حول التنوع الثقافي، وقد تجسّد لاحقاً (عام 2005) في اتفاقية حماية وترقية التنوع في مجال التعبيرات الثقافية.

ما تترجمه هذه التحولات الكبرى هو أن اليونسكو غدت بالفعل إطاراً فاعلا للحوار الثقافي الكوني، ولم تعد غطاء لهيمنة ثقافية أحادية باسم العقلانية الحديثة. في عام 1952، ألقى عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي الشهير كلود ليفي شتراوس محاضرةً كبرى في اليونسكو بعنوان «العرق والتاريخ» (تحولت إلى كتاب مستقل)، انتقد فيها بشدة فكرة تراتب الثقافات والأعراق، معتبراً أن التعددية الثقافية المتوازنة هي شرط تقدم البشرية وإبداعها، بحيث يساهم كل مجتمع في صياغة الحضارة الكونية من خلال تقاليده المعيارية ومرجعيته القيمية الخاصة. لقد شكلت هذه المحاضرة وثيقةً نظريةً أساسيةً، انجرّت عنها نتائج حاسمة في تصور وضبط العلاقات الثقافية بين الأمم والبلدان.

وفي عام 1979 قدّم الفيلسوفُ الراحل جان فرانسوا ليوتار تقريراً شهيراً لليونسكو حول المعرفة، بلور فيه لأول مرة مفهوم «ما بعد الحداثة»، الذي عرفه بأنه نهاية السرديات الكبرى أي الأنساق الدلالية الشمولية التي كانت تحدد اتجاهاً أحادياً لحركة التاريخ، وتحتكر معاني الحقيقة والعقلانية.

ما بدأه شتراوس من نقد المركزية الثقافية الغربية كامتداد للنزعة العنصرية الاستعلائية، تواصل مع لويتار في بلورته لأفق ما بعد الحداثة، من حيث هو إطار خصب لحوار الثقافات والأفكار.

وهكذا تبنت اليونسكو في عهد مديرها العام الأسبق فردريكو مايور شعار الحوار الثقافي الذي تطور لاحقاً إلى فكرة تحالف الحضارات التي طرحها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 رئيس الوزراء الإسباني السابق خوسيه ثباتيرو. لقد كان العرب في هذه الحقبة بحاجة ماسة إلى إسماع صوت الاعتدال والتعقل للعالم في مواجهة حملة شرسة تسبب فيها المتطرفون والغلاة. ولذا راهنوا على إمكانية استخدام منبر اليونسكو لهذا الغرض، لكن حجم التشويه والرفض كان كثيفاً، بما حال دون نجاح تطلعهم إلى صدارة الصرح الثقافي العالمي.

لقد قالت لي شخصية فكرية عربية مرموقة، تبوأتْ مركزاً سامياً في اليونسكو، إنها قالت لأحد مديريها العامِّين السابقين: «إنكم ترفعون شعارَ حوار الثقافات، لكنكم لا تفهمونه إلا في إطار مركزي خصوصي هو الإطار الغربي الضيق، وذلك هو السبب العميق لرفض الصوت العربي الذي ترونه نشازاً ومضراً». واليوم بنجاح العناني، كُسر الحصار على الثقافة العربية، والأملُ معقودٌ على أن ينجح العربُ في إبلاغ صوت العقل والاعتدال إلى العالم.

*أكاديمي موريتاني