
حين أخرج زرع الإذاعة شطأه، واستوى على سوقه، ودرجت سنابله الخضر إلى السموق، واستحصدت وانحنت ترد إلى الأرض شيئا من وفاء، وبدأ الناس ينسون الشهب الشداد، وحلموا بعصر فيه يغاثون ويعصرون، شحب الأفق، وتلفعت الشمس بضحى شحب كملاءة من رماد، تنفست الأرض فيحا، وقلست سموما، وعصفت ريح العجاف تأكل الخلق ناحلا وسمينا، ضمر البحر فريئت تجاويفه، وسُمع سعاله، وسؤاله الرملَ محارة من ماء أجاج يرطب بها شقوق حلقه..
فولت البدريات معولة كثكالى أكلت أفئدتهن المحن، وأثخنت فيهن مخالب الزمن..
مأساة المدرس، والصحفي، والطبيب أن نجومهم تأفل حين يصعدون..
أظهر عبد الله ولد محمدو في حديثه ثقافة موسوعية خالية من الشطط، والاستعراض، وجنون الانبهار بالذات..كانت مسحة التواضع، وآثار التنشئة، والتربية، مهيمنة على شخصيته، رغم ما ذكر من استقلاله الفكري المبكر في بعض النواحي الاجتماعية(الموقف من الرق مثلا..)..
تابعت بودكاست مبتدأ مع السيد عبد الله محمدو، الصحفي الذي أحببنا صوته في الإذاعة الوطنية نهاية السبعينات. وبداية الثمانينات..كان الثنائي عبد الله محمدو، ويحيى حي صوتين عابرين إلى وجدان الشعب في ربوع موريتانيا، باختلاف أعماره، ومشاربه، ومستوياته..
وظلت عناوين البرامج الإذاعية في عهدهما جذابة، محكمة، منتقاة الألفاظ، أذكر منها:(جسور عبر الأثير)، لا أعرف معده، وأظن أن قارئ العنوان هو عبد الله ولد محمدو، كان يؤديه بحنجرته العسلية الرائعة..
طغى الجانب السياسي على الحديث، تحدث عن التنظيم السري البعثي، البدايات، والمحطات، والمآلات، حديثا مفصلا عرف فيه بمراحل مهمة من تاريخ التنظيم، وجيله الأول، والثاني..ثم عن الكوارث السياسية التي تعرضت لها الحركة في عهد هيداله، ومعاويه..تحدث عن جحيم التعذيب في عهد هيداله، وحتى سرده لبعض فقرات التعذيب كانت عذابا لا يحتمل، وحشية لا تتخيل، وسادية بلا حدود..لفت نظري أنه تجنب الحديث عن التفاصيل الخاصة به، علل ذلك بالخوف من الانتقام. وبفضيلة التسامح..
ركز على حالتين من حالات التعذيب-وهي كثبرة، منها الجكوار. والحرق، والصعق، وصب الآسيد، والتعرية، وصب الماء البارد في الشتاء، والتجويع-تخيلت مرة أنه يتحدث عن معاملة الجيش الإس.رائ.لي لأهل غ.زة- ركز على حالتين مع رجلبن سماهما لوحشية ما تعرضا له، كان الجلادون يصبون على أحدهما الآسيد حتى تشوه جلده، والآخر كانوا يكبلونه، ويوقدون النار، ويحمله الرجال ويمررونه فوقها كما يشوى الديك، وتطلبت حالته أن يلف جسده بالضمادات، وتحدث عن أمر خطير هو التهديد باغتصاب النساء، تماما كما يفعل الجيش الص.هيوني بالف.لs.ط.ينيين..
وذكر أنهم احتجزوا في غرف ضيقة فيها آثار مساجين ماتوا بالتعذيب والإهمال، والمرض(السل)..
هذه الفقرة من حديث الرجل لا يمكن تخيلها، وقد قرأنا صنوفا من تعذيب الناصريين شبيهة بها، بل أدت إلى الاستشهاد..
تحدث عبد الله عن مرضه في السجن، واحتجازه في المستشفى ستة أشهر تحت إشراف أوروبيين، واكتشافه مغالطة الأمن للأطباء الأجانب حيث أخبروهم أن المساجين بدو تقاتلوا على الآبار، والملكية الأرضية، وكانت أشكالهم مثيرة، الشعر الثائر، والوجوه الشاحبة، والأجسام الهزيلة، من التجويع، غياب الحلاقة، والمرض..تراءت لي لقطة وأنا أسمع حديث الرجل من وجوه نزلاء السجون الإs.رائي.لية..
وسمع الأطباء يتحدثون عن هذا، ويصدقون رواية الأمن الباطلة، لكنه صحح لهم الأخبار رغم حضور عناصر من الشرطة وحاولوا منعه من الكلام...وسرد القصة كلها للضابطين الأوروبيين، اللذين بلغاها لمنظمة العفو الدولية..
لم أكن أعلم أن عبد الله محمدو بدأ في الإذاعة مذيعا باللغة الفرنسية، إذ شارك في مسابقة اكتتاب مذيعين باللغة الفرنسية. وتصدر الناجحين، وأغضب ذلك أهله في بوتلميت..
ومن المواقف الطريفة قدوم عمه على مدير الإذاعة ليطلب منه فصل عبد الله عن العمل، ذكرني هذا بطرفة مماثلة:( جاءتني عمة تلميذة تطلب أن تطرد من المدرسة لأنها رفضت الزواج من ابن خالها)..
تشعر في تضاعيف حديث ولد محمدو بغصة مرارة تأبى أن تذوب في أمواج نبرته التسامحية، ودعوته إلى تجاوز اللحظات المؤلمة، ومن آلم الأوجاع تراكم الخيبات، وإنكار الفضل، وتجاهل الأثر الطيب، وقد جاء: إذا أنكر الفضل جاز المن..
السجن، والتعذيب، وقطع الراتب، والطرد من الوظيفة، ومسح بعض سنوات الخدمة من تعويض المعاش، تجارب قاسية، لكنها تصنع الرجال..
ذُكر أن الرئيس المختار ولد داداه، ووزراؤه جميعا سجنوا، وقطعت رواتبهم عند الانقلاب، وخرجوا لما أطلق سراحهم في عهد ولد بوسيف يبحثون عن أسباب معاش..
تحدث عن بعض مشاكل التسيير، ورفضه الرضوح لضغط الصرف غير المبرر، وسجنه بعد ذلك بتهمة إحضار جواسيس من اليمن والعراق والصرف عليهم من ميزانية الإذاعة، وبين بطلان التهمة، وتهافت أدلتها..
كشف في حديث آخر مخاطر الممولين واستنزاف المبالغ الضخمة من المديونية التي تتحملها الأجيال اللاحقة، حيث يتقاسمها الممولون، ووكلاء التنفيذ، والمشرفون، وتزييف التقارير للممولين الأجانب بالتواطئ مع الوكلاء المحليين، وهنا رفض الاستفادة من مبلغ صخم مقابل تقرير مزيف عن إحدى المصالح المستفيدة..
...ألخ. عفوا لن أتحدث عن الحوار لأكرر ما ورد فيه، لكنني كنت أود من السيد عبد الله ولد محمدو أن يذكر أسماء جلاديه، ومعذبيه، المتلذذين بآلامه، لأن ذلك حقه، وحق الأجيال، وحق التاريخ نفسه أن يذكر الظلمة، والجلادون، والساديون، ففي ذلك تحذير للسجانين، وتوقيف لأوجاع السجناء. وإهانتهم، وتعذيبهم المعنوي، والجسدي في المستقبل، والتشهير بالمجرم من أمضى أسلحة الردع.
اقترحت هذا أيضا على العميد الشيخ بكاي، فإن لم يشهر بالجلادين يكن الحديث عن السجون في سنوات الجمر تسجيل جريمة ضد مجهول...
كان حديث الأخ عبد الله ممتعا، تحكم في عباراته، وألفاظه، فلم يستطع المحاور أن يقوله ما لا يحب أن يقول. ولم ترغمه بعض اللحظات على التعجل عن الانتقاء..
أعجبني فيه ذكر ما اقتنع به من محاسن معاوية رغم أنه عزل، وسجن في عهده أيضا، وشجاعته في رفض نشر الأمسيات الفنية والأدبية التي تقام في زيارات معاوية الداخلية، رغم رأي لوليد ولد وداد، ومعاوية نفسه، وأعجبه تفهم معاوية لمبرراته لما ذكرها له..
لم يتسلل ولد محمدو ليسجل ركلة تصفيق للنظام كما يفعل كثير في مثل هذه اللقاءات المصورة...
اختفى عبد الله ولد محمدو مبكرا عن حقل شارك في نجاحه، وأعطاه بواكير تجاربه، ومهارته المتشعبة..
لكنها كانت بالنسبة له ضارة نافعة، فأتاحت له خدمات بعيدة عن مجاله الأصلي بفضل بعض الأقارب، والأصدقاء، ووفرت له حياة حرة، هنيئة بعيدة عن ضغط السلطة، واسترقاق الموظفين الرسميين..
وتبقى إزاحة الرجل عن قمة صنعها بنفسه، من عطائه، وتضحياته، في عز شبابه، وعنفوان توثبه وحماسه ظلما لا يغتفر..
أرجو أن أحصل على نسخةورقية من كتاب:ضيافة ملائكة العذاب..










