
د/ أحمدو ولد آكَّـاهْ
أستاذ متعاون بالمدرسة العليا للتعليم
ورئيس تحرير جريدة الشعب المكلف بالإنتاج
_________________
فيض المنان في الرد على مبتدعة هذا الزمان عبارة عن رسالة ألفها سنة 1247هـ في مدينة "برقة" بليبيا "الطالب أحمد ابن اطوير الجنة" المتوفى سنة 1265هـ، وقد حققها حفيد المؤلف المسمى هو الآخر "الطالب أحمد بن سيدي أحمد ابن اطوير الجنة" تحقيقا لا يزال مرقونا، وقد طبعت طبعة حجرية في فاس، وتوجد منها نسخة على الميكروفيلم بالخزانة العامة في الرباط تحت رقم: (1083 هـ)، وأخرى على الميكروفيلم أيضا في المعهد الموريتاني للبحث العلمي.
وبما أن المحقق لم يعتمد هذه النسخة الأخيرة، وهي قديمة عتيقة؛ نظرا لأن أصلها في مدينة "تيشيت" التاريخية، فقد آثرت الاعتماد عليها خاصة مع وجود فوارق بينها مع نظيراتها إتماما للفائدة.
مضمون الفيض:
ينقسم "فيض المنان" إلى: مقدمة، ومتن، وخاتمة.
أما المقدمة فقد تعرض فيها لحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين، إضافة إلى سبب التأليف ومكانه، وتسميته لكتابه.
وأما المتن - وهو صلب الموضوع - فقد أثار فيه العديد من القضايا في أسلوب جدلي يعتمد منهج الرد بقوله مثلا، فإن قالوا (كذا) فالجواب (كذا) ومن بين القضايا التي أثار في رده على المبتدعة - كما يسميهم - القضايا التالية:
أ- تحديد مكانهم، وتصنيفهم دينيا، وتبيين دعاواهم التي يعتبرها باطلة، يقول: " وأما هذه الطائفة في أرض الغرب من "فاس" إلى "الإسكندرية"، فإن صح ما نقل عنهم من الأمور المحدثات المبتدعات فهو دائر بين أمرين: إما كفر صراح، أو ابتداع أدنى أمره أنه جناح، (وفي الحديث): وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار...
ومن تلك الأمور أنهم يدعون دخول الجنة والصعود إلى السماء، وأنهم يرون الحور العين، ومنها: أنهم يغيرون اسم الجلالة، فيقولون: "الله" بحذف الألف، ومنها: أنهم يقولون في آخر الذكر: آه، آه،آه، بحذف جميع حروف اسم الجلالة كلها إلا الهاء، فهذا كله كفر..."قال: (الطويل)
إِذَا مَا ذَكَرْتَ اللهَ عَظِّمْ حُرُوفَهُ
بِلَفْظٍ وخَطٍّ وَاعْتِقادٍ مِن الْقَلْبِ
وقد أنشد عالم من علماء السنة في ذلك قوله: (الرجز)
رَوَى عِياضٌ أَنَّهُ مَنْ غَيَّرَا
حَرْفاً مِن الْقُرْآنِ عَمْداً كَفَرَا
زِيادَةً أَوْ نَقْصـاً اوْ إِنْ بَـدَّلا
شَيْئـاً مِـن الرَّسْمِ الَّذِي تَأَصَّلا
ومن أقوالهم الباطلة أقوال الزيغ والضلالة أنهم يقولون: طريقتنا هذه هي طريقة كشف الحجب عن العبد، والله إن طريقتهم تلك لهي الحجاب الأعظم... "ومما يحكى عنهم مما هو منكر في الشريعة المطهرة أنهم يدعون رؤية البارئ ـ جل جلاله ـ.
وهذا منكر عظيم بالنسبة للجهلة المبتدعة؛ لأن رؤية البارئ على القول بها لا تصح إلا لكمل الأولياء الذين فرغوا من تأديب أنفسهم، وهذبوا ونقحوا العارفين بعلوم الشريعة كلها من تفسير القرآن، والحديث رواية وصناعة، والفقه، والتوحيد والأصول والمنطق والبيان، والعربية، واللغة.
فالجنيد إمام الصوفية لم يدع رؤية البارئ ـ جل وعلا ـ ولم يدعها قطب الأقطاب سيدنا "عبد القادر الجيلاني"، و"سيدي أحمد البدوي"، و"سيدي أحمد الرفاعي"، و"سيدي إبراهيم الدسوقي"، وسيدي "أبو الحسن الشاذلي"، وشيخه: "عبد السلام بن مشيش"، وتلميذه: "أبو العباس المرسي"، وتلميذه: "ابن عطاء الله"، وسبعة رجال المشهورون بمراكش... وغيرهم من كمل الأولياء، وما منهم من أحد إلا وهو يعرف العلوم المتقدمة، ثم يشتغلون بعلوم الصوفية، وما منهم من ادعى رؤية البارئ، وولايتهم أشهر من نار على علم، فكيف يدعيها من لا يعرف معبوده ولا يعرف أحكام نفسه؟
والصحيح عندهم عدم جواز رؤيته في الدنيا لحديث عائشة المشهور في صحيح البخاري ـ رضي الله تعالى عنها ـ:"من زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم ـ رأى ربه ليلة الإسراء فقد كذب، أو كما قالت... فهذه عائشة الصديقية تقول ذلك في أفضل الأولين والآخرين... ما قالت..".
ويعتبر "ابن طوير الجنة" أن قتال هذه الفرقة واجب على القائمين بأمر المسلمين حتى يستسلموا كما فعل في بلاد شنقيط ببعض المبتدعين: " فواجب على من بسطت يده في الأرض مثل ولاة الأمر والسلاطين أن يرسلوا لهذه الطائفة وأمثالها جيشا عظيما كل واحد منهم في يده السلاح، فيقهرونهم قهرا كليا على التفريق بينهم، فيأخذون بيد كل واحد من الطائفة المبتدعة، فيردونه إلى أهله وعياله وماله، حتى لا يبقى منهم اثنان مجتمعين، فتخمد البدعة.
فإن امتثلوا، فلا يزاد على ذلك التفريق قهرا وغلبة، وإن لم يمتثلوا ضربوا وأخذت أموالهم التي جمعوها من السحت، كما فعل بعض ولاة أرضنا، وهو "اسويد أحمد بن محمد بن محمد زين" - رحمة الله عليهم أجمعين ـ.
فالطائفة التي هاجت بأرضنا، قال لي: قل لهم: إن الذي منعني من أكل أموالهم هو أنت، فإن تفرقوا أمسكت عنهم، وإن لم يتفرقوا أكلت ونهبت أموالهم؛ لأن العقوبة بالمال جائزة، فجاؤونا فتابوا على أيدينا، ورجع كل واحد منهم إلى أهله وعياله وماله، فخمدت البدعة..." من الواضح هنا أن "الطالب أحمد يريد تطبيق هذه الخطة التي نجح بها في تفريق بعض المبتدعة في بلاد شنقيط على نظيرتها التي ظهرت في "طرابلس" و"فاس" وما بينهما.
ب- الرد عليهم بطريقة " سؤال وجواب":
وذلك حين يطرح سؤالا ثم يجيب عنه، وسنورد هنا بعض الأسئلة التي أثارها، والأجوبة التي رد بها على الأسئلة:
- فإن قيل كيف تسمون القوم الذين هم على هذه الصيغة ؟
فالجواب: أن تقول: خوارج، قال إسماعيل بن إسحاق القاضي في أحكام القرآن: كل من ابتدع في الدين بدعة فهو من الخوارج.
- فإن قيل كيف ذلك، وهم يدعون الكرامة، والفراسة، ويرون بنور الله تعالى، وتظهر لهم بركات وإشارة يقين بلا شك...؟
فالجواب: أن تقول: ظهور هذه الأشياء لا يخلو من أحد أمرين: إما أن تظهر على يد مبتدع، أو على يد متبع، فلا شك في صحتها، وصحة استقامته وإخلاصه، إن شاء الله؛ لأن كل ما يقع لنبي من المعجزات جاز أن يقع لولي كرامة.
وإن ظهرت هذه الأشياء على يد مبتدع، فلا يشك عاقل أنما هي مكر من الله تعالى واستدراج وفتنة لمن علم الله شقوته وأراد ضلالته، قال الله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ولا يغتر عاقل بذلك، ولو رأيتموه يطير في الهواء، ويمشي على الماء.
جـ قضية المناداة في السر:
وهنا يرد "ابن طوير الجنة" عن نفسه حيث يقول: "أحيانا إنه ينادى في سره، يقول: وبلغنا أن بعض أهل "طرابلس" يطعنون في قولي: "نوديت في سري" ولقد صدق فيهم قول القائل، وهو من النظم العجيب والسبك القريب، وهو الولي القطب الشيخ سيدي أحمد زروق ـ رضي الله عنه ونفعنا به ـ آمين: (الوافر)
وَكَمْ مِنْ عائِبٍ قَوْلا صَحيحاً
وَآفَتُهُ مِن الْفَهْمِ السَّقيمِ
وَلكِنْ تَأْخُذُ الأَذْهَـانُ مِنْـهُ
عَلَـى قَدْرِ الْقَرائِـحِ وَالْفُهُومِ
والمنكر لما لا يعلمه معذور، والمتعصب مذموم بادعاء ما ليس من أهله...(وقال) إمامنا مالك - رضي الله تعالى عنه - في مسألة خليج "الإسكندرية" في العتبية: عليك بالذي لا تشك فيه، ودع الناس ولعلهم في سعة".
وفي الخبر: إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعرفه إلا العلماء بالله، فإذا ذكروه أنكره أهل الغرة بالله".
(وقال) "زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين: (البسيط)
يا رُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أَبُوحُ بِهِ لَقيلَ لِي أَنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْوَثَنَا
وَلاسْتَحَـلَّ رِجَالٌ مُسْلِمُونَ دَمِي
يَرَوْنَ أَقْبَـحَ مَا يَاتُونَهُ حَسَنَا
... هذا التسليم المذكور لمتبع السنة أو مجذوب مغلوب على عقله، فهذان لا يعترض عليهما، أما من لم يكن متبعا للسنة، ولم يكن مجذوبا فيجب الرد عليه حتى تخمد بدعته".
أما خاتمة "فيض المنان" فقد بين فيها مكان ابتداء رسالته وانتهائها، وتاريخ ذلك داعيا الله لنفسه وأهله وإخوانه المسلمين محذرا من الجرأة على الانتقاد، وكأن لديه إحساسا ما بأن رسالته ربما تواجه بعض الانتقادات من غلاة المتصوفة الذين هاجمهم ورد عليهم ردا عنيفا، يقول: "وكان ابتداء هذه الرسالة المليحة الصحيحة الفصيحة في محروسة "درن" ثم "طرابلس" وتمامها في محروسة "تونس" منسلخ ربيع الثاني عام ثمانية وأربعين ومائتين وألفين بيد جامعها ناقلا لا قائلا الطالب أحمد المصطفى بن اطوير الجنة الواداني ـ كان الله له ولوالديه ولإخوانه ولجميع المسلمين وليا ونصيرا ـ... وفي المثل عليك بالاعتقاد، وإياك والانتقاد، وفيه: اعتقد ولا تنتقد، ولا تطمئن لأحد".
القيمة الصوفية
يجدر أن نشير أولا إلى أن رسالة "فيض المنان في الرد على مبتدعة هذا الزمان" من أهم الكتب التي ألفت في التصوف من طرف الشناقطة؛ نظرا لأنها تمثل وجهة نظر تنحو منحى التصوف السني حيث يرد صاحبه على غلاة المتصوفة متمسكا بالكتاب والسنة ونابذا ما ينسب إلى التصوف من الأمور المخالفة لهما، ثم إنه من أقدم النصوص الصوفية الشاذلية الشنقيطية، وأنه ألف خارج البلاد، وفوق ذلك كله لقي رواجا كبيرا في المغرب الأقصى حيث أمر السلطان المولى "عبد الرحمن بن هشام العلوي" بسرد نصاب منه كل يوم بجامع القرويين ما بين أذان العصر وإقامة الصلاة، وذلك لما قدمه "ابـن اطوير الجنة" إليه بعد رجوعه من رحلته إلى الحج؛ ويدل هذ الأمر على بالغ الاهتمام حيث صادفت هذه الرسالة هوى في نفس السلطان المغربي.










