...
.....
صديقتي أمة الله،.. أختلف مع صديقتي في الطَّبع والطِّباع، اختلاف المشرق عن المغرب، نَتَعَاتَبُ ونتحاسب، نُقطِّع سجال التّصارُح بين المُهادَنة والمُداهَنة، ويظل التصالح صافيا.
نَحَتْ الفتاة مُبكرا منحى السياسة والحياة العامَّة، تُقاتل في دنياها بخيلها وخيلائها، اقتنتْ منها دكانا صغيرا -كان هو مبلغ جهدها- تعرضُ فيه ترسانة طموحها، وأطياف أحلامها.
أمري معها لله، لديَّ سبق إصرار على الأنوثة أنوثة، في السياسة والفكر والعمل كما في الحياة، وأكره الحدة والتشنج وتقمص التأنُّث، وأنفرُ من صنَّاع الأسلحة اللفظية، ومن مروِّجيها،.. لكن نحتاج أحيانا لأصدقاء بطعم الشَّطة الحارة، مثلما نحتاجها في طعامنا لكسر مذاق الرتابة، ..هذا تهيّؤ فلسفي لمُجاراة تقلبات صديقة من عدَّة طوابق، لا تريد أن تكون في عيشة راضية.
بَسطتْ صديقتي شبه وصاية شاملة على الحدَّة والشَّك، عَبَّت منهما بشراهة، فوقعت منها السَّكينة في غير مكان،.. خبيرة في الاستفزاز وتعتبره وجهة نظر، وأذكِّرها دائما بأن الاستفزاز في عقيدتي حالة مرضيَّة تقارب العَوَق النفسي، أكره التلون الذاتي وكلَّ متكآت الوصول بالتَّخرصات.
نحن نتواصل كصديقتين، رغم الضِّدية المتنافرة، وغالبا ما ألعبُ دور المُنصت المخلص،.. حين تلاحقني مُكالماتها المُتشكِّية من ضيق مزاج يخنقها،.. أكسُو صوتي مظهر العطف ولا أبخل في التخفيف عنها معزَّة: لا عليك غاليتي، باشري حقك المعتاد في إعداد وجبة ساخنة من اشهى نواقص خصومك ورهطهم وافرجي عنها، زوِّديها كالعادة برشة من السّب المُبوَّب في سفر الشَّحناء المقدَّس، وستشعرين بالراحة، بل ستسكرين انتشاءً من سَوْرة الإيذاء، ذلك ما أتوقعه مناسبا لتشخيص حالتها، بناء على خبرتي بأن صديقي تَحتَبس داخلها تشكيلة من العواطف اللاَّذعة، تكاتفتْ مع جرعة سامَّة من الطموح والظمأ المادِّي، لتصوغ طبعا جهنميًّا،.. وحين تتفاعل هذه المكونات في نفسيتها لا تستريح إلا بنهش فريسة آدمية وتهشيم عظام عِرضها، على زفة من مصطلحات قاموس ما تحت الإزار..
طوَّرتُ مع الزمن خبرتي في سلوك صديقتي، أخمِّن توقعات يومها من عدد رنَّات الهاتف، وأستشف من لفظة "آلو" اتجاه وجهد عاصفتها على مقياس الزوابع.. آلو!.. قذيفة فَمْ-أُذن!.. بُومْ، أرتَعبُ، أقلِّصُ فتحة سمعي لأحدَّ من اندفاع الصَّوت الحارق، ورغم الحيطة، أشعر بمخالب تذمّرها تنغرس في صيوان أذني، وتسدّه بعواهن الظنون.
ألَّفتْ صديقتي بلسانها تاريخًا من الصّراعات الضيقة والتنافس الأناني، الرَّابض على نزعة من فورة الطبع، لتصل لشيء على حساب أشياء منها صحَّة الوطن.
تطوَّر دكانها شيئا مَّا لفوهة بركان، حين تحولت أحلام صاحبته لأضغاث واهمة.
أساير صديقتي أحيانا حين تتجمّل ببعض الهدوء المؤقت، وتكسر راويَّ الحدَّة مُكابرة، لتخفي افلاس بضاعتها، لم يعد من زبون يطرق الباب، بعد أن نبتت كالفطر من حولها دكاكين بنفس البضائع النفعية،.. ضجرتْ من قذف سهام الغزل اتجاه جيرانها المنشغلين، وهي يغيظها التغافل عن أنوثتها المُشوَّكة،..
في سمر بحديقة بيتي قطَّبت عينها فجأة ورفعتْ هوائياتها قائلة: -أشمُّ تَربُّصَ مؤامرة!،.. -نعم؟،.. -ألم تَريْ أنَّ النسيم قلب منديلي الورقي، منْ أوعز إليه بذلك؟.. لم أجارِ هواجسها، فلَأنْ أرفع الأذان في صحن الفاتكان أهونُ عليَّ من إقناعها بترك مُماحكة نسيم لا يهتمُّ لخيْباتها،.. كلّما في الأمر أنَّ الحظ يجزع منها عابسًا، يعدو في الاتجاه المعاكس، ويشاكسها الحلم المنكسر بأن تكون شيئا يذكر، وهي لا تفهم!.. لماذا؟، لستُ أدري،.. أضحكُ كلما ما اكتشفتُ معها أنَّ الصقور تتجرأ على المغازلة الجزافية،.. وهل تصلح عين الصقر للتسبيل؟.. عيون لها منقار!
صديقتي تتوشح بشيء معطوب يتسمَّى بالمبادئ، من ضمن أسماء أخرى متداخلة المعالم، لكنها تعرف أني بصيرة بما تحت الوشاح، وأني أدرك أن الوطن لا يتجاوز عندها استلام حِصَّة.
عاشت صداقتنا وعلى رأسها.. الطَّير.
--------
وجوه .. قصة الوجه الثالث / الدهماء ريم