تقديم الأستاذ/عبد الله ولد محمدو
زخر التراث العربي الإسلامي والتراث العالمي عموما، بالأعمال الأدبية التي توظف الحيوانات للتعبير غير المباشر عن وقائع أو حقائق، لا تتقبلها بعد، الذائقة الجمعية أولا يتسع لها صدر أولى الأمر أولا يجرؤ المبدعون على تحمل تبعات التعبير عنها.
قد يعوض الكاتب عن حريته المصادرة ضمن المجتمع أو المؤسسة السلطوية، باستنطاق الحيوانات وليس الأمر جديدا ...ليس جديدا أيضا أن يختار أحدهم الحمار- أكرمكم الله - بطلا لقصة أو رواية أو أحد الشخوص فيها وإن عد الحمار، في المنظور التراثي الموريتاني، مضرب مثل في الغباء ،"لا يصلح بدنه إلا للعذاب ولحمه للكلاب".
صورة الحمار، تختلف عند شعوب وأمم أخرى عن صورته عندنا، فهو قد ينزل منزلة معتبرة وينظر إليه كحيوان صبور، وفي، كادح وخير سند للإنسان، يصاحبه ويساكنه في أصعب وأحلك الظروف ويرضى منه ويقبل بأكثر المآكل والمشارب، خشونة وأسوء المعاملات وأشدها إجهادا وإضناكا.
من آخر من قرأت لهم من "العظماء" الذين يعلون شأن الحمار، الرئيس الفرنسي السابق "فرانسوا متيران" الذي ربما طغت شهرته السياسية على جزالة إنتاجه الأدبي والفكري .قرأت له في أحد كتبه المعمقة، إشادة عظيمة، ب"حليفنا" الحمار الذي رضي بمسكنتنا في كل الظروف والانتقال معنا إلى أي مكان، حتى أنه لم يتخل من أجلنا عن "وحشيته" فقط وإنما تنازل أيضا عن ريفيته وجاء معنا من البدو، فتحول من حمار ريفي إلى حمار مدني.
كل ذلك ليس جديدا على الموريتانيين، فهم عرفوا كل أنواع الحمير من الحمر المستنفرة إلى حمار جحا وحمار الحكيم... الخ ولكن الجديد أنهم اليوم يكتشفون حمار الجيلاني وهو حمار ريفي، يسكن المدينة ويكتب مذكراته.. والجديد أيضا أنهم أو بعضهم، على الأقل، عرفوا الجيلاني، سياسيا ورجل مبادئ وعرفوه فنانا يرسم الكاريكاتور واللوحات الزينية وعرفوه كاتبا صحافيا لبقا يمتشق قلما ساخرا، له قدرة فائقة على اختزال المشاهد المؤلمة والمفرحة للحياة اليومية، في زاوية أو عمود أو لوحة صغيرة.. والآن يكتشفون الجيلاني، كاتب القصة والرواية ولا ندري، أي جيلاني، سينبغ غدا أو بعده، من وراء السجوف!
الجيلاني هو بالفعل، شخص متعدد المواهب، على درجة عالية من رفاهة الحس والدقة في التعبير عن مشاعر وخفايا الواقع، وتعبيره يكون غالبا، تعبيرا لاذعا ساخرا ومختلفا، لكنه دائما، تعبير صادق وقريب من الواقع.. وسنكتشف من خلال مذكرات حمار ريفي، قدرته على التحكم في إدارة عالم أنشأه إنشاء حول حمار وأتانه، تختزل قصتهما ،مشاهد وظواهر وتحولات أدراماتيكية، يعيشها الإنسان الموريتاني.
في البداية، يخيل إليك وأنت تقرأ القصة، أنك إنما تستمع لحديث رجل ريفي محب لباديته ومزهو ببساطتها ومتوجس خيفة من المدينة وتعقيداتها.. حديثه إلى زوجته، الأنثى الجسور التي تهفو روحها، بعنف إلى حياة جديدة وتسعد بالرحيل إلى المدينة ولا تخفي تمردها وبغضها لما هي فيه من إصر وبؤس.
سعادة الزوجة لا يفسدها، كونها سلعة تباع وتشترى.. سيدها الجديد يدفع ثمنها للسيد الأول.. لا ينتابها القلق، فهي متفائلة وواثقة وكأن الذهاب إلى المدينة هجرة أوفتح عظيم (أليست المرأة الموريتانية شديدة التوق إلى المدينة والشغف بالأسفار وبكل ما هو جديد؟)
كل ما تقدمت مع القصة خرقت ذهنك، أخيلة شبكية المعاني والتأويلات، تتولد من الأحداث.. أليست هذه إشارة إلى الرق، أليست تلك قصة تعاقب الخير والشر وهل تكون جسارة الأتانة وتردد الحمار، تعبيرا عن اقتحامية زائدة عند المرأة الموريتانية وتخاذل في غير محله لدى الرجل.. هل تغيرت الأدوار كما تغيرت الأسماء والصفات والمعاني وحتى الألوان؟
تستوقفك في القصة، أحداث وحوارات هي من وحي والهام المدينة وينطبع في ذهنك ،انطباع أنك قد رأيت هذا من قبل أو سمعت به: النفاق، التشبث بالمبادئ، الدوس عليها ورميها في سلة المهملات، جمال المكياج المصطنع وبعد رهبة إذا بالفاتنة المحبوبة التي تضع الساعة في معصمها وتمارس التجارة ولها غرفة نوم، مجرد أتانة، وليس أمامها إلا حمار مغلوب على أمره أفقده العشق رجولته في سذاجة وربما حوله إلى ديوث، يحرس البيت وتأسره امرأته بجمالها وبالهدايا والعطايا التي تحضر له.. ومرة أخرى، تتغير الأدوار، الرجل تتحكم فيه المرأة والمادة فيصير مثل الديوث.. ولكنه ديوث حالم.. ينظرك السماء وقد ازدانت بالنجوم والكواكب وتلألأت أنواع بها وبمذنب هالي (الجيلاني الفلكي؟).
حقائق بالمدينة والريف، المجتمع بريشته، تتعاقب أمام ناظرياه: بساطته وصدق وتقى (كيف حال أهل المدينة، هل يصلون ويصبحون) وفسق وسبق وفجور.. وفي إحدى قمم الفعل، يسود الفساد ويتحول الغش والخداع إلى سلوك راق تتعامل به علية القوم وصفوتهم ويتحقق به النجاح.. وثم لا يفارقك تغيير الأحوال (أكدت علي.. أن أحلق لحيتي) فحمارنا مطالب بأن يجاري نظراءه الجدد.. ولما نظر في المرآة، بعد حلاقة لحيته وهو الذي فوت عليه الحياء في الماضي، فرصة النظر إلى وجهه أيام نضارته اكتشف أن وسامته، تخوله تقمص شخصيته الجديدة المفروضة عليه: رجل الأعمال الناجح (رغم أميته وجهله وفقره) وربما يكتشف لاحقا، أنه لا يختلف في شيء عن زملائه الناجحين المبجلين، أصدقاء زوجته المصونة، فهم أربعتهم، تعبير صادق عن واقع المجتمع وترجمة "للتحول والقيم الجديدة" السائدة على سبيل المثال الكزار الذي ما يزال موظفا ساميا في الدولة وهو مع ذلك رجل أعمال ناجح.
وما تزال القصة، تصعقنا بالمزيد المزيد من التحولات والتناقضات:
- القصر الفخم: هو في نفس الوقت حظيرة لحيوانات داجنة.
- اندثار الأخلاق: المسؤول وهو يتابع فلما خليعا.
- تدمير المحيط والبيئة: يطبخ غزالا اصطاده.
- المجاملات: ضحك وتبعه صديقي، فضحكت أنا دون أن أعرف لماذا..
- البذخ والإسراف: أقداح طافحة بكل أنواع الألبان والمشروبات.
- السمسرة، الرشوة، التزوير: نصيب بوفيم ورخصة السباقة.
هذه القصة تقدم لنا زيادة على التشخيص وإبراز مواطن الداء في واقعنا، دروسا بليغة وخطيرة، منها أننا في حياة، كل شيء فيها قابل للتغيير فحتى عمود الكهرباء يتحول بالتزوير إلى سيارة والحمار إلى رجل أعمال ناجح والرجل السوي إلى فاسق أو مخنث.. ثم المال المطلوب المحمود يقود إلى التهلكة وحتى الشر ينقلب على الشر والشريرين، كما ينقلب السحر على الساحر.. إنها قصة تضعنا أمام مسؤولياتنا وتحشرنا بمفردات متناثرة في مختلف مراحلها (من النضال والسمنة والاستبداد والتنكر للمبادئ والموت..) وسط عالم يحتدم فيه الصراع بين قيم الخلود وقيم الحياة الجديدة.
ظواهر كثيرة من ظواهر التحول ، تثيرها "مذكرات حمار ريفي" في قصة قصيرة، تتلاحق أحداث جزئها الأخير، تلاحقا مزعجا ربما أوحت إليك بأن الكاتب قرر فجأة التخلص من إدارة كل تلك المتاعب أوانه تعمد إنهاء القصة على نسق غير اعتيادي وغير متوقع..
وتحمل إليك اللقطات الأخيرة مثل موت الزوجة والوليد أمام بوابة المستشفى وتوبة بو فيم من التناقض والدلالات والإيحاءات ما يبقيك مشدودا ومشدوها حتى بعد الفراغ من القراءة.
ستستعذب الفحوى والمضامين ولكنك، أيضا، ستتمتع برشاقة ولباقة لغة القصة والصور الجميلة التي تتخللها
"كأن ضوء الصباح يضعف ضوء مصابيح السيارة" ولم نكن نحتاج إلى مبادلة أقدامنا في المطار، فالأرض تسير بنا؟.
وأخيرا نفرغ من هذه القصة وقد تعلمنا، دروسا عن صناعة الفساد والإفساد، قبل أن يباغت الموت ونكتشف أن كل ذلك كان حلما وهزلا.. أليست حياتنا، محض هزأة وأحلام!؟
مذكرات حمار ريفي
......اليوم جاءتني زوجتي وهي تكاد تطير من الفرح. حاولت أن اعرف سبب فرحتها بفراستي لكني لم أجد قرينة ابني عليها، فاليوم يوم "ارواية1" وهو يوم الأشغال الشاقة بالنسبة لنا،ومن المفترض أن يكون التفكير في بعد المسافة من "الحاس2"ووعورة الطريق وثقل القرب المملوءة بالماء كاف لأن يملأ قلب أي كائن بالحزن والاكتئاب.
بيد أن زوجتي لم تترك كثيرا من الوقت للتخمين في سبب فرحتها، فأخبرتني وهي تغني بكلامها:
-سنرحل إلى المدينة غدا، سنذهب إلى المدينة
قلت مستغربا
- أية مدينة؟
- العاصمة، غدا سنذهب إلى العاصمة ،لقد باعنا سيدنا لذلك الرجل الذي يقف بجانبه وأشارت بيدها.
- رأيت سيدي وهو يعد أوراقا ثم يضعها في جيبه، ثم يضع يده اليمنى في يد الرجل معلنا إمضاء البيعة بينهما.
التفتت إلي زوجتي وهي تقول:
- أرأيت، آه سنصبح من أهل المدينة ،وأخذت تدور حولي وهي ترقص ثم توقفت وقالت
- الست فرحا بأننا سنترك الريف؟
قلت: لست أدري يمتلكني شعور مزيج بين الخوف والفرح وأشياء أخرى
- أوه، انتم معشر الذكور دائما متشائمون!
- صدقيني ليس الأمر تشاؤما بل.. لست أدري
- آه رأيت لقد قلتها، لست تدري.
كان الليل قد بدأ يغطي التلال المحيطة بنا فنادتني زوجتي إلى الفراش، نحن أهل الريف ننام عادة مبكرين.
لم انم تلك الليلة، من الخوف والقلق ولم تنم زوجتي من الفرح، التفتت نحوي قائلة:
- أنت لم تنم مثلي؟
فقلت، لقد هجر النوم أجفاني
---------------------------------------
1-جلب الماء من البئر في الريف
2-الحاس البئر
- هذا ما حدث لي أنا أيضا من الفرح. لا بد أن نفس الشيء حدث لك.
قلت في نفسي: الأشياء في هذه الحياة تتشابه في ظاهرها، الفرح والخوف كلاهما يؤرق، كلاهما يقتل، الحب والكراهية كذلك..
بقينا نتقلب في الفراش، هي من الفرح وأنا من الخوف حتى السدس الأخير من الليل حيث سرق النعاس كلانا.
لم استيقظ إلا وأشعة شمس الصحراء تلفح جسدي. كانت أول مرة ارقد فيها "الصبيحة"1
لم أكد استيقظ إلا واهتز الفراش بي، لقد استيقظت زوجتي هي الأخرى وأخذت تصرخ
- إنا لله، لقد تأخرنا، لقد تأخرنا......
- ولم تكد تستوي واقفة حتى جاء الرجل الذي اشترانا واخذ يسحبني بأذني فنظرت إلى سيدي، أحسست بحزن عميق يتملكني وأنا على وشك فراقه،وهو الذي طالما تمنيت أن احمل نعشه على ظهري،لكني الآن وبعد أن تأكدت أني لن أراه ثانية أحسست بالحنين إليه وإلى شتائمه التي كان يمطرني بها لأدنى سبب ،إنها الألفة!
اخذ الرجل يسحبني بأذني، التفت إلى سيدي الذي باعني ابحث في داخله عن لوعة الفراق ،كان قلبه خاليا إلا من النقود التي استلمها ثمنا لي ولزوجتي.
تذكرت زوجتي واستدرت خلفي فلم أرها ، انتزعت أذني من الرجل وأنا في حالة من الهلع لا تكاد توصف ،أخذت ابحث عنها في جميع الاتجاهات، رايتها تعدو أمامنا وهي في غاية السعادة.
قلت في نفسي أنا لست رجلا.. لماذا هذا الخوف الذي يتملكني ويجعلني متخاذلا إلى هذه الدرجة وهذه زوجتي الأنثى الضعيفة تتقدم أمامي بخطى ثابتة وإيمان لا يتزعزع. تذكرت ما قالته لي عندما قلت لها إني خائف من المدينة:"انتم معشر الذكور متشائمون دائما"، فربما كانت على حق........................
وصلنا المدينة بعد رحلة شاقة ،عندما دخلنا شوارعها خيل إلي أن الدنيا تدور من حولي، كل شيء يتحرك، السيارات الناس وحتى البيوت تتحرك.
------------------------------------------
1-الصبيحة النوم بعد صلاة الفجر
ظننت أني مصاب بالدوران، أغمضت عيني لحظة لكي أستريح ثم فتحتهما، لكن الدنيا استمرت في الدوران.
التفت إلى زوجتي لأرى ما فعل الله بها فردت علي بابتسامة مطمئنة وجدتها أكثر قوة ونشاطا من ذي قبل، الشيء الذي جعلني اشك في صحة بعض المعتقدات التي ظلت راسخة في ذهني منذ طفولتي ،أول هذه المعتقدات، أن الأنثى جنس ضعيف وأن الذكر جنس قوي. إذ كيف يكون هذا صحيحا وأنا الذكر خائف وضائع وزوجتي الأنثى واثقة من نفسها إلى هذه الدرجة؟!
لابد أن هذه المعتقدات فاسدة أو أن المدينة تعكس الأشياء فتحول الذكر إلى أنثى والأنثى إلى ذكر ،انه احتمال وارد، خصوصا أن جميع الإناث اللاتي صادفتهن منذ أن دخلت المدينة يسرن أمام الذكور وهذا عكس ما عرفته في الريف حيث تسير الأنثى دائما خلف الذكر.
أحسست أنني دخلت في دوامة من الشك وأن الكثير مما عرفته وتعلمته وحافظت عليه في طفولتي سيصبح تافها بعد قليل وسيصبح علي التخلص منه ورميه في شوارع هذه المدينة الغول.
............................................................
اليوم هو يومي الثاني في المدينة لقد استيقظت مبكرا وكعادتي في الريف نهقت بأعلى صوتي ليستيقظ سيدي ولكني فوجئت به يخرج غاضبا يسب ويشتم.
قلت في نفسي ماذا فعلت حتى استحق كل هذا؟
لقد كان سيدي في الريف يجازيني عندما أوقظه بنهيقي في هذه الساعة وهاهو سيدي في المدينة يعاقبني على نفس الفعلة!
أمر غريب كل الأشياء معكوسة......
الخير عندنا في الريف يساوي الشر عندهم في المدينة والشر عندنا يساوي الخير عندهم!؟
إذن علي أن أتغير وأن أغير كل قيمي التي تربيت عليها، لكن الأمر لن يكون سهلا، فكيف أستطيع أن أمحو مفاهيم أصبحت مكبوتة داخل لاشعوري وهي التي تسيرني!
وكأن زوجتي كانت تقرأ تفكيري أو أني كنت أفكر بصوت عال
فقالت: ستتعود على مفاهيم المدينة
قلت: سيكون ذلك صعبا!
فردت هازئة: أليس أهل المدينة من الريف كلهم، منهم من هجر الريف منذ أيام قليلة ورمى بكل المفاهيم والقيم التي جاء بها من الريف واستبدلها بمفاهيم وقيم المدينة لذا فإني أنصحك زوجي العزيز بان لا تعطي رأيك في أمر تراه غير صالح بالنسبة لك إلا بعد عرضه علي.
- وهل أصبحت ترين الأشياء مثلهم
- طبعا ولذلك لم أشاركك النهيق هذا الصباح
- آه لقد عظم الخطب!
لقد استنتجت مما دار بيني وزوجتي أنها تأقلمت مع أهل المدينة وأنني بقيت وحيدا في معتقداتي وقيمي.
خرجت زوجتي تتمشى وبقيت أنا أفكر في مصيري المجهول وكيف يمكن أن أتخلص من هذه المعتقدات وهذه القيم مثلما فعلت زوجتي؟
خرجت من البيت ابحث عنها فلم أجدها، لابد أنها خرجت لتشبع فضولها وعندما تعود ستروي لي قصصا أشبه بالخيال.
رجعت إلى البيت وأنا أفكر دون أن أستطيع التركيز على موضوع معين وبينما أنا كذلك إذا بزوجتي قادمة. لم اعرفها من النظرة الأولي، فقد تغيرت مشيتها، لعلها أصيبت في رجلها. نهضت مسرعا لاستقبالها وأخذت اسألها.
- أين كنت وماذا أصابك؟
فردت علي بدلال وهي تبتسم
- لقد ذهبت مع سيدي إلى الحداد ليعمل لي نعلا
- ماذا؟
- انظر ما رأيك في هذا؟
نظرت فإذا بحافرها الجميل الذي ظل مصدر إلهام لي قد اختفى وحل محله حافر الحديد المثبت بالمسامير، بادرت بسؤالها:
- هل يؤلمك؟
-فقالت: نعم ولكنه جميل! ثم أضافت لقد جاء دورك فسيدي ينتظرك ليصطحبك إلى الحداد ليضع لك نعلا مثلي.
حاولت النهوض لكن رجلي خانتني فوقعت على الأرض مغشيا علي.
عاد إلي وعيي ووجدت سيدي واقفا عند رأسي ينتظر أن أفيق. نهضت وأخذت أسير خلفه حتى وصلنا إلى الحداد.
كان الحداد يدخل قطعة من الحديد في النار ويتركها حتى تحمر كالجمر ثم يطرقها بمطرقته ويقترب مني ليقيسها على حافري.
ظل يكرر العملية حتى تبين له أن القطعة صارت تناسب حافري، وضعها على الأرض ومسح يديه على سرواله الرث ثم نادى سيدي قائلا
- تعال امسكه لي!
تأكدت أن العملية ستكون مؤلمة فعضيت أضراسي.
اخذ الحداد الحافر الحديدي وبعض المسامير ثم وضع رجلي اليمنى بين فخذيه ووضع الحافر الحديدي فوق حافري الأصلي وأخذ مسمارا وراح يغرسه بضربات متتالية بالمطرقة.
حاولت إخفاء الألم الذي اخذ يتسرب إلى كامل جسدي حتى لا يقال إنني جبان لكن بعض النهقات فلتت من بين أضراسي تبعتها صيحات الم ثم انتزعت حافري من بين أفخاذ الحداد محاولا الهرب لكن حافري كان يؤلمني وكنت أعرج.
قال الحداد لسيدي- أهذا هو زوج الأتانة التي أتيت بها قبل قليل؟
فرد عليه
- نعم انه هو.
فقال الحداد ساخرا
- لقد حصل لبس لا محالة، امسكه لي كي أتأكد من ذلك.
امسكا بي وأخذا يعبثان بي ثم قالا وهما ينفجران من الضحك
- "والله ألا اذكر ايقصر عمرو"
أحسست بالخجل وعاودتني الفكرة الكاذبة التي تقول بتفوق الذكر على الأنثى. استسلمت وتركتهما يثبتان الحوافر دون أن اصرخ لأحافظ على بقية من ذكورتي.
بعد تركيب حوافر الجديدة أصبت بحمى شديدة تركتني صريع الفراش مدة أسبوعا كامل، عندما لاحظ سيدي تدهور حالتي الصحية اصطحبني إلى طبيب بيطري وبعد فحص شامل قال لسيدي أنني مصاب بالكزاز وسألني الطبيب
- هل سبق لك أن لقحت ضد الكزاز؟
فأجبته على الفور
- لم يوخز جسدي هذا إلا شوكة أو مسامير الحداد منذ أسبوع تقريبا
فقال منفعلا
- انتم أهل البادية لا تستمعون للنصائح ولا تؤمنون بالعلم وعندما يمرض أحدكم لا يأتي إلينا إلا بعد أن يكون المرض قد أخافه واشرف على الهلاك، فلو كنت ملقحا ضد الكزاز لما وصل بك المرض إلى هذا الحد.
اخرج الطبيب حقنة و إبرة كبيرة وطلب من سيدي أن يمسك بي.
غرس الإبرة في عنقي وأخذ يفرغ محتوى الحقنة. لم اصرخ هذه المرة ولم أتخبط رغم الألم الذي أحسست به يتجول داخل جسمي كأنه لسعة عقرب، لقد خفت أن يطعن الطبيب في رجولتي مثلما فعل الحداد قبله.
بعد ساعة سحب الطبيب الإبرة من عنقي ومسح مكانها بقطعة من القطن ثم قال يجب أن تستريح مدة أسبوع كامل لا تخرج خلاله لأي سبب كان فخرجنا سيدي وأنا من عند الطبيب متجهين إلى البيت.
بعد أسبوع تماثلت للشفاء،فبدأت مرحلة جديدة من حياة الدينة،إنها مرحلة جر عربات الماء.
كانت تلك المرحلة من أصعب فترات حياتي في المدينة،وأكثرها ألما وسخرية في نفس الوقت.
لن أنسى ذلك اليوم الذي جاء فيه سيدي بتلك العربة، التي جفلت عند رؤيتها،عكس زوجتي التي ظلت ثابتة مكانها وهي تنظر إليها بنوع من الإعجاب والمتعة.
كنت كلما أسير وتبدأ العربة تتحرك خلفي،أحسبها سيارة فأجفل وتتبعني هي وأبدأ أرفسها محاولا التخلص منها،وكان ذلك يغضب سيدي،فينهال على بالضرب،وكان ذلك يضحك زوجتي...فأنسى ألم الضرب عند رؤية أسنانها،التي تزداد جمالا في عيني يوما بعد.
بعد أسبوع تعودت على جر عربة الماء،وأصبحت أجرها آليا،وأصبحت استمتع بصوت عجلاتها،التي أصبحت موسيقاي المفضلة.
صرنا نستيقظ باكرين كل صباح،أنا وزوجتي ويأخذ كلانا عربته وتفرق في أحياء المدينة،ولا نلتقي إلا في المساء،فيروي كل منا للآخر أغرب ما صادف في ذلك اليوم....كان كلنا يروي للآخر قصص أقرب للخيال،صحيح أن كلانا كان يزيد قليلا على ما شاهد ليزيد متعة الآخر،ويخرجه من تعب يوم من جر العربات.
في أحدى الليالي قالت لي زوجتي أنها التقت إحدى جاراتنا،وقالت لها أننا مازلنا نعيش في القرون الوسطى وأن علينا أن نحاول اللحاق بالعالم الذي تغير من حولنا دون أن نشعر.
سألت زوجتي عن ما قصدته جارتنا بالقرون الوسطى،لأني لم أفهم ما تعنيه هذه الكلمة وما يقصد بها.
نظرت إلي بعطف وهي تقول سوف أشرح لك كل كلمة قالتها جارتنا،وسأضرب لك مثلا يقرب لك ما قالته.
منذ أن جئت إلى المدينة وأنا في تناقضات لا أخرج منها إلا لأدخل فيها من جديد فتارة أجد الناس أصحاب مبادئ يموتون من اجلها ويحيون لها وتارة أخرى أجدهم يدوسونها ويلعنوها.
إنها الحركة الدءوبة التي هي السمة المميزة للمدينة و التي بها تتقدم يوما بعد يوم وتكبر وتظهر فيها عادات جديدة وتختفي أخرى.
قدمت لي زوجتي محاضرة حول القيم ونسبيتها، ومن أهم ما قالت "إن القيم مثل إشارات المرور تدلك على الطريق ووضعها تم تتجاوزها وتتركها خلفك".
قالت زوجتي بعد محاضرتها السابقة إنها تعتزم ممارسة التجارة كنساء المدينة فقلت لها متعجبا:
- ولكن من أين لك رأس المال
قالت
- هذا غير مهم يكفيني دخول السوق وسترى أنني سأحصل على رأس المال وسأحقق أرباحا باهظة.
وفعلا كان الأمر كما قالت، وبدأت نتائج ربحها تظهر على البيت وعلي أنا وأصبحت تتأخر كثيرا عن البيت فتخرج في الصباح ولا تعود إلا بعد نومي أو قبله بقليل، وتغير شكلها مما جعلني اعتقد أن الأرواح أخذتها وأبدلتها لي بواحدة أجمل منها بكثير فسمرتها اختفت وتحولت إلى بياض جذاب وكانت كل يوم تزداد جمالا ازداد تعلقا بها وغيرتي عليها، قلت لها يوما:
- ارجوك ابقي اليوم في البيت فأنا مشتاق إلى مجالستك والتحدث إليك فقد طال عهدي بجلسة معك وحديث ممزوج بالشاي المنعنع ولكنها بدل أن ترد علي نظرت إلى ساعة معصمها قائلة
- أوه لقد تأخرت.
لم اعد أستطيع السيطرة على بعض الأسئلة التي تتزاحم في نفسي.
لابد لي أن اعرف من أين حصلت زوجتي على هذه المبالغ الطائلة،لأن هذا حقي،ثم ما هي هذه التجارة التي تدر أرباحا بهذا الشكل؟
جمعت قواي واستنهضت رجولتي وقررت أن أواجه زوجتي بهذه الأسئلة عندما تعود في المساء.
جلست انتظر عودتها على أحر من الجمر، أخذت اشرب الشاي الكأس تلو الاخرى حتى لا أنام قبل عودتها بيد أني رغم ذلك غلبني النعاس ورحت في نوم عميق رأيت خلاله زوجتي وهي تعود حاملة حقيبتها على كتفها وكأنها محصل ضرائب.
بادرتها بالسؤال قبل السلام
- هل لي أن اعرف من أين تأتين بهذه المبالغ وما هي هذه التجارة التي تدر بربح كهذا؟
لم تجبني وتظاهرت بأنها لم تسمع شيئا، واصلت طريقها إلى غرفة النوم فأمسكت بها من طرف ملحفتها واعدت عليها نفس السؤال، عندها التفتت نحوي وقالت بصوت مزق سكون الليل:
- هذا لا يعنيك، ثم إنني أريد أن أقول لك شيئا كان يجب أن تعرفه، لكني كنت انتظر الفرصة وها هي جاءت، أنت لم تعد تناسبني ولذلك طلقني!
عندها استيقظت كالمجنون وحمدت الله على أنه كان مجرد حلم.
وبينما أنا جالس اهدي نفسي من هول الحلم أو على الأصح الكابوس الذي رايته في المنام، إذا بزوجتي تدخل على مهل وهي تتأبط "صكها" كعادتها،تماما كما رأيت في الكابوس، سلمت باختصار تم اتجهت إلى غرفتها.
لم ابرح مكاني ففرائسي مازالت ترتعد من الفزع مما رأيت خلال الكابوس الذي عشت قبل لحظات، فأنا لم أفكر من قبل في فراقها،بل إني كلما فكرت أن الأقدار يمكن أن تحكم علي بفراقها أصاب بالجنون .
تذكرت أني نمت هنا قبل قليل، واني كنت انتظر زوجتي لكي اسألها بعض الأسئلة تتعلق بتغيير سلوكها لكني تذكرت أيضا الكابوس وخفت أن يتحقق فترددت قليلا لكني تذكرت أنني رجل والرجل لا يليق به التردد، يجب أن اسألها وليكن ما يكن.
اتجهت إلى غرفتها وطرقت الباب، انتظرت أن تأذن لي بالدخول لكنها ردت من خلف الباب بغضب
- لقد نغصت علي نومي!
فقلت معتذرا
- لم أكن أظن أن النوم سرقك بهذه السرعة.
- إني متعبة وأرجو أن تتركني أنام
فقلت مترجيا
- ولكني أريد أن استوضح منك أشياء لم اعد احتمل كتمانها.
- عجيب أنت رجل متخلف بصراحة، لا تعرف مواقع الأمور وأوقاتها فكل شيء له وقت ومكان وهذا ليس وقت الأسئلة فعليك أن تنتظر الوقت المناسب.
فهمت من خلال لهجتها انه من الأفضل لي أن انتظر وقتا آخر وإلا فقد يصدق الكابوس.
يجب علي أن انتظر حتى ليلة الغد لتعود زوجتي واسألها لكني خشيت أن يتكرر نفس المشهد الذي وقعت فيه بالأمس أي أن تأتي متأخرة وترفض طرح الأسئلة عليها وتذهب مبكرة قبل أن استيقظ فلا أجد وقتا لطرح أسئلتي.
فكرت في حل آخر يجنبني ما حدث البارحة، لا يوجد غير حل واحد اذهب إلى السوق لأفاجئها هناك، ولكني لا اعرف رقم دكانها لأنها لم تبح به أبدا، وحتى لو كنت اعرفه فلن يفيدني ذلك في شيء لأني لا اعرف قراءة الأرقام.
لكني أستطيع أن احدد دكانها إذا مررت بجميع الدكاكين لا محالة سأجدها وهذه فرصة أيضا لأرى البضاعة التي تبيعها.
خرجت من البيت واتجهت إلى السوق الكبير وبدأت من أول دكان ادخل فأحدق في وجوه الموجودين به وبعد التأكد أنها ليست بينهم اخرج.
كان الناس ينظرون إلي كأني معتوه. دخلت هذا الحانوت وخرت من ذلك.
بحثت في الجناح الغربي من السوق فلم اعثر لها على اثر فاتجهت إلى الجناح الشمالي فالشرقي فالجنوبي، بدون جدوى.
بدأت أعصابي تتوتر، أنها تكذب علي، أنها ليست في السوق، ولكني تذكرت أخيرا أن عدد الأسواق في العاصمة عشرة أضعاف المستشفيات، وأنا لم اسألها في أي الأسواق يوجد دكانها.
لم يعد أمامي إذن إلا انتظار عودتها الليلة لأسألها على الأقل في أي الأسواق يوجد دكانها؟
بعد أن تعبت وتأكدت أنه لا جدوى من البحث رجعت إلى البيت وبدأت رحلة انتظار جديد، علي أن انتظر ما تبقى من النهار وثلثي الليل وقد أزيد عليه قليلا قبل أن تعود زوجتي.
وصلت البيت ودخلت في جوه الممل المليء بالصمت المميت.
جلست أفكر في وضعي الذي يزداد سوء وفي طريقة تمكنني من الخروج منه، قادني تفكيري إلى فكرة الهرب من المدينة والرجوع إلى البادية، ولكن حب زوجتي التي لم تقبل العودة معي منعني من تطبيق هذه الفكرة.
يا الهي ماذا افعل!؟
بينما كنت على هذا الحال حائرا لا أجد مخرجا لنفسي من هذه المشكلة إذا بزوجتي تقف أمامي وفي وضح النهار! مستحيل! لابد أني مصاب بهلوسة! قد أكون تعرضت لضربة شمس خلال بحثي اليوم عنها في السوق، فركت عيني، لكنها مازالت واقفة أمامي، إنها زوجتي لحما وشحما و...
فرحت كثيرا لهذا الحدث مثل ما يفرح الفلكي بمرور مذنب هالي!
قد لا تتكرر هذه الحادثة إلا بعد زمن أو لا تتكرر، لذلك يجب علي اغتنام الفرصة وطرح جميع الأسئلة، فالوقت مناسب والمكان كذلك.
قلت لها وأنا أواري مفاجأتي
- لقد أتيت مبكرة اليوم
فردت:
- هل هذا يزعجك؟
- لا بالعكس، بل يريحني ويسعدني أن أراك في وضح النهار وكدت اقول لها أني ذهبت إلى السوق أبحث عنها، لكني خشيت أن يغضبها ذلك فتابعت –الحمد لله انك أتيت في وقت أستطيع أن اطرح عليك أسئلتي...
قاطعتني
- ليس الآن فقد جئت لأتزين، لأني مدعوة هذا المساء لحفل زفاف وليس لدي الوقت لأسئلتك.
عرفت أن زوجتي جادة في ما تقول وأنه من الأفضل لي أن احتفظ بأسئلتي لنفسي.
تزينت زوجتي وعندما نظرت إليها بدت لي و كأن البدر حل محل وجهها تمنيت أن يكون ذلك من اجلي لكن كما يقولون "الأماني والأحلام تضليل"
رشقتني بنظرة وهي تخرج أصابت مني، وابتسمت ابتسامة بدت لي أسنانها كالماس الذي سمعت عنه قالت سأتأخر فلا تقلق.
قلت في نفسي لا تقلقي أنت، فأنا لم يعد للقلق مكان في نفسي.
خرجت مسرعة لم أشأ معرفة أية وسيلة نقل ستستقل، رغم أن فضولي زين لي ذلك، خفت أن اكتشف المزيد حول زوجتي.
بقيت في البيت وحدي انظر إلى الجدران استنطقها علها تشفق على حالي ،جال بصري بين الأشياء المبعثرة في البيت، حاولت أن أركز لأبحث لنفسي عن مخرج من ما أنا فيه.
جاءتني فكرة، أن أعود إلى الريف لفترة منها أن اصل رحمي وأزور أصدقائي ومعارفي.
وجدت الفكرة ممتازة وبدأت أتذكر ريفي الحبيب انتابني شوق لأهله، لكرمهم لطهرهم، لبراءتهم، لحبهم بعضهم البعض.
تذكرت أول يوم تعرفت فيه على زوجتي والشجرة التي تلاقينا تحتها، كان ذلك في فصل الخريف، حيث يكسو العشب الأخضر الأرض، بعض النباتات كانت بها أزهار ذات رائحة زكية.
تذكرت حالة الخجل التي انتابت زوجتي عندما صارحتها بحبي لها لأول مرة،وزاد ذلك فاز الحب رغم اختفاء الخجل من على وجهها اليوم.
تذكرت نهيقها عند الغدير ونحن نستعد لحمل القرب مملوءة بالماء،وغمزاتها بعينها التي كانت تهون علي حمل الماء.... .
قلت في نفسي أخيرا وجدت الحل لما أنا فيه
لكن هل ستقبل زوجتي بهذا المشروع لأن قبولها شرط أساسي لتنفيذه؟
بدأت أفكر كيف سأقنعها كنت أود أن تكون معي في هذه الرحلة لكني لم أجرؤ على أن أطلب منها ذلك، كنت أريد أن أتركها وهي راضية عني كما كنت اعتقد أن ابتعادي عنها قد يوقظ فيها الشوق إلي.
إذن علي أن لا أزعجها عندما تأتي وأحاول أن لا اعرض عليها الأمر إلا عندما أرى أنها في كامل ارتياحها.
أحسست بقدر من السكينة بعدما قررت الرحيل إلى الريف ربما لأني سأخرج من طاحونة المدينة.
حاولت أن أنام لكن صور الريف وصور المدينة بدأت تتصارع في ذهني فمنعتني من النوم.
بقيت ملقيا على ظهري شاخص البصر شارد الذهن حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل حيث دخلت زوجتي دون أن اشعر بها ولم أفق من شرودي إلا وهي تجلس إلى جانبي تسألني
- ما بك
قلت مرتبكا: لا شيء، كنت أفكر
- تفكر في ماذا
- كنت أفكر في مشروع سفر إلى الريف، أريد أن أقوم بزيارة لريفنا لأستريح قليلا.
عندما قلت لها أني أفكر في السفر أحسست أنها ارتاحت شيئا ما، نظرت إلي نظرة عطف وحنان، أحسست بالشفقة على نفسي، قالت
- متى ستسافر
قلت: لا أدري ولكني أريد أن يكون ذلك في أسرع وقت ممكن.
- يعني الأسبوع القادم
قلت:
- بل غدا إن شاء الله
- لماذا هذا التسرع؟
- ليس تسرعا ولكني اشتقت إلى...
أنا أيضا مشتاقة إليه، ليتني أستطيع الذهاب معك لكن الشغل يمنعني.
وساد صمت تبادلنا خلاله النظرات ثم قالت
- لا يمكن أن تذهب غدا فلابد أن تجهز نفسك، سأشتري لك بعض الحاجيات للأهل والأقارب لذا أرجو أن تؤجل سفرك إلى بعد غد.
- إذا كانت هذه رغبتك فإني فاعل
- شكرا يا حبيبي
لم أسمع هذه الكلمة منذ زمن طويل،كنت أظن أنها ألغيت من القاموس
نهضت من جانبي واتجهت إلى المطبخ فأخرجت أدوات الشاي وعادت إلى مكانها بجانبي وأخذت تعد الشاي.
كان تفكيري مبعثرا لا افهم شيئا كيف تحولت بهذه السرعة؟
الم تطلب مني تحت التهديد الطلاق قبل قليل؟
وها هي الآن تجلس بجانبي وتعد لي الشاي كما كانت تفعل في الريف! ماذا جرى؟
لقد سمعت عن عجائب النساء لكن لم أتصور أن يحدث ما حدث!
إنسان يمقتك يحتقرك يتقزز منك وفجأة يعطف عليك كأن شيئا لم يكن!
شربنا الكأس الأول دون أن يبوح أحدنا بحرف واحد.
عندما انتهيت من شرب كاسي ناولتها إياه دون تعليق فقالت وهي تضحك أو تصطنع الضحك الله اعلم
- كأني اسقي نخلة
- لماذا
- لأنك لم تقل هل الكأس جيد أم سيء
فقلت مستدركا
- لا، لا، بل جيد جدا ولو أن عطرك شابه قليلا
قبلت تأجيل سفري إلى اليوم التالي تلبية لطلب زوجتي.
وأمضيت تلك الليلة التي كانت أشبه بليالي ألف ليلة وليلة مع زوجتي، كانت ليلة رائعة، لم تخرج زوجتي من البيت وباتت تسامرني وتذكرني بأشياء في حياتنا في الريف كنت قد نسيتها أنا الذي يدعي حبه لتلك الحياة.
في الصباح الذي سأسافر فيه استيقظت زوجتي قبلي ورتبت كل شيء وجاءت توقظني على كأس من الشاي وابتسامة كفتني من "أطاحين" وبعد أن انتهى الشاي جاءتني بصندوق كبير وناولتني مفاتيحه قائلة.
- لقد وضعت كلما يلزمك داخل هذا الصندوق فتحت الصندوق فإذا بها لم تنس أي شيء. الملابس والهدايا لي ولكل الأقارب. تمنيت لو سألتها من أين لها هذا لكن هذا السؤال يدخل في جملة الأسئلة التي أدت إلى ما حدث،وأنا لا أود أن اترك زوجتي إلا وهي راضية عني،رضاها هو سندي في ما أنا قادم عليه.
أخذت الصندوق ونهضت فنهضت معي وأدخلت يدها في حقيبتها وأخرت رزمة من الأوراق النقدية وضعتها في جيبي دون أن تترك لي الوقت لعدها وارتمت بين أحضاني وهي تبكي وتقول بعض الكلمات غير المسموعة، تأثرت أنا ثم بكيت،لأول مرة أشعر بمرارة الفراق،فزوجتي وأنا لم نفترق منذ أن تزوجنا،قلت في نفسي: ليتني أستطيع العدول عن قرار السفر ولكني كنت متأكدا أن أية خطوة إلى الوراء ستفسد هذا المنظر الملودرامي، عناق أحر من عناق حمامتي شكسبير في مسرحية "الحمامتان"
حملت الصندوق وخرجت من البيت، التفت خلفي فرأيت زوجتي تلوح لي مودعة. بكيت بعنف لست ادري لماذا ابكي وعلى ماذا أبكي..ولكني بكيت..أهذا هو الحب!
وصلت محطة السيارات فوجدت سيارة جاهزة للانطلاق لا ينقصها إلا راكب واحد. أخذت مقعدي وانطلقت السيارة.
كل المسافرين كانوا مسرورين وحديثهم كله يدور حول اخبار الامطار التي تساقطت في الريف، قال أحدهم
- لقد قال لي أحد أقاربي أن قرية رأس لفرس تحطمت بعض منازلها وروى آخر قصة مشابهة.
عندما ابتعدنا عن المدينة بدأت النسمات الرطبة تدخل علينا داخل السيارة فتح الركاب الشبابيك واخذوا يستنشقون النسمات ورائحة العشب الزكية، واستنشقتها أنا أيضا لكن بنكهة خاصة لأني لم أشم هذه الرائحة النقية منذ زمن طويل أي منذ قدمت إلى المدينة.
استيقظ حب الريف بداخلي، حاولت أن أقارن بينه وبين حبي لزوجتي فلم أر وجها للمقارنة فحبي للريف في دمي والإحداث الأخيرة بيني وزوجتي نقصت كثيرا من حبي لها بل كادت تقضي عليه تماما لولا هذه السفرة.
وصلنا إلى الريف مع بداية المساء، كانت الشمس قد بدأت تختفي وراء الكثبان السميكة بالخضرة. تاركة مزيجا رائعا بين أشعتها الذهبية وخضرة العشب الناعم. ما أجمل هذا المنظر وما اشد شوقي إليه.
لقد أنساني كل المآسي التي عشت في المدينة.
توقفت السيارة ونزلت منها حاملا أمتعتي وما كدت اقترب من الحي حتى تعال النهيق من كل جانب وانكب الناس نحوي: فلان جاء، فلان جاء.
ورغم فرحتي بهذا اللقاء إلا أني أحسست بالانزعاج لارتفاع أصوات المستقبلين! ماذا جري لي؟ هل غيرتني المدينة؟ أم هو التعب؟ تعب الرحلة الطويلة ربما؟
أخذت الأسئلة تنهال علي من المستقبلين:
- كيف حالك؟ وكيف حال زوجتك؟ لماذا لم تأت معك؟
هل المدينة جميلة؟ كيف يعيش أهلها؟ هل يأكلون مثلنا هل يصلون هل يضحون؟...
أحسست بدوران وكدت اسقط مغشيا علي لو لا تدخل احد أقاربي.
- اتركوا فلانا انه متعب يجب أن يستريح ثم تسألونه بعد ذلك كما تشاءون.
امتثل القوم أمر قريبي وتركوني أستريح ولم اشعر أن الرحلة كانت متبعة إلا بعد أن مضى على وقت وأنا جالس. أحسست وكأني خارج من مهراس. كل جسدي يؤلمني لقد كانت الطريق رديئة فالمياه التي تجمعت عليها خلال تهاطل الأمطار تركت بها نتوءات كثيرة وقطعتها في بعض الأماكن الشيء الذي جعل السائر عليها مجبر على السير في أنحاء كثيرة من الطريق، عجلة عليها وعجلة على الأرض الوعرة.
لم يكد العشاء ينتهي حتى سرقني النوم كان نوما عميقا يشبه الموت، خال من الأحلام ة الكوابيس ولم استيقظ إلا عندما بدأ الأهل في النهيق مع الفجر.
كان نهيقهم مزعجا، وتذكرت اليوم الذي ضربني فيه سيدي في المدينة على النهيق الباكر.
فقلت في نفسي انه كان على حق، إنها فعلا عادة مزعجة ماذا يعني هذا؟ هل تغيرت إلى هذا الحد أنا الذي لم استطع التكيف مع أهل المدينة؟! هل اثروا في من حيث لا اشعر؟
مستحيل!
وسمعت نهيقا آخر وشعرت بالانزعاج أكثر وظهر ذلك على وجهي.
سألني أحد أقاربي قائلا:
- يبدو انك غير مرتاح، الست سعيدا بعودتك إلينا؟
قلت كالمستيقظ من النوم
- بالعكس أنا سعيد جدا
- هذا لا يبدو على وجهك، فوجهك يقول انك منزعج فإذا كان هناك ما يزعجك قله لنا.
- انتم أهل الريف تقولون أني انزعج لكم وأهل المدينة يقولون أني لا أصلح لها يا رب أي مصير اخترت لي؟
مضت شهور على عودتي إلى الريف وكنت احس كل يوم بأنه من المستحيل الانسجام من جديد مع الحياة الريفية.
يبدو أن المدينة سلبتني الكثير دون أن اشعر، ربما كان مـخأذي الوحيد عليها هو تغير زوجتي.
قررت العودة إلى المدينة فربما يكون غيابي قد ولد الشوق عند زوجتي.
أعلنت لأقاربي نيتي بالعودة إلى المدينة وتفاجئوا، لكن التقاليد تمنع النهي ولذلك باركوا لي وتمنوا لي سفرا سعيدا والوصول بسلام.
وقفت على حافة الطريق وركبت أول سيارة صادفتني.
كلما اقتربنا من المدينة ازداد شوقي إلى رؤية زوجتي وكلما ازداد شوقي يزداد تخوفي من لقائها فقد اصل في وقت غير مناسب، لكني مجبر على العودة فالريف الذي هربت إليه لم يعد يصلح لي وأنا كذلك لم اعد أصلح له.
وصلنا إلى المدينة في المساء كان الأفق محمرا كضوء المرور وكأنه ينذرني بعدم مواصلة الطريق، لم أبالي لذلك واتجهت إلى البيت وأنا احبس أنفاسي واطرح كل الاحتمالات السيئة.
وجدت الباب مفتوحا ودخلت كان جسدي كله في حالة إنذار قصوى وفجأة ظهرت زوجتي وتلاقت نظراتنا صاحت من الفرح
- أنت!
واحتضنتني بين زراعيتها وتمنيت أن يكون هذا هو مأواي الأخير، فقدت وعيي من شدة الفرح.
استعدت وعيي ورأيت وجه زوجتي كالبدر وهي تبتسم وكدت افقد وعيي ثانية.. آه لقد تغيرت بعدي! أهكذا يفعل الفراق..ّ؟ لو كنت اعرف هكذا لكنت سافرت منذ زمن بعيد..
تبادلنا النظرات في صمت أحسست بالصدق في نظرات زوجتي.
نهضت زوجتي وأخذت تعد الزريق والشاي وهي تحمد الله بصوت عال على عودتي سالما. أخذت تسألني عن الريف وأهل الريف. لم تنس أحدا بل سألتني عن أناس أنا نفسي لا أعرفهم أو نسيتهم وهذا جعلني اكتشف أن ذاكرة المرأة أقوى بكثير من ذاكرة الرجل.
انتهى الشاي ونهضت زوجتي لإعداد العشاء عندما تأملت فيها خيل إلي أن التغيير الذي طرأ عليها لم يكن على مستوى السلوك بل لحق بجسدها، دققت النظر جيدا، لقد تغيرت فعلا فهذه ليست طريقتها المعتادة في المشي.
تعيشنا وبدأت تعد شايا جديدا، كانت تسألني أسئلة تتعلق بماضينا في الريف وتحدثني عن بعض الوقائع فكنت أتذكر بعضها ويغيب البعض الأخر في ذاكرتي.
لقد كنت متعبا فرحلتي الطويلة أهلكتني لذلك لم استطع الصمود أمام النعاس الذي حرمني من حديث زوجتي وشايها المنعنع فنمت عند "البراد الثاني"
استيقظت في الصباح الباكر على زوجتي وهي تدغدغني قائلة:
- كأسك، خذ كأسك، يبدو انك متعب
مسحت على وجهي لأزيل آثار النوم من عليه.
رأيت وجه زوجتي المشرق وعليه ابتسامة كأنها انشقاق ليلة القدر.
تناولت الكأس من يدها واحتسيت محتواه جرعة واحدة حتى أتمكن من رؤية وجهها ثانية.
انتهى الشاي وانتظرت أن تخرج زوجتي إلى السوق ولكنها لم تفعل بل جلست إلى جانبي وأخذت تحدثني وتضحك لملئ صدرها وتأخذ يدي وتضربها بيدها.
وفاجأتني بسؤال دون مقدمة:
- أما زلت ترغب في أن يكون لك ولد؟
فقلت مسارعا وكأني أخاف فوات الأوان
- ياليتني! لماذا تطرحين علي هذا
وبدل أن تجيبني سألتني ثانية
- هل تتذكر بداية زواجنا
- كيف أنسى أحلى أيام عمري؟
- هل تتذكر جيدا سأطرح عليك هذا السؤال فإن أجبت عرفت أنك صادق وإذا لم تجب صدق ظني بك.
- اسألي ما شئت فأنا جاهز للإجابة
- هل تذكر أني كدت أنجب لولا أنني أصبت ببرد شديد حول الجنين على "مخسور"
- كيف لا أتذكر حادثة لا تزال تكلم أحشائي كلما رأيت طفلا بركض ضاحكا!؟
- إذن ما زلت تذكر هذه الحادثة! أنت فعلا وفي وزوج عظيم!
وتغيرت ملامح وجهها وبدا الارتياح على محياها.. ضمتني إليها بعنف حتى تخيلت أن لحمي اختلط بعظمها قالت:
- ماذا لو قلت لك أن هذا المخسور تحرك من جديد؟
لم استطع تمالك نفسي ولا إخفاء الاستغراب من هذا الأمر
- كيف! هل تستطيع الحياة أن تعود إلى جسم تركته منذ عشرات السنين، قولي لي كيف حدث ذلك؟
لقد جاءتني صديقة لي بعد ذهابك إلى الريف ونصحتني بالذهاب معها إلى طبيب ماهر تعرفه قالت إن ما يفعله في هذه الحالات أشبه بما كان يفعله عيسى عليه السلام. وبما أني اعرف رغبتك الشديدة في أن يكون لك ولد ذهبت معها إلى الطبيب المذكور فوجدت عنده مئات النساء اللائي يئسن وروين لي كيف عشن المعجزات على يد هذا الطبيب وزاد ذلك من اندفاعي لمقابلته وعند ما قابلته ورويت له كل حياتي قام بفحصي بدقة اعجز عن وصفها لك واستمر ذلك الفحص أربع ساعات بعدها ابتسم لي ابتسامة تعيد الأمل وحدها ثم قال
- حالتك عادية جدا ومن ابسط الحالات التي تأتيني يوميا.
ثم كتب لي وصفة وامرني بمراجعته أسبوعيا وامتثلت أوامره حتى الأسبوع الماضي عندما زف لي الخبر المفرح بعودة الحياة إلى الجنين.
- ولكني في الحقيقة غير قادر على استيعاب هذا الأمر! كيف تعود الحياة إلى جسم هجرته منذ زمن بعيد؟!
- ماذا أصابك!؟ أين عقيدتك؟ أتنكر على الله!؟ ألم تسمع قوله تعالي:{قل يحيينها الذي أنشأها أول مرة}
- أعوذ بالله من غصب الله! أن أنكر؟
- هل نسيت بوفرغش ولد بوفيم
- من بوفريغش ولد بو فيم
- ابن عمك الذي يلقبه الجميع "بالمخسور" لأن أمه تقول انه هو أول من دخل بطنها وهو آخر من خرج منه! فقد تحول إلى مخسور وبقي في بطنها حتى انتهت من الإنجاب وبلغت سن العقم ، دبت فيه الحياة من جديد ليولد ويكون الأكبر و الأصغر في عائلته في آن واحد!
- بل اذكر هذه الحكاية!
بالفعل ليست هذه أول حكاية اسمعها عن هذا النوع من الحمل فقد تربيت على قصص أكثر غرابة تعود فيها الروح كل مرة إلى الجنين بعد أن تهجره سنين. ولولا أني سمعت هذه الحكايات وهذه الظواهر في مجتمع أنا متأكد كل التأكد من صفائه وسلامته من البغاء لاتهمت زوجتي.
فهذه إحدى معتقدات المجتمع التي لا نستطيع الوقوف في وجهها فالمجتمع هو الذي يسيرنا بقوانينه سواء ما يرضينا منها أو ما يغضبنا..
صحيح أنني أحب أن يكون لي ولد ومن زوجتي التي أحببت ولا زلت أحب،وقد عشت طول حياتي انتظر هذه اللحظة بالذات لكن أن يكون بهذه الطريقة فهذا ما لم يخطر لي على بال أبدا. حمدت الله على كل حال بل وأحسست بالفرح يتسلل إلى قلبي خصوصا بعد أن تذكرت حالات كثيرة من هذه الظاهرة الشائعة في مجتمعنا المحافظ والتي نسميها "مخسور".
انتزعتني زوجتي من هذه التأملات قائلة:
- لقد شغلتنا أخبار المولود المنتظر عن أشياء مهمة
- أية أشياء أهم من المولود؟
- أنت تعرف أني سأكون عاجزة عن العمل في الأشهر القادمة نظرا لتقدم الحمل
- وعليه؟
- وعليه يجب عليك أنت أن تشتغل
- ماذا بوسعي أن اعمل؟
- سأجعل منك رجل أعمال من أكبر رجال أعمال البلد
- ولكنك تعرفين أنني لم أتعلم ولا اعرف الحساب!
- هذا هو ما جعلك مؤهلا أكثر لأن تصبح رجل أعمال ناجح
- كيف؟
- لأن رجل الأعمال الناجح هو الذي لا يكتب ولا يقرأ حتى لا تدخل عليه العوامل فتؤثر فيه على حساب مصلحته الشخصية
- هذا صحيح ولكن المال أولا هو الذي يعوض عن التعلم
- المال هو العلاقات وهذه العلاقات حصلت لك منها على شبكة تمكنك من الحصول على كل ما تريده.
اسمع سأقدمك لشخصيات مهمة وبإمكانك أن تصنع المعجزات فما عليك إلا امتثال أوامرهم وستصبح من المع واكبر رجال أعمال البلد.
- بهذه البساطة؟
- وأكثر من ذلك انك عندما تنضم إلى هذه الجماعة ستصبح عندك سيارة وجيبا منتفخا.
- ولكن كيف تعرفت أنت على هذه الجماعة
- ليس هذا وقت التساؤل. ابدأ أولا بترتيب نفسك. لقد أعددت لك كلما يلزم لتصبح رجل أعمال ولنبدأ في البداية
- وما هي البداية؟
- خذ (وناولتني حقيبة صغيرة) هذه اسمها اتروس
- اتروس؟ أي لغة هذه؟
- لا اعرف وليس مهما أن تعرف أنت أيضا أي لغة المهم أنها أصبحت عامية
ردد معي: تروس
- اتروس
- مرة ثانية
- تروس
- (وهي تشير إلى الحقيبة الصغيرة) ما هذه؟
- تروس
حسنا أنت شاطر والآن افتح اتروس
- هذا لم أتعلمه بعد
- امسك هذه القطعة الحديدية واسحبها من اليسار إلى اليمين هكذا، انظر هذا "رازوار" تحلق به اللحية وهذه "ابروص" وهذا "دانتي افريس" للسواك.
- يعني مسواك
- بل دانتي افريس هكذا يجب أن تسميه لأن الطبقة التي أعدك لأن تكون منها تسميه هكذا، الآن ادخل الحمام وخذ اتروس معك واستحم فالجماعة سيأتون بعد قليل ويجب أن تكون في حلتك قبل وصولهم
أية جماعة؟
هذا ليس وقت طرح الأسئلة أسرع واستحم فالجماعة قادمون
دخلت "الدوش" وبدأت في الاستحمام طبقا لتعليمات زوجتي التي أكدت على حلاقة لحيتي.
وضعت الصابون أولا ثم اشابوين وبعد الاستحمام أخذت آلة الحلاقة وحلقت لحيتي. عندما فرغت منقطع آخر شعرة من لحيتي ظهر وجه لم أصادفه في حياتي في المرآة خيل لي أن أحدا يقف خلفي، التفت فلم أر أحدا. هذا أنا والله انه أنا!
أعدت النظر في المرآة كم كنت وسميا عندما كنت شابا أمرد، في الريف لم انظر في وجهي في المرآة لأن ذلك يعتبر عندنا قلة حياء وإخلال بالأخلاق خصوصا أمام الكبار ولذلك لم احظ بالنظر إلى وجهي في أيام نضارته.
انتهيت من التجميل ولبست ملابسي وأنا اسمع ضجة بالخارج وضحكات متعالية عرفت منها أن الجماعة قد جاؤوا.
عندما خرجت من دورة المياه رأيت أربعة رجال يحيطون بزوجتي وفي فم كل واحد منهم غليون تبغ تتعالى منه سحابة داكنة من الدخان.
نهض الجميع عندما رأوني واخذوا يتسارعون إلى عناقي وكأني حبيب ضاع عليهم من زمن بعيد. يعانقني هذا ويضمني إليه ثم يعطيني للآخر ليفعل بي نفس الشيء، وكدت افقد وعيي واختنق من الدخان الكثيف الذي كانت تنفث افواههم.
انتهى العناق بسلام لله الحمد وجلسنا
قالت زوجتي وهي تخاطب الجماعة
- أقدم لكم زوجي رجل الأعمال الذي كلمتكم عنه
الجميع بصوت عال
آشانتي!
وأخذت زوجتي بيدي قائلة:
- تعال أقدم لك الجماعة: وهي تشير بأصبعها إلى كل واحد:
هذا "بوفيم" موظف سابق في الدولة استقال من منصبه واختار الأعمال الحرة بعد أن اكتشف موهبته فيها.
وهذا "بوذنابه" وقد بدا بإدارة أعمال بوفيم قبل أن يتفرغ للعمل لمصلحته الخاصة، وقد ساعده بوفيم بنصائحه وتجاربه الغنية.
وهذا"بدبره" وهو نابغة في مجال الأعمال حيث استطاع أن يبني ثروته دون راس مال بل اكتفى بالاعتماد على شبكة في العلاقات نسجها لنفسه مكنته من إبرام صفقات بالملايين.
وهذا "كزار" وهو بيت القصيد وواسطة العقد، لكونه لا يزال يحتفظ بعمله السامي في الدولة في الوقت الذي يشرف على أعماله الخاصة وهو من أكبر رجال أعمال البلد، وهو كذلك من عرض علي إدخالك في دائرة الأعمال،
انتهت زوجتي من تقديم الجماعة.
أخرج بو افيم علبة سجائر من جيبه ومدها نحوي قائلا،خذ سيجارة، وقبل أن أقول له إني لا أدخن داست زوجتي على رجلي فنظرت إليها فإذا هي تأمــرني بأخـذ السيجارة.
أخذت السيجارة ووضعتها بين السبابة والوسطي كما تفعل الجماعة.. لم أكن أرغب في إشعالها؛ لكن بو افيم أمرني بالاقتراب منه.. وأشعل كبريتا ثم أشعل به سيجارتي.
امتلأ فمي دخانا، نفثته بطريقة متخلفة.
سويت من جلستي ثم قلت بصوت لم أصدق أنه خرج مني:
- متى سنبدأ؟
- يمكن أن تبدأ من الآن (قال بو افيم)
- كيف! أين رأس المال؟!
- اسمع؛ يبدو أن المدام لم تشرح لك الموضوع.. ولذلك سأشرحه لك أنا؛ بعد قليل ستخرج معي، وسنذهب إلى بيت أحد الأصدقاء -وهو مدير عام لإحدى مؤسسات الدولة- وسأقدمك له على أنك مدير شركة مختصة في بيع تجهيزات المكاتب، وسأطلب منه أن يشتري منك بعض التجهيزات المكتبية لمؤسسته؛ وهكذا.
- هكذا ماذا؟
- هكذا تبدأ العمل كأنك ولدت مديرا.
- والتجهيزات التي سيطلب مني.. من أين سآتي بها؟
- من قال لك أنك ستأتي بها! هذه مجرد معاملات على ورق.. الهدف الأساسي منها هو إعطاؤك أنت الفرصة للحصول على مال لا غير.
- !!؟؟
خرجنا من البيت.. واتجهنا إلى بيت الصديق المدير العام الذي كنا نتحدث عنه؛ ورغم أن الرحلة بين بيتنا وبيت المدير لم تستغرق إلا دقائق معدودة فإن مرافقي حكى لي عنه ما يشبه الأساطير.
لقد كان فقيرا قانعا صدوقا نزيها، قبل أن يقتنع أن هذه القيم ستكون عائقا أمام ثرائه؛ فتخلص منها إلى الأبد! ولذلك أصبح الآن في هذا الوضع الذي يحسده عليه الجميع.
وأضاف مرافقي أن علي أن افعل مثله لكي أكون رجل أعمال ناجحا.. وإلا فسأظل كما أنا،مجرد حمار ريفي أحسن ما أصلح له جر عربات الماء.
أكد لي مرافقي أن الأمر سيكون صعبا في البداية؛ لكن يجب علي أن أفكر في الفقر وويلاته لأتمكن من الوصول إلى هدفي.
وصلنا إلى بيت المدير العام الصديق؛ كان قصرا فخما ذكرني بأوصاف قصور السلاطين في حكايات ألف ليلة وليلة.
أول ما لاقاني في الطابق الأرضي في بيت صديقنا كان قطيعا من الغنم من سلالة "غنم شعيب" عليه السلام، وسمعت خوار بقرة عرفت من صوتها أنها حلوب، وتذكرت ريفي الحبيب؛ لكني تذكرت أيضا أنني بدأت طريقا اللا عودة.
في الطابق الثاني وجدنا صديقنا جالسا في الصالون يتابع فلما في جهاز الفيديو؛ ورغم أنه أطفأ الجهاز عند دخولنا إلا إني لمحت أشخاصا عراة فعرفت أنه كان يتابع أحد الأفلام الخليعة المنتشرة هذه الأيام.. والتي أصبحت عادة سرية عند الكثيرين.
وقف صديقنا المدير العام واستقبلنا بحفاوة لا توصف؛ عانقني بحرارة لا توصف وضمني حتى تذكرت أغنية كانت تفرق جماعتنا في الريف،مطلعها:حبيبي ضمني ضما.. وتأكدت أن عادة العناق الحار والضم ميزة في الجماعة يجب أن أتدرب عليها أنا أيضا.
بعد السلام والعناق والضم دعانا صاحبنا للجلوس وهو يقول: - تفضلا؛ ماذا تشربان.. لبن الإبل، أم البقر، أم المعز..؟ أم تفضلان السيرو أو العصير..؟ كل هذا موجود.
تذكرت يوم القيامة والجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ضغط صديقنا على زر.. وفي سرعة البرق دخل الخادم يحمل أقداحا مليئة بأنواع الشراب.. فقال صديقنا:
- ليشرب كل منكما مما يطيب له.. ثم أضاف:
- أنتما محظوظان.. فقد خرجت أمس مع بعض الأصدقاء للصيد واصطدنا كثيرا من الغزلان؛ وقد أمرت الخادم بإعداد غزال قبل مجيئكما بقليل، فأنتما والله من أولياء الطعام كما يقال؛ ثم انفجر ضاحكا وتبعه صديقي وتبعتهما أنا في الضحك دون أن أعثر على مكان الضحك فيما قاله السيد المدير العام وتذكرت الكلب الأطرش الذي ينبح كلما يرى الكلاب تلهث.
شربنا من اللبن، واحتسينا كؤوسا الشاي المنعنع، وتناولنا من لحم الغزال حتى استوت جلستنا.. عندها قال مرافقي:
- آه عند البطون تذهب العقول..! لقد نسيت أن أقدم كلا منكما للآخر، هذا "آكلال" المدير العام لمؤسسة التسيير العام، وهذا ومد إصبعه نحوي فقاطعه "آكلال" قائلا:
- هذا رجل الأعمال اللامع زوج "الساهلة" أليس كذلك؟
قلت: بلى؛ وأنا في ذهول! كيف عرفني هذا الرجل ونحن لم نلتق قبل الآن؟ ومن قال له إني أريد أن أكون رجل أعمال، لا بد أن في الأمر سرا، أهي عصابة ينسق أفرادها فيما بينهم بدقة فائقة أم ماذا؟ كيف عرفني هذا الرجل وهو يراني لأول مرة؟!
ولم أستطع مواصلة أسئلتي لنفسي لأن صديقي تدخل قائلا:
- يجب أن تقدم عرضا للسيد المدير العام يشمل تكاليف إعادة طلاء مؤسسته، وفتح بعض الأبواب الجديدة، وسد الأبواب القديمة، وتغيير بعض المكاتب، وتوريد بعض المستلزمات المكتبية.. - من أين سآتي بكل هذا؟!
- يا أخي متى ستفهم! كل هذا سيكون حبرا على ورق لا غير.
وبعد حديث طويل مليء بالضحك -الاصطناعي والطبيعي- غادرنا منزل "آكلال" وأنا لا أصدق ما رأيت وما سمعت؛ لقد تحولت دهشتي إلى إصرار على المواصلة حتى النهاية.
بدأت أعد العرض الذي طلب مني السيد "آكلال" المدير العام.
وحسب نصائح زوجتي فقد ضمنته مبلغا خياليا؛ بحيث أصبحت التكلفة الإجمالية للعمل المطلوب عشرة ملايين أوقية.. وعندما استكثرت المبلغ قالت زوجتي:
- إنك غبي! هذه فرصة قد لا تتكرر؛ ثم إن هذا المبلغ ليس لك وحدك.
- بل هو لي وحد!
- يبدو أنك لم تفهم اللعبة بعد.
- عن أية لعبة تتكلمين؟ أنا لا أفهم ما يجري!
- صحيح أنك لا تفهم ما يجري؛ لأنك ظننت أن كل هذه الأموال لك وحدك ونسيت "بو افيم" و"آكلال".
- ما شأنهما.. "بو افيم" و"آكلال"؟
- هل نسيت أنك ستحصل على هذه الأموال دفعة واحدة بفضل الاثنين؛ الأول هو الذي عرفك بالثاني وبالتالي استحق نصف ثلث المبلغ، والثاني هو الذي سحيققه وله الثلثان.. هيه؟ هي القسمة المتعارف عليها في الأوساط.
- نصف الثلث لـ"بو افيم" والثلثان لـ"آكلال" ماذا بقي، إذن لا داعي لهذا العمل.. فأنا سأخسر فيه!
- أنت ليس عندك ما تخسره؛ فأنت رابح على كل حال!
- بل سأخسر تعبي؛ أين ثمن تعبي من هذا؟
- اسمع يبدو أنك لم تفهم لحد الآن؛ سأشرح لك بوضوح أكثر.. أنت ستقدم عرضا قيمته عشرة ملايين أوقية.. "آكلال" سيأخذ الثلثين والثلث بينك وبين "بو افيم".
- الآن فهمت! إذن سأحصل على مبلغ محترم.
- طبعا؛ هذه ما زالت البداية.. وستحصل على أكثر وأكثر.
حررت العرض بالمبلغ الذي يعجبني، وقدمته في اليوم التالي إلى "آكلال" وصادق عليه دون انتظار؛ وبعد أسبوع تسلمت المبلغ وأقمت حفل عشاء فاخرا حضره جميع الأصدقاء.
أبرمت صفقات عديدة مع "آكلال" عادت علي بأرباح طائلة، وأصبحت عندي سيارة خاصة.. إلا أني لم أكن أعرف السياقة؛ ولذلك استأجرت سائقا، غير أن أحد أصدقائي أفهمني أن من غير اللائق استعمال السائق؛ وعلي أن أقود السيارة بنفسي.. فإن ذلك يضمن لي سرية علاقاتي؛ ولكن عدم حصولي على رخصة قيادة كان عائقا أمامي؛ وعندما طرحت موضوع الرخصة على صديقي تعهد لي بأن يستخرج لي رخصة سياقة دون أن يتطلب مني ذلك إجراء أي امتحان؛ بل يكفيني دفع عشرة آلاف وصورتين.. وأعطيته المبلغ والصورتين؛ وبعد يوم واحد جاءني برخصة لقيادة القاطرات تحمل تاريخا قبل قدومي إلى المدينة؛ وعندما أبديت الملاحظة حول التاريخ لصديقي رد علي أن ذلك أمر فني القصد منه إعطاء مصداقية للرخصة؛ ثم أضاف:
- هذا الأمر لا يعنيك كلما يعنيك هو الرخصة وها هي.
تخلصت من السائق في نفس اليوم الذي حصلت فيه على الرخصة وبدأت أسوق السيارة بنفسي.
كان ذلك اليوم يوما مشؤوما.. فقد كسرت الكاراج عند خروجي بالسيارة وقتلت عنزة الجيران، بعد ذلك بقليل وجدتني وجها لوجه مع عمود الكهرباء فاصطدمت به وتكسرت السيارة نهائيا.
تركت السيارة في مكان الحادث ورحت أبحث عن صديقي الوسيط والذي جاءني بالرخصة المشؤومة ورويت له ما حدث ضحك وقال:
- هذا أمر عادي مر به كل منا
- ولكن سيارتي انتهت إلى الأبد!
- هذه أيضا مسألة عادية يمكن أن تسوى.
- كيف ذلك؟
- اسمع.. سيارتك مؤمنة ولذلك ستحرر محضرا بأنك اصطدمت بسيارتي أنا بدل العمود الكهربائي ونأتي بخبير لينجز خبرة يؤكد فيها أن سيارتك فسدت إلى الأبد وبالتالي نطالب التأمين بتعويضها.
وعملا بتعليمات صديقي أحضرنا شرطيا ليقوم بالمعاينة (كونستال) وحرر محضرا بالاصطدام بين سيارتي وسيارة صديقي ثم جئنا بعد ذلك بخبير محلف معتمد لدى المحاكم الموريتانية، قام بإجراء خبرة أكد فيها، ليس فقط تلف سيارتي.. وإنما تلف سيارة صديقي أيضا؛ ورفعنا الملف إلى شركة التأمين التي عوضتنا السيارتين.
كانت حادثة السيارة منعطفا حاسما في حياتي فقد خرجت منها وأنا واثق من أن كل ما في هذه الحياة قابل للتغيير أو التغير.. فعمود الكهرباء يمكن أن يصبح سيارة والسيارة تقبل التغير إلى شاة أو أي شيء كان آخر بمجرد أن يقول أولو الأمر ذلك.
دفعني هذا إلى التفاني في عملي الجديد وتتالت الصفقات وانهال علي المال ولم أعد اعرف من أين يأتي وكنت أصرف دون مبالاة .
لم يعد البيت يكفي لصرف هذه الأموال، فأصبحت أبحث عن مكان لصرفها وهنا أيضا وجدت من يساعدني ويعرض علي خدماته بالمجان في البداية مثل ما يفعل باعة المخدرات.
كان صديقي الجديد "لمجيلج" عالما بأسرار المدينة فقيها في خفاياها
قال لي
- سأذهب بك إلى مكان تشعر فيه بأنك قزم..
- أنا قزم! أسرع بنا إلى هذا المكان.
وذهبنا إلى المكان المذكور.. عندما توقفت سيارتنا أمام البيت المقصود لم نجد مكانا للتوقف.. كان أمام البيت مزدحما بالسيارات الرسمية والخاصة.
سألت صديقي:
- هل هنا أحد النوادي؟
فرد بتحد:
- يجب أن تكتشف المكان بنفسك!
تذكرت كلامه: "ستشعر فيها أنك قزم"
أوقفنا السيارة بعيدا نسبيا واتجهنا إلى باب المنزل الذي وجدناه مفتوحا.
دخلنا.. كانت القهقهات تتعالى ممزوجة بالموسيقى، أحسست بالخوف لأول مرة منذ دخلت عالم الأعمال.
دخلنا الصالون فوجدناه مكتظا بالرجال الذين تحلقوا حول سيدة تبدو لك عند كل نظرة في عمر غير الذي رأيتها فيه من قبل.. كانت تقسم الابتسامات على الجميع مثلما تقسم مضيفات الطيران الحلوى على الركاب.
كان هناك شاب يجلس إلى جانب السيدة يبدو أنه يحاول استقطاب بعض الجماعة..
سلمنا قائلين:
- السلام عليكم ورحمة الله
عندها نظر الرجال إلينا باحتقار وتحد وكأننا سندخل في معركة ضدهم؛ أما المرأة والغلام فردا علينا قائلين:
- تفضلوا، تفضلوا..
أخذ الشاب يسوي في جلسته ويبعد أدوات الشاي قليلا من أمامه. جلسنا وساد صمت تام داخل الصالون حتى الشريط الذي كان في المسجل توقف ولم يتحرك احد لتغييره، تذكرت أحد معتقداتنا في الريف وهو أن هذا النوع من الصمت يحدث عندما يطل ملك الموت عزرائيل على جماعة، حاولت شق هذا الصمت لكن لساني لم يطاوعني كما لاحظت في دليلي أن عدم الكلام في وضعية كهذه مستحسن.
بدا الحاضرون يتململون كمن يعاني من مخاض كانت دراريعهم المعلكة تصدر صوتا ذكرني بموسم "الكيطنة" عندما تهب الريح على النخيل فيتمايل محدثا حفيفا ينذر باقتراب نهاية الموسم.
فجأة صاح احد الحاضرين مزمجرا كالرعد:
- أيها الإخوة من لا يملك مائة ألف أوقية عليه أن ينسحب من مجلسنا هذا! ثم نظر إلى السيدة قائلا
- أليس كذلك
فردت وكأنها تغتنم الفرصة
- طبعا هذا هو اضعف الإيمان
عندها صاح الشاب وهو يضع أكمام دراعته تحت إبطيه
- يانش، الشي اللا الشخصية!
وضحك الجميع وتضاحك، ثم بدأت نظرات الوعيد تتبادل، و بدأ الانسحاب وخلت الغرفة إلا من السيدة والشباب وأنا ودليلي وصاحب المائة الذي بدأ يرشقني بنظراته المليئة بالتحدي. ثم التفت نحو السيدة قائلا
- يبدو أن ضيفك واثق من نفسه وأن جيبه يحتوي على مائة ألف أوقية، وإلا لكان انسحب مع المنسحبين!
ثم انفجر ضاحكا ولكن السيدة أبدت تحفظا فلم تقاسمه سخريته مني لكنها بالمقابل نظرت إلي نظرة تأمرني برفع التحدي.
بدل مائة ألف أوقية رميت على الطاولة مائتي ألف أوقية وتعالت الزغاريد وقال خدي هل تعرف ما حصل للحمار؟ كدت أسأل الغلام "خدي" عن قصة الحمار ولكني سكت لأني لم أعد أرغب في معرفة ما يجري للحمير. بدأ الغلام في صنع الشاي وفي لحظة البصر كنت احتسي كاسي الأول وفعلا كانت كأسا خاصة لم أذق مثلها أبدا.. ثم وضعت السيدة شريطا من الجكوار لكن الغلام "خدي" أشار إليها أن الوقت لم يحن بعد لمثل هذا اللحن فانصاعت لأوامره وغيرت الشريط بآخر أكثر هدوء عندما انتهى الشاي كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل فتذكرت زوجتي واني تركتها وحدها فهممت بالنهوض لكن السيدة التي لاحظت ما دار في ذهني قالت نحن لسنا (أكنتور) من جاءنا لا يخرج وغمزني دليلي ثم همس في أذني مطمئنا
- المدام نائمة بالتأكيد والمدينة آمنة ولا داعي للقلق...
وتواصلت سهرتنا بفعاليات كان من ضمنها رقصة للجكوار من أداء الغلام "خدي" ابرز فيها عدم صحة بعض المعتقدات السائدة مثل الجنس اللطيف والخشن فهو والله ألطف بكثير من الجنس اللطيف بأسره وألطف من السيدة التي نحن ضيوف عليها بل وأكثر إحساسا وتجاوبا مع العواطف.
بعد رقصة الجكوار جاء الغلام (خدي) وجلس إلى جانبي وأخذ يتمرغ علي كقطعة أليفة تحت نظرات السيدة التي يبدو أنها معجبة -بل وملتذة- بما يحدث بأسره ..
تقززت في البداية من لمسات الغلام "خدي" ولكن دليلي -الذي لاحظ ذلك- غمزني بأن سلوكي غير سليم، فاستسلمت وتركته يعبث بي ما شاء..عرفت بعد ذلك أن الغلام خدي يمثل شريحة جديدة نشأت في مجتمعنا رغم المحاذير الدينية والاجتماعية،وأصبحت تتحكم في المجتمع.
استمرت سهرتنا حتى الصباح؛ وعندها أعلنت السيدة أنها تريد النوم.. ودخلت غرفتها، وتبعها الغلام "خدي" وأوصدا الباب وراءهما.
التفت أنا إلى دليلي مستفسرا؛ فابتسم مطمئنا أن ما حدث أمر عادي، وأنه هو السلوك الصحيح.. ثم قال بصوت يثقله النعاس:
- لنذهب؛ فلا بد أن زوجتك استيقظت، وستكون قلقلة عليك.
كانت تدور في ذهني أسئلة كثيرة.. لكن النعاس كان يحول دون طرحها؛
ركبنا سيارتي، واتجهنا نحو بيتي؛ وفي منتصف الطريق أخذ دليلي قنينة زيت محرك السيارة وسكبها فوق يدي وملابسي فضغطت على مكبح السيارة وصرخت في وجهه غاضبا:
- ماذا فعلت؟
فرد مبتسما:
يبدو أنك ما زلت مبتدئا..
فقلت:
- ماذا تقصد؟
فقال وهو يقهقه بصوت عال:
- هل فكرت في الرد على السؤال الذي ستطرحه عليك زوجتك عندما تعود: أين كنت البارحة؟
- أبدا.. لم أفكر في الجواب!
- لذلك سكبت عليك زيت المحرك!
- وما دخل زيت المحرك في هذا؟
- لو فكرت في أن زوجتك ستسألك أين كنت البارحة لعرفك زيت المحرك بما ستقوله لها؛ ولكن قل لي.. أهذه المرة الأولى التي تخدع فيها زوجتك؟
- نعم؛ هذه هي المرة الأولى؛ ولا أنكر أنني أحس بالذنب كثيرا -والخجل أيضا- ولكن قل لي ما دخل زيت المحرك في هذا قبل أن نصل؟
- اسمع -يا مبتدئ- عندما تسألك زوجتك أين أمضيت الليلة البارحة أشر لها إلى بقعة الزيت على ثيابك وابسط لها يديك.. وقل لها -بامتعاض-: حالي يكفي عن سؤالي!
- آه.. لا أحسدك.. فأنت شاطر والله العظيم!
- انظر هنا (وهو يشير لي نحو الشيب الذي يغطي رأسه ولحيته) لقد ابيض كل هذا الشعر في خدمة أمثالك؛ ألا يكفي كل هذا الزمن لاكتساب شطارة مثل شطارتي؟
- والله إنه ليكفي؛ ولكن قل لي أيضا.. هل عندك نفس الذكاء في الأمور الأخرى؟
- في الحقيقة لم أجرب ذلك من قبل.
وصلنا -أخيرا- إلى البيت ووجدت زوجتي جالسة عند الباب.
تلتفت مع كل سيارة تمر.. وعندما لمحت سيارتي أخذت تركض في اتجاهنا فكدت أدوسها بالسيارة لولا أن دليلي تدارك الموقف وضغط على المكبح! فتحت زوجتي الباب.. وأخذت تسألني في لهفة:
- ماذا أصابك.. أرجو أن لا يكون مكروها؟
وأخذت تتحسس جسدي وكأنها تريد أن تتأكد أنني لم أفقد أي جزء من هذا الجسد؛ ولكني نظرت إليها وأشرت إلى الزيت الذي سكبه دليلي وأنا أكرر الجملة التي علمني إياها:
- حالي يكفي عن سؤالي..
- هل تعطلت بك هذه السيارة اللعينة؟ كم مرة قلت لك إنها لا تصلح لشيء!.
عندها تدخل دليلي قائلا:
- بدل أن تلعني هذه اللعينة حضري لنا فطورا جيدا فقد بتنا البارحة في الخلاء نحاول إصلاح هذه اللعينة.
ودخلت زوجتي مسرعة أمامنا وعندما تبعتها بنظرة لاحظت أنها قد احدودبت إلى الخلف فهي في شهرها السادس الآن.
أعدت الفطور وبدأنا في تناوله وكان دليلي ينظر إلي ويغمزني ليقول لي إن المسكينة صدقت ما قلناه ولكني لم أتجاوب مع غمزه لأني كنت أشعر بالذنب؛ كما أني كنت متأثرا كذلك بحال زوجتي، فهي -رغم كل شيء- زوجتي وهي مرآتي التي أرى فيها كل حياتي الماضي منها والحاضر.
بعد الفطور انصرف دليلي وتركني مع زوجتي التي بدأت بالسؤال عن صديقي من هو ومن أي القبائل وما هو عمله وكيف تعرفت عليه.. إلخ. ولم أستطع الرد على أسئلتها لأني لم أكن أعرف إلا اسمه، وحتى اسمه لم أكن متأكدا أنه صحيح لأنه يشبه الألقاب المستعارة فهو يدعى "لموافق" وهذا النوع من الأسماء كثيرا ما يكون مشتقا من طبيعة الإنسان؛ ومما أكد لي ذلك أنه لم يخالفني في رأي منذ عرفته.. قلت لزوجتي إنني متعب وإني بحاجة إلى النوم فقد سهرت البارحة ولم يعرف جفناي طعم النوم. وانصاعت زوجتي لرغبتي فأعدت لي فراشي وخرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها وبقيت أنا مستلقيا على ظهري أفكر في أحداث الليلة الماضية إلى أن سرقني النوم!
كانت تلك الليلة بداية لسلسلة من المغامرات العاطفية التي قادتني إلى جميع أنواع البشر حتى خيل إلي أنني مررت بكل مخادع النساء وذاع اسمي في المدينة وأصبح الناس ينادونني "لغظف" لأني كنت كالسحابة أينما مرت تركت أثرها الطيب وفي أحد الأيام بينما كنت أسير بملل لأني لم أستطع العثور على صيد لم أره من قبل إذا ببيت يدخله عدد كبير من الرجال فقلت في نفسي لا بد أن هؤلاء يقصدون شيئا فهذه الأمة لن تجتمع على ضلال. وأسرعت إلى المكان ودخلت دون استئذان لأني تعودت على ذلك خلال أيامي الماضية؛ ولكني فوجئت بجماعة من الرجال يجلسون على شكل حلقة وبينهم امرأة واحدة لكنها تساوي ألف امرأة وأنا الذي كنت أظن قبل قليل أنني مررت بجميع أصناف النساء. عندما دخلت سكت الجميع وتظاهروا بلعب الورق وقلت لهم ناولوني المصحف فمن غلبني تركت له المكان،ومن غلبته عليه تركه لي. وبدأنا نعلب الورق وكنت منتصرا دائما إلى أن عتم الليل فخرج الجميع دون أن يضايقني واحد منهم أو يحاول مبارزتي للفوز بهذه السيدة/ التحفة.
في البداية ظننت أنهم عرفوني فصانوا ماء وجوههم ولكن الأمر لم يكن كذلك فقد عرفت بعد ذلك أن للأمر سببا آخر.
التفت إلى السيدة وقلت لها ألا تعرفين صنع الشاي أيتها الجميلة؟ ورميتها برزمة من النقود دون أن أعدها؛ لكن السيدة أمسكت الرزمة بهدوء وردتها إلي قائلة:
- خذ نقودك فأنا لست امرأة نقود!
لم أصدق فقلت متهكما:
- أنت امرأة ماذا إذن؟ قولي فلن تفلتي مني ولو كنت بالياقوت الذي اختفى منذ قرون:
- فقالت وهي تنفخ صدرها كالديك الرومي:
- أنا بالمبادئ فهات!
- المبادئ؟
- قولي أين توجد وسأحضرها لك.
- من هنا! وأشارت بإصبعها إلى صورة كبيرة معلقة فوق رأسها.. رفعت بصري إلى الصورة فإذا بها لحمار "طايب" في عيني؛ سألتها:
- من صاحب هذه الصورة؟
- ألم تقرأ اسمه في أسفل الصورة؟
ولكني لم أستطع مصارحتها بأني لا أقرأ فقلت مبتسما:
- بلى؛ ولكني أريد أن أسمعه من فمك أنت.
فقلت:
- لنرجع إلى موضوعي أنا.. كيف يمكنني الحصول على المبادئ التي طلبت مني؟
فردت مبتسمة:
- هذا بسيط؛ ولا يكلفك أكثر من طلب انتساب تقدمه لي. عندما سمعت كلامها عن النضال والمناضلين أحسست أنني أسجل نقلة جديدة في حياتي، وأنني أدخل سرا جديدا لم أعرفه من قبل.. فقد اشتهرت في عالم الأعمال فلماذا لا أنبغ في السياسة! وطلبت منها أن تؤجل الموضوع إلى غد؛ حيث سآتيها بالطلب.. لأني لم أكن أستطيع تحريره لأسباب لا يمكنني ذكرها لها فبدأت تعد الشاي.
بعد انتهاء الشاي رافقتني إلى الباب وقالت وهي تودعني:
- لا تنس الطلب غدا.
بت تلك الليلة وأنا أفكر في موضوع الطلب؛ فقد كان دخولي الحياة البوليتيكية أمرا شاقا لي.. ولم تكد الشمس تطلع حتى أخذت الورقة التي كتبها لي صديق بعد أن كلمته عن الموضوع، وانطلقت مسرعا إلى السيدة ذات المبادئ؛ لم أكن أتصور أنها ستفرح كل تلك الفرحة عندما قدمت لها الطلب.. فأخذته وكأنها لا تصدق؛ ثم دعتني للجلوس، وأخذت تصب لي كؤوس الشاي. بعد أن انتهى الشاي عدنا إلى الحديث عن علاقاتنا -أنا وهي- فأكدت لي أن الأمر مقترن بالمبادئ؛ فإذا فرطتُ فيها فقد فرطت في علاقتنا.. وجرنا الحديث عن المبادئ إلى الحديث عن الطريقة التي سأدمج بها فأخبرتني سيدتي بأنها ستعطيني كلمة سر سيتم الاتصال بي عن طريقها؛ كما حذرتني من أن أقول هذه الكلمة لأي كان.. بل يجب أن أحتفظ بها حتى إذا جاءني أحد وقالها أمامي؛ عندها يجب أن أتبعه إلى حيث هو ذاهب. تحدثنا في مواضيع كثيرة؛ لكنها كانت تنصب في النهاية في نفس القالب.. أي كانت كلها حول المبادئ وأصحاب المبادئ.
ثم قالت! اسمع انتهى الحديث في المبادئ بيني وبينك؛ فعلاقتنا اليوم أصبحت علاقة عاشق بعشيقته ثم ضحكت ضحكة أنارت الغرفة التي نجلس فيها بأكثر من مصباح الكهرباء المعلق بالسقف، ثم ضربت فخذي بيدها.
كانت الضربة قوية لكن كما يقال: ضرب الحبيب..
تداركتها قائلا أين كلمة السر؟
قالت: آه لقد كدت أنسى، كلمة السر الخاصة بك، هي "لكراره للجميع" احفظها جيدا.
حفظت كلمة السر وبعد جلسة غرامية اتفقنا أن نلتقي في اليوم الموالي وانصرفت متوجها إلى بيتي.
عندما وصلت البيت وجدت زوجتي تعاني من المخاض فحملتها في السيارة وانطلقت مسرعا إلى المستشفى.
عندما وصلت باب المستشفى وجدت نفسي أمام حارس بيده عصى، أشار إلي بالتوقف فأشرت إلى زوجتي التي تصرخ لكنه نهرني قائلا إن علي أن أدفع رسم الدخول أولا وأشار بيده إلى شباك صغير أمامه طابور من البشر منهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على أربع من شدة المرض.
حاولت أن أقنع من في الطابور كي يعطوني الأسبقية لكن أحدا لم يستجب لطلبي، فدخلت في الطابور مجبرا.
بدأ الطابور يتحرك وكأنه حلزون وصراخ زوجتي يتصاعد أكثر فأكثر وكلما تزايد صراخها اقتربت من الشباك.
عند ما وصلت إلى الشباك انقطع صراخ زوجتي فانتابني الهلع.. ما الذي أسكتها؟
..تركت الشباك وهرعت إلى سيارتي فتحت بابها بحركة هستيرية كنت متأكدا من أن زوجتي ماتت ولكني والحمد الله وجدتها حية وأشارت لي بيدها إلى أن المولود قد جاء ولكنه يختنق تحتها وطلبت مني أن أزيحها من فوقه.. حاولت أن أزيحها وحدي لكن وزنها الذي يبلغ مائة وعشرين كيلوغراما جعل الأمر مستحيلا.. ماذا أفعل يا إلهي!
فكرت في أن استدعي الناس لمساعدتي لكن الوضعية التي فيها زوجتي لا تسمح لأحد غيري بالاقتراب منها.
ماذا افعل، مستحيل، هل أترك ابني يموت! دارت في ذهني حلول كثيرة كان منها أن أداهم الحارس بسيارتي وادخل عنوة ولم أنتظر كثيرا في تطبيق هذه الفكرة.. ركبت سيارتي وأدرت المفتاح بسرعة ثم دست على دواسة السرعة واتجهت إلى الباب فلما رآني الحارس كذلك هرب تاركا الباب ودخلت مواصلا سيري السريع إلى أن وصلت جناح التوليد دست على المكبح فتطاير الغبار على جماعة كانت تجلس أمام الباب فأخذوا يشتمونني،لم أعبأ بهم ونزلت مسرعا وأنا اصرخ: أين الطبيب؟ أين القابلة؟ يا ناس هذا مولود يموت أسرعوا أنقذوا ابني.. وتجمع حول السيارة جمع كبير من الفضوليين شكلوا عائقا أمام القابلة التي جاءت لتتفرج كباقي الفضوليين..وبعد وقت طويل جاءت بعض الممرضات وساعدن القابلة على إنزال زوجتي والمولود الذي لا يزال ملتصقا بها وأدخلوهما في غرفة الولادة وبقيت أنا انتظر أمام باب الغرفة....بعد دقائق سمعت تناديني،فدخلت مسرعا
عندما اقتربت منها لم تتكلم وبقيت ساكنة؛ حاولت أن أسألها.. لكن صوتي احتقن، وبقينا لحظات نتبادل النظرات؛ ثم وضعت يدها على كتفي فتحركت حركة لا إرادية، ربما تعود إلى كبت قديم بخصوص النساء "الأجنبيات" ثم قالت:
- ألست مسلما؟
فأجبت متعجبا:
- بلى!
فقالت:
- قل: أشهد أن لا إله الله.
- أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ثم ساد الصمت من جديد.. وانتظرت أن تقول شيئا؛ ولكنها ظلت خرساء فتأكدت أن مكروها وقع؛ هل مات ابني.. وصرخت في وجهها:
- هل مات ابني؟ تكلمي!
حاولت أن أبعدها من طريقي ولكنها أبعدتني عنها ونادت على الحارس ليبعدني ثم قالت:
- لقد مات ابنك و..
ثم سكتت.. طار عقلي وصحت:
- وماذا؟
قالت:
- وزوجتك أيضا.
عندما سمعت كلامها أصبت بجنون وأخذت أتخبط حتى أفلت من الحارس ثم اتجهت إليها هي وكأني ثور هائج فابتعدت من طريقي ودخلت أصيح.
- ابني.. زوجتي..
وأنا افتح هذا الباب وذاك حتى وصلت الغرفة التي وضعت فيها جثة زوجتي وابني بقربها فانتزعت قطعة القماش التي كانت تغطي وجهه، أريد أن أرى الوجه الذي أحببته منذ عشرات السنين؛ هل يشبهني فعلا هذا "المخسور" الذي مات في بطن أمه ثم بعث فيه مرة ثانية ليموت داخل غرفة الولادة، مصطحبا معه أمه بعد أن اصطحبته هي معها وهو ميت؟!.
تفحصت الوجه الصغير كما يتفحص تاجر الماس جواهره ليتأكد من أصالتها؛ فعلا إنه نسخة طبق الأصل مني! وبقيت دمعة معلقة في حدقتي لم تسقط؛ لأن كل شكوكي حول زوجتي تبددت؛ ووضعت يدي فوق جثمان زوجتي أطلبها أن تسامحني في كل ما رميتها به؛ لأني لم أكن أصدق قضية "امخسور" هذه؛ كان شبه الصغير بي كطوق نجاة انتشلني من غرق محتوم.. فحمدت الله.
بقيت لحظات واقفا أنظر تارة إلى جثمان زوجتي ثم إلى جثمان ابني تارة أخرى؛ جاءتني القابلة وشرحت لي أن ما حدث قضاء وقدر؛ وأن المسلم لا بد أن يقبل بالقضاء والقدر.. ثم أشارت بيدها إلى الباب للخروج؛ لم تكن عندي قوة أرفض بها أي أمر.. فخرجت منحني الرأس؛ ثم اتجهت –مباشرة- إلى سيارتي.
بعد أن دفعت رسوم الدفن وما يتعلق بذلك خرجت من المستشفى، وأخذت أسير في شوارع المدينة دون هدف؛ كانت الأزقة الضيقة تظهر لي كأنها شوارع واسعة موحشة مهجورة.. ويخيل إلي أنى أرى زوجتي في كل منعطف؛ لم أكن أتصور أني أحبها إلى هذه الدرجة! صحيح أن الإنسان لا يدرك قيمة الشيء إلا بعد أن يفقده.
وصلت إلى بيتنا.. ونزلت من سيارتي؛ وعندما اقتربت من الباب لم أجد القوة على فتحه، لأني لن أتحمل ذلك الفراغ الذي أصبح بداخله بعد أن ماتت زوجتي.
بقيت لحظات أفكر في ملجأ ألجأ إليه في هذا الوقت.. ملجأ يستطيع أن يسد هذا الفراغ الذي يوجد بداخلي.. وفجأة سمعت صوتا خلفي يقول:
- "لكرارة للجميع"!
.. التفت كالمذعور فإذا بحمار ضخم يقف خلفي تقابلت نظراتنا فاستدار وسار في الاتجاه الآخر دون أن يزيد على تلك الكلمة! تذكرت كلام صديقتي التي قالت لي إن هذه الكلمة لا يعرفها إلا هي وأنا والشخص الذي سيستلمني، وعندما أسمعها من أحد فإن علي أن أتبعه دون أي استفسار سرت خلفه دون أن أفتح فمي كنت أود أن أشرح له وضعي والحالة النفسية التي أمر بها.. لكني خفت أن يفسر ذلك بأنه تخاذل مني... كنا نسير في الأزقة الضيقة نخرج من هذا الزقاق لندخل في ذلك حتى وصلنا إلى بيت عادي تماما نبش صاحبي أمام الباب فأخرج مفتاحا وفتح به البيت.
كانت الغرفة التي دخلنا فيها شبه مفروشة بحصير مطاطي وبعض الأرائك القديمة وفي الزاوية اليمنى آلات شاي متسخة وبعض قطع الورق الملفوفة وقطع من الخبز اليابس وبعض أعواد الكبريت المشتعلة وبقايا السجائر، كانت الغرفة تفوح بروائح عديدة من رائحة الشاي إلى رائحة الغبار.
بعد أن جلسنا سلم علي صاحبي لأول مرة وأخذ يسألني عن حالي ثم قال: إن حظنا كبير لأنك أصبحت في صفوفنا، فنحن –والله- بحاجة إلى أمثالك؛ ولذلك.. وبعد أن قدمت طلب انتسابك فقد قررت الجماعة منحك العضوية مباشرة دون أن تمر بالسلم.. فنحن كنا نعرفك دون أن تعرفنا وكانت عيوننا عليك وأنت لا تدري، فأنت صاحب سمعة طيبة.. وكما قلت لك نحن محظوظون.
وهكذا بدأت حياتي السياسية وكنت إذا دخلت يقف جميع الرفاق.
تعلمت الكثير من السياسية. كانت البداية بحفظ شعارات الحزب التي كنا نرددها عند بداية كل اجتماع وعند انتهائه.
في البداية وجدت السياسية نوعا من حياة النخبة وأعطتني دفعا معنويا جعلني أحس بأني فوق الآخرين.
كما أنها لم تكن كاسدة.. لقد كنا نتلقى أموالا طائلة، ولم أعرف ذلك إلا بعد أن أسندت إلي مسؤولية إحدى مقاطعات العاصمة، وكانت تسلم لي مخصصات تأجير الأوكار ومخصصات بعض الرفاق المفرغين للعمل السياسي.
كنت أظن أن الأمر يتعلق بالمدنيين فقط؛ لأني لم أجتمع بعسكري خلال وجودي في التنظيم؛ لكن احد رفاقي قال لي يوما إن هناك جناحا عسكريا في تنظيمنا وحاولت -دون جدوى- أن أعرف عنه شيئا؛ لكنه أخبرني أن ذلك لا يجوز، وحتى السؤال عنه قد يعرضني للفصل.
ظلت الأمور تسير على ما يرام حتى ذلك المساء.. حيث جاني أحد الرفاق وأخبرني أن قيادتنا اعتقلت بأسرها وأن بعض العناصر يجري البحث عنهم؛ وأمرني بإحراق -أو دفن- جميع الكتيبات والكراسات التي بحوزتي؛ كما نصحني بعدم الخروج من البيت وأخبرني أنه من الجماعة المطلوب القبض عليها لذلك سيهرب إلى دولة مجاورة حتى تتضح الأمور. كانت تلك الأيام مشحونة بالروايات التي تصلنا من السجن.. فتارة تصلنا أخبار أن احد الرفاق فقد أسنانه خلال التعذيب وآخر تكسرت رجله وثالث استشهد.
وتوقف التنظيم وأصبحنا نعتمد على ما أسموه ربط الخيط.
كان هناك رفيق قال لي إنه كان عسكريا قبل أن يطلب منه الحزب التفرغ للعمل السياسي، هو الذي يقوم بالربط بيننا. كان يأتيني كل يوم حاملا أخبارا أسوأ من أخبار الأمس إلى أن قال لي في أحد الايام:
- يبدو أن النظام مصر على تصفيتنا.
نحن لن نقبل ذلك هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها حزبنا لضربة من أعداء الوطن، من الإقطاعيين والامبرياليين.. لكنه صمد في كل مرة وسيصمد هذه المرة.
كما أكد لي أننا لا بد سنحكم وننشر العدل والمساواة بين أفراد الشعب، وأن نوحد جميع الحمير من الحوض الشرقي إلى روصو رغم أنف الحسود.
وفي أحد الأيام جاءني رفيقي بأخبار سيئة جدا،قال إن أحد الرفاق أعترف علينا وسلم المن جميع الأسماء،بل ذهب إلى أبعد من ذلك،فقال إن الرفيق الذي أعترف كان مدسوسا من طرف الأمن وأنه كان يواجه كل من ينكر.
كانت تلك الأيام من أصعب ما عرفته في حياتي،حيث كان علي أن أطمئن على أحوال أهالي الرفاق المعتقلين وأن أتكد من وصول مخصصاتهم.
في أحد الأيام جاءني المنسق ووجهه مشرقا فقال لي:عندي خبر سار لك
قلت:من أين يأتي السرور هذه الأيام؟
قال:الجماعة الكبيرة سوف تعقد اجتماعها الكبير في مقرها في الخارج،وستحضر جميع الجماعات بممثلين عنها،وقد قررت جماعتنا أن تمثلها أنت لذلك جهز نفسك للسفر،وسلمني جواز سفر باسمي وتذكرة سفر ومبلغ من المال،لم أعده.
كانت تلك أول مرة أسمع فيها بالجماعة الكبيرة،قلت وأنا أستلم التذكرة والجواز والمبلغ،كيف سأتعرف على الجماعة؟
-لست بحاجة للعرف عليها،فهي تعرفك.
-كيف غرفتني؟
- ليس مهما،المهم أنها تعرفك وتعرف عنك كل شيء،حتى أنها تعرف أنك بت إحدى الليالي تنتظر عودة زوجتك لتطرح عليها بعض الأسئلة،وعندما جاءت متأخرة لم تستطع طرح أسئلتك....
عندما سمعت كلامه أحسست بخوف رهيب،قلت في نفسي:هل دخلت عالم الأشباح والجن دون أن أعلم؟ليس هناك من يعرف هذه الحادثة التي روى لي،حتى زوجتي لا تعرف شيئا عنها.تسمرت،وبدت علامات الغباء على وجهي،كنت مذهولا ولم أنتبه إلا عندما هزني المنسق وهو يقول سأعود إليك عند الفجر لأوصلك إلى المطار،وخرج.
ترددت في السفر،بل فكرت في ترك الجماعة،حديث المنسق عن خفايا حياتي أشعل فضولي في معرفة الجماعة الكبيرة.
عند أول خيوط الفجر سمعت الباب يدق،عرفت أنه المنسق،كنت قد استيقظت قبل ذلك وجهزت نفسي فحملت حقيبتي واتجهت نحو الباب وفتحته.
تفاجأ المنسق عندما رآني في كامل حلتي وقال مبتسما:يبدو أنك مشتاق لرؤية الجماعة الكبيرة،فقلت معترفا:لا أكذبك أنت محق.
ركبنا السيارة واتجهنا إلى المطار،في الطريق كان الشارع خاليا إلا من سيارتنا،وكان ضوء الصباح يضعف ضوء المصابيح وضوء مصابيح السيارة.
سرحت في الشارع،ضاعت نظراتي وهي تصاحب ضوء السيارة،ولأول مرة منذ زمن طويل أجدني سارحا في الماضي.
مر شريط حياتي مسرعا مثل السيارة التي تقلنا،كان مسرعا،ولكنه كان واضح التفاصيل،رأيت زوجتي تحت الشجرة يوم التقينا لأول، ورأيتها يوم دخلتا المدينة،وعادت صورتها وصورة ابني وهما جاثمين،مسحت وجهي بيدي فأحسست ببل،ربما كن دمعة،سألني رفيقي،هل مازلت نعسانا؟لم أرد عليه لأنه لن يفهمني،ومنحني وصولنا المطار فرصة التهرب من الجواب.
قام رفيقي بالإجراءات وسلمني بطاقة صعود الطائرة،وسمعت مكبر الصوت يقول:ركاب الرحلة...مدعوون للصعود إلى الطائرة،فصعدنا.
كانت تلك أول مرة اصعد فيها إلى السماء.. لم يكن طموحي قد أوصلني في يوم من الأيام للصعود إلى السماء. كانت الطائرة مريحة وممتعة ولكني كنت مشغولا عن الاستمتاع بها في التفكير في الشخص الذي سيستقبلني لدى وصولي فقد أكد لي المسؤول الذي أمرني بالسفر أن شخصا سيكون في استقبالي وهو يعرفني، ولذلك ليس علي إلا أن أرد عليه بنعم عندما يذكر اسمي أمامي وهو سيتولى الباقي بنفسه..
كانت الرحلة طويلة؛ فكانت فرصة نادرة في أن يتصفح المرء أرشيف ذاكرته.كانت بعض الأحداث تمر غير واضحة كأن غبار الأيام سلبها وضوحها،فكنت أتعرف على بعضها ويفوتني البعض الآخر.شخصيات عرفتها هنا وهناك،كان لكل منها مكان ما في ذاكرتي.
استوقفتني شخصية عرفتها في بداية حياتي في المدينة، كان إنسانا قنوعا لا ينظر إلى ما عند الغير خشية أن يوسوس له الشيطان بأن يحصل عليه بطرق غير نزيهة وتذكرت أنني رأيته بالأمس وهو لا يزال على حاله.
كل الناس تغيروا من حوله وتحسنت أحوالهم لأنهم حاولوا تغيير سلوكهم؛ أما هو فقد ظل كما هو! والغريب أنه كان راضيا عن حاله، وسعيدا به أيضا؛ فقد قال لي يوما: هل تعرف يا صديقي أن المتعة التي يجدها هؤلاء الناس في المال الذي يحصلون عليه بشتى الوسائل أجدها أنا في أني لم أستعمل أي وسيلة غير شرعية للحصول عليه.
وتذكرت كيف كان استغرابه لردي عندما قلت له إن الصديق الذي فتح لي أبواب الدنيا زودني بحكمة لفيلسوف كبير، تقول الحكمة إن القناعة هي أخطر سلاح لقتل الطموح. عندها نظر إلي وكأني بعدت عنه آلاف الأميال وقال: هل فكر هذا الفيلسوف في الفصل بين القناعة والطموح؟!
... لم يقطع تفكيري إلا صوت المضيفة وهي تطلب من الركاب شد الأحزمة والامتناع عن التدخين وتسوية المقاعد استعدادا للنزول، وحطت الطائرة ،وبدل أن ننزل منها مباشرة إلى الهواء الطلق كما رأيت في مطارنا ،دخلنا في نفق وكنت كلما لاقيت أحدا أقول له أنا فلان عله هو من ينتظرني فكان بعض من اكلمهم يرفع لي منكبه والبعض الآخر لا يعيرني أي اهتمام.
أحسست لأول مرة أنني صغير، اصغر من الذبابة لاني لا الفت أي انتباه،وعرفت كم هو صعب أن تأتي بلدا لا يعرفك أحد فيه،تذكرت المغتربين من أبناء جلدتي وأحسست بالشفقة عليهم.
كانت الحركة في المطار الذي نزلنا به كبيرة ودؤوبة ، فكل شيء يتحرك فنحن لا نحتاج إلى مبادلة أقدامنا لأن الأرض تسير بنا، لوحات الإعلانات ذات الأضواء اللامعة تدور هي الأخرى، قنينات العطور، السجائر، المجلات ،حتى البشر له لوحات إعلانات.
بدأت اشك أني في الحقيقة، قلت ربما يكون ما أنا فيه حلما لا غير لقد نمت في الطائرة وبعد لحظات ستحط الطائرة وسأستفيق من هذا الحلم، لم أتصور أبدا أنه من الممكن أن توجد بلاد كهذه إلا في الأحلام هذا النظام وهذا الانضباط وهذه النظافة لا يمكن أن يكون واقعا ،وتذكرت الحادث الذي حدث في مطار انواكشوط قبل ذهابي بدقائق والذي كاد أن يقعدني ربما شهورا في المستشفى تحت غطاء من الحبس.
في مطار نواكشوط ،عندما طلب من ركاب رحلتنا التوجه إلى الطائرة هرع الناس في فوضى وهرعت معهم،كنا أشبه بمتسابقي المراتون،كل واحد منا يريد أن يصل الأول لخط النهاية الذي هو باب الطائرة ، لم أعرف ماذا حصل لي إلا بعد أن سمعت من الناس أنها قشرة موز كان يأكلها أحد رجال أمن المطار ورماها هي التي تسببت في انزلاقي .ارتعدت فرائسي من جديد وحمدت الله على أن البأس انحصر على ذلك، وفجأة سمعت صوتا يقول: فلان تفضل.
... التفت خلفي فإذا بحمار أنيق يبتسم لي ابتسامة عريضة ويمد لي يده، صافحته وأخذ يسألني عن حالي وعن الرحلة ثم طلب مني جوازي ليقوم بالإجراءات أعطيته جوازي وغاب عني في طوابير المسافرين وبقيت أنا أجول ببصري في هذا الكون الغريب كنت خائفا رغم أن كل شيء هنا يبعث على الاطمئنان،ربما يكون خوفي عائدا إلى كون هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها.
مرت بقربي حمارة ريفية من بلدي كانت ترتدي الزي التقليدي وتتمايل بين المارة وكأنها في احد شوارع "الكزرات" لا تبالي بما يدور حولها عجبت لحالها كيف تسير هكذا باطمئنان دون أن تشعر بخوف وهي الريفية بينما أنا الذي ادعي أنني أصبحت رجلا مرموقا من أهل المدينة ارتعد من الخوف وأرجعت عدم خوفها لجهلها لما يمكن أن يحدث، لو انقطع التيار الكهربائي مثلا أو حصل تماس في اسلاك الكهرباء وهنا تأكدت من أن الجهل نعمة لا تساويها أية نعمة.
أخذ صبري ينفد فصاحبي تركني منذ دقائق ولم يعد بعد، وأخذت أجول ببصري في القاعة الكبيرة باحثا عنه، ولكني تذكرت أنني لم احفظ ملامحه جيدا فتوقفت عن البحث وجلست على مقعد انتظر، ولم تمض إلا ثوان حتى خرج من الطابور ولوح لي بيده فأسرعت إليه وعند ما جئته قال:
- هذه الإجراءات صعبة والطابور طويل لذلك تأخرت/ فقلت متعجبا:
- أولا تعرف أحدا هنا يقوم بالإجراءات دون أن تدخل الطابور؟ فرد علي ضاحكا:
- هنا ليس مثل ما عنكم هنا النظام فقط كل شيء يجري بالنظام، فلا أحد يستطيع تجاوز النظام.
وخرجنا من المطار وامتطينا سيارة صديقي التي كانت تنتظرنا أمام باب الخروج ثم انطلقت بنا كالسهم كان صديقي يسير بسرعة مذهلة جعلت الخوف يمتلكني من أن يكون مخمورا ولكني عندما نظرت إلى إشارة المرور التي تحد السرعة وجدت أن صاحبي يسير تحت الحد وفي نفس الوقت التفت إلي قائلا:
- ربما تكون غير معتاد على هذه السرعة ولكن لو خففت سرعتي لتسببت في حادث ربما يروح ضحيته المئات فنحن هنا في عالم السرعة.
... بت تبك الليلة في نعيم لم يستطع خيالي تصوره من قبل وفي الصباح الباكر جاءني رفيقي وطلب مني أن انزل معه إلى المدينة حيث قمنا بجولة في معالمها ثم قال لي إن الجماعة الكبار يريدون الاجتماع بي وتوجه بي إلى دار كبيرة قال إنها مقر الجماعة وعند مدخلها تلقانا كبير الجماعة وهو يبتسم قائلا:
- أهلا وسهلا، وعانقني عناقا كدت افقد خلاله أنفاسي. ثم بدأ يثني علي ويقول لي إن الجماعة راضية عني وعن أعمالي الجليلة التي قدمتها لصالح الجماعة.
دخلنا القاعة وبدأنا الاجتماع كان افراد الجماعة يتحدثون بكلام اعرفه لكني لم أكن اعرف مضمونه كلما توغل احدهم في الكلام صفقوا له وعندما يصفقون اصفق أنا أيضا، كان التصفيق هو الشيء الوحيد الذي افهمه من كل ما يدور أمامي.
بعد انتهاء الاجتماع خرجنا، أنا ورفيقي واتجهنا إلى الفندق وفي الطريق قال لي:
- لقد كنت رائعا خلال الاجتماع. فقلت متعجبا:
- ماذا فعلت حتى أكون رائعا؟ فرد: ما فعلته هو عين الصواب.
ولكني لم أفعل شيئا!
هذا هو عين الصواب، فلو عارضت أو طرحت أفكارا جديدة أو اقتراحات جديدة لكنت ممقوتا من طرف الجماعة فالجماعة لا يحبون من لديه أفكارا أو اقتراحات إنهم يسمونه متطرفا.
* بعد مطر عبارات الإعجاب التي أمطرني بها رفيقي قال لي:
- ستعود غدا إلى بلادك فقد حجزت لك على رحلة غد، ثم فتح حقيبة جلدية كبيرة اخرج منها مبالغ ضخمة وأخذ يوزعها قائلا.
- هذا مخصصك أنت وهذا لإيجار البيوت المخصصة للأوكار وهذا للعمل إلى أن حدد لكل نشاط مخصصه ورد المبالغ للحقيبة وسلمها لي وهو يعانقني ثم قال:
- لقد كنت أريد أن اعملها مفاجأة لك لكن...
فقلت قل لي ما هي المفاجأة
- اتركني أفاجئك بها عند سلم الطائرة
- أرجوك، إذا لم تقل ما عندك الليلة فإني لن أنام أبدا فأنا فضولي إلى حد الجنون.
- لهذه الدرجة؟
- وأكثر فأنا مستعد لان أعطيك أي شيء تريد مقابل أن تقول لي هذه المفاجأة، قال وهو يضحك: اعطني الحقيبة!
تناولت الحقيبة وأعطيتها له غير مبال وقلت
- هذه الحقيبة فقل!
قال وهو يعانقني بحرارة: مبروك فازداد توقد الفضول في نفسي وصحت!
- مبروك على ماذا؟
فوضع يده في يدي وهزني حتى ارتج مخي وقال وهو يضغط على كل حرف –لقد قررنا تسليمك الإمرة هناك.
بعد ساعة من المجاملات تركني رفيقي على أن يعود لي في الصباح ليصطحبني إلى المطار.
بقيت وحدي في غرفتي في الفندق،فتحت الشنطة،أخذت أعد المبلغ الذي بداخلها
كان مبلغا خياليا،لم أمسك في حياتي مبلغا بهذا الحجم،حتى أيام العز مع بوفيم وبودبرة.
تزاحمت الأفكار في رأسي،هل يجب أن أعود وأسلم هذا المبلغ للجماعة،أم يجب أن أنهي هذه المرحلة من حياتي واحتفظ بالمال لنفسي لأبدأ به حياة جديدة...؟
تذكرت مصير بعض الرفاق الذين أعطوا حياتهم لخدمة الجماعة وانتهوا مرميين في الشوارع،بعضهم ألصقت به تهمة العمالة وأحسنهم حظا من وصف بالتعرض لمرض نفسي جعله غير صالح للعمل الجماعي...رشحت تلك الذكريات كفة الإحتواء على المبلغ وإنهاء هذا الفصل من حياتي.
قطع صوت المضيفة وهي تبشرنا بقرب الهبوط في مطار نواكشوط حبل تفكيري،وأخذت أستعد،وبينما نحن ننتظر ملامسة عجلات الطائرة للمدرج أذاب ها ترتفع فجأة وتطاير الركاب الذين لم يكونوا رابطين حزام الأمان..دب الذعر بين الركاب...وتخيل كل واحد كارثة من نوع ما،لكن صوت قبطان الطائرة طمأننا قائلا:نأسف لهذا الإزعاج الناتج عن مرور حمار على المدرج،وقد تمت السيطرة عليه وسنهبط بعد قليل.....
هبطت بنا الطائرة واتجهنا للإجراءات الأمنية والجمركية عندما سألوني عما إذا كانت لدي عملة صعبة قلت نعم وعندما سألوني كم معي قلت ألف فرنك فقط، وتركت باقي المبلغ دون أن أصرح به لأن السوق السوداء في تلك الأيام كانت مغرية بينما كان سعر الصرف المتداول متدنيا.
أنهيت الإجراءات وعندما خرجت رأيت رفيقي الذي ودعني أصلا ينتظرني فأشرت إليه بأن يبتعد موهما إياه بأن وجوده خطأ وقد يعرضني للخطر فاختفى على الفور وبقيت أنا والفلوس.
قبلت الحقيبة ثم اتجهت إلى مكتب تأجير السيارات وطلبت منه إحضار سيارة وجاءت السيارة ودفعت أجرتها من الألف التي صرفت ودخلت المدينة.
جلت في بعض الشوارع أفكر في مكان أنزل فيه من معارفي الكثيرين ولكني لم أجد الرغبة في النزول عند أحدهم.
فأنا لا أرغب الآن في الناس وأفضل الابتعاد عنهم حتى أرتب أموري، ولذلك قررت أن أذهب إلى فندق أستريح فيه.
ذهبت إلى الفندق واستأجرت غرفة فاخرة وضعت فيها أغراضي ثم أخذت أغير ملابسي لأنزل إلى المدينة بعد أن أستريح قليلا من التعب، ثم طلبت من أهل الفندق عدم ذكري لمن يسأل عني...
* علمت ان الجماعة يبحثون عني في كل مكان ولذلك رأيت من الضروري أن أضع النقاط على الحروف فتركت الفندق الذي انزل به ودخلت المدينة متجها إلى إحدى الدور التي كنت استعملها هناك وجدت بعض افراد الجماعة مجتمعين وفهمت أن اجتماعهم كان يدور حولي لاني عندما دخلت صاح واحد منهم
- ها هو أخيرا!!
تلقوني بحرارة لا تكاد توصف واخذوا يسألوني عن كلما قمت به في سفيري وعن ما جئت به، واخذوا يعلقون على اختفائي بعد صولي فيرى البعض منهم أنه صواب تجنبا للمشاكل كما يرى البعض الآخر أنه احتياط في غير محله.
ظلوا هكذا يتكلمون ويعلقون وأنا لم أفتح فمي بكلمة واحدة حتى انتهى ما عندهم من كلام وسكتوا جميعا وساد صمت تام داخل الغرفة التي نجلس فيها.
أخذت الكلام قائلا:
- اسمعوا، لقد شرفت بأن أكون صاحب الحل والعقد في الجماعة هنا ولذلك أرجو أن تستمعوا لكلامي وتنفذوه دون مناقشة كما اعتدنا ان نفعل فتدخل احدهم قائلا:
- قل ونحن ننفذ، عندها عرفت أنها فرصتي الوحيدة في أن افعل ما أريد دون أن أحدث ردة فعل في صفوف الجماعة فقلت:
- لقد قررت تجميد كل نشاط إلى إشعار آخر،لم يتمالكوا وقالوا بالفم الواحد
- لماذا؟
قلت: أنسيتم شعارنا نفذ ثم ناقش؟كرروا الشعار وانصرفوا،وحذار من الاتصالات الجانبية.
انتهى الاجتماع وخرج الرفاق وبقيت وحدي.أحسست بالحاجة إلى شخص يقاسمني ما أنا فيه من اضطراب ناتج عن قراري بتغيير اتجاه حياتي.تذكرت صديقتي،امرأة المبادئ،فقلت لا بد أن أبحث عنها،وشعرت بذلك الإحساس الذي عشت عندما ربطت لي العلاقة بها بالانضمام للجماعة،قلت في نفسي هي وحدها ستفهمني.
بحثت عنها حتى عثرت عليها في كوخ خشبي في الكبة،كانت آثار الإهمال بادية على وجهها الذي فقد نضارته،بما بمعامل الزمن.
تأثرت كثيرا لحال صديقتي ورفيقتي ومعلمتي فأنا ممتن لها بكل ما أنا فيه الآن ولذلك قررت أن أخرجها من الوضع الذي تعيشه إلى وضع أحسن، فأخبرتها عن عزمي وكادت تطير من الفرح وانتعشت وبدأت تسألني:
- هل تذكر اليوم الذي عرفتك فيه؟
- قلت: وكيف أنسى اليوم الذي هل فيه سعدي؟
- قال هل ما زلت تتذكر تصرفاتي السخيفة؟
- نعم اذكر واذكر كل حياتي السخيفة فأنا لم أفق إلا من هنيهة وضحكنا معا.
أعدت لي رفيقتي الشاي فأجادت، يبدو أن الصعوبات التي مرت بها لم تغير من قدراتها وحتى أنها لم تنل من جمالها، بعد انتهاء الشاي أخبرتها أني سأذهب لترتيب بعض الأمور وسأعود في المساء لاني لم اصرف بعد والمال الذي معي لم أعلن عنه في المطار ولذلك لابد لي من البحث عن أحد الأسواق السوداء لتصريفه..
ودعت رفيقتي ودخلت المدينة وأنا أفكر في طريقة التصريف أنا اعرف أن السوق السوداء كبيرة وان محلاتها تكاد تكون أكثر عددا من محلات سوق العاصمة لكن طبيعتها السوداء تجعل الاستهلاك فيها أصعب إلا بدليل، ماهر، أخذت استرجع معارفي في الفترات الماضية من حياتي وكان أول ما تذكرته هو "بوفيم" وصحت –انه هو!
رحت أبحث عن منزل بوفيم،فقد غير منزله بل وغير الحي الذي كان يسكن فيه.بعد وقت طويل من البحث أهتديت إلى بيته،في البداية لم أدق أن هذا البيت المتواضع هو بيت بوفيم،قلت ربما يتعلق الأمر بتشابه في الأسماء،فنحن مجتمع يسمي كل منا على الآخر فتظل السماء هي هي للجميع.
قررت أن أدخل البيت وأسأل،كان أذان الظهر يملأ أذني،دقيت الباب فجاءني طفل،فتح الباب فسألته:هل هذا بيت بوفيم،فقال نعم.
خلت،وأنا أسأل أين هو،قال الولد:لقد ذهب إلى المسجد.
زاد شكي في أن بوفيم هذا ليس صاحبي وإنما اسم على اسم،لكنني قررت أن أنتظر حتى يعود.
وأنا داخل الغرفة انتظر،لمحت سيدة متحجبة مرت مسرعة،كدت أخرج لأنني أصبحت على يقين أن هذا ليس بيت صاحبي،لكن الإعياء من السير والبحث يعلني أفضل الانتظار.
مر نصف ساعة،سمعت الباب يفتح،استرقت النظر،رأيت وجها يتلألأ نورا،على جبينه أثر السجود،تتدلى منه لحية تشبه لحى عباد الله الصالحين،صرفت نظري قائلا في نفسي،هذا ليس صديقي،لكن شيئا ما جعلني أعيد النظر وأدققه،سبحان الله ما أشد شبهه ببوفيم.
تقدم الرجل وعندما وصل إلى باب الغرفة حيث أجلس نظر في وجهي وصاح لا إراديا،فلان،ثم تدارك قائلا:السلام عليكم ورحمة الله.
أحسست أن رغبة في احتضاني راودته،لكن شيئا ما جعله يكبت تلك الرغبة،كما أنني أنا أيضا لم أجرأ على عناقه لسبب لم أحدده.
حاولت أن أعود به إلى الوراء،لكنه كان يتهرب دائما،عرفت أنه أصيب بصحوة دينية وأنه أصبح حمامة مسجد وأنه فارق جميع أصدقائه.سألته عن سر رحيله عن الحي الذي كان يسكن فيه واختياره لهذا الحي التعس،فقال هذا هو الحي الوحيد الذي لم اعص الله فيه فهاجرت إليه بعد توبتي،وفقنا الله وإياك للتوبة.
حسدته على توبته وتمنيت لو حصل معي ما حل معه،لكني شعرت بعدم الاستعداد للتوبة في ذلك الوقت.
بعد جلسة كان طابعها الأساسي السكينة،حدثته عن سبب مجيئي إليه وأبدى استعداده لمساعدتي،قال لي:أعرف شخصا يمارس هذه الأعمال،سوف أتصل به الليلة وسنلتقي غدا هنا ونذهب إليه.
سمعنا أذان العصر فقال لي بوفيم إنه ذاهب إلى المسجد،وودعني على أن نلتقي في اليوم التالي...
بت تلك الليلة أفكر في موضوع بوفيم، والصحوة التي إصابته، أمن المعقول أن يعيش الإنسان حياته في المجون والعبث والمعاصي وفي آخرها أيامه يهديه الله.
تذكرت حديث سبق الكتاب، وتذكرت قصة ذلك الرجل الذي دخل الجنة ولم يسجد لله قط.
أحسست بالأمل يدخل إلى صدري المثقل بالماضي الذي عشته فربما يسبق علي الكتاب أنا أيضا ولو قبل موتي بقليل.
سألت الله حسن الخاتمة لي.
في الصباح استيقظت مبكرا أدركت صلاة الفجر في الوقت لأول مرة منذ ذلك اليوم الذي خرجت فيه من الحمام بعد أن حلقت لحيتي، وأنا أصلي أحسست أن الأمر ربما يكون بداية العودة إلى الطريق الصحيح.
انتهيت من الصلاة، وبدأت أقرأ بعض الأدعية التي أصبحت تتداخل في ذهني لأني لم اقرأها منذ عودتي من الريف.
في الساعة العاشرة كنت واقفا أمام باب بيت بوفيم الذي فتح لي الباب وبدل أن يدعوني للدخول قال لي:
- لنذهب فالرجل في انتظارنا. ... ونحن في الطريق إلى المكان كنت أفكر في المبلغ الذي سيطلبه مني "بوفيم" كعمولة له على هذا العمل، لاني اعرف فيه من الجشع ما يتطلب مني أخذ الإجراءات المناسبة قبل لقائه.
عندما وصلت المكان وجدت "بوفيم" في انتظاري أمام منزل ولكني لاحظت على وجهه صرامة وغضبا مكتوما لم اعهدهما فقلت ان ذلك يعود ربما إلى توتر نفسي ناتج عن انتظار العمولة أة أن زوجته تشاجرت معه ليلة أمس على كل حال ؟؟ أخذت تلك الحالة مأخذ الجد عندا اقتربت منه أشار علي بان أدخل في المنزل فهمت الاشارة ففترتي التي امضيت في العمل السيري جعلتني خبيرا في جل الاشارات والغمزات.. دخلت وتبعني "بزفيم" وادخلني في غرفة وجدت بداخلها شخصا كان ينتظرني ايضا.
تبادلنا التحية ثم جلسنا واخذ الشخص يسألني عن السفر وعن الخارج وانطابعاتي ثم قال:
- لندخل في المهم
- قلت: هذا هو الافضل
- فقال: لقد كلمني "بوفيم" عنك وعن صداقتك معه وأنا أيضا صديق له وبالتالي اصبحت صديقا لك انت ومد يده مصاحفا من جديد فصافحته وضغط كلانا على يد الاخر وكأنه يريد أن يطلعه على قوته الخافية.
خرجنا من بيت بوفيم ووقفت على الشارع بحثا عن تاكسي لأني لم اشتر بعد سيارة فأنا مازلت انتظر تصريف المال الذي معي، لكن بوفيم قال لي
- لسنا بحاجة لتاكسي فالمكان قريب
وانطلقنا حتى وصلنا إلى بيت فاخر، أشار علي بان أدخل في المنزل فهمت الإشارة، ففترتي التي أمضيت في العمل السري جعلتني خبيرا في الإشارات والغمزات.. دخلت وتبعني "بوفيم" الذي أمرني بالدخول في غرفة وجدت بداخلها شخصا يبدو أنه كان ينتظرني .
تبادلنا التحية ثم جلسنا واخذ الشخص يسألني عن السفر وعن الخارج وانطابعاتي ثم قال:
- لندخل في المهم
- قلت: هذا هو الأفضل
- فقال: لقد كلمني "بوفيم" عنك وعن صداقتك معه وأنا أيضا صديق له وبالتالي أصبحت صديقا لك أنت ومد يده مصافحا من جديد فصافحته وضغط كلانا على يد الآخر وكأنه يريد أن يطلعه على قوته الخفية.
... طلب مني الرجل عد النقود التي معي وبعد آن تأكد من المبلغ طلب مني أن ادخله في المحفظة وأسلمه له...
فعلت ما طلب وانتظرت أن يعطيني المقابل ولكنه اكتفى بأخذ المحفظة ووضعها جانبا وساد صمت ثقيل داخل الغرفة حتى كأنها فرغت من الهواء.
كان ينظر إلي وعندما أبادله يحول نظره في اتجاه آخر بدأت أمل الانتظار.... وبدأت الشكوك والوساوس تتسرب إلي وبدأت اطرح الاحتمالات وتذكرت التغير الذي لاحظت على بوفيم عندما التقيت به لأول مرة بعد عودتي من الخارج فقلت ربما يكون هذا كمين نصبه لي بوفيم ولكن حبل تفكيري قطعه صوت الرجل وهو يسألني: من أين جئت بهذه النقود؟
فاجأني هذا السؤال ولم استطع تصور جواب عليه، لاني لم أكن أتصور انه سيطرح علي في يوم من الأيام.
تجاهلت سؤال الرجل وقلت:
- لقد جئت هنا لتصريف بعض النقود لا لتحقيق ربح وإذا كان الأمر غير ذلك اعطني محفظتي ونقودي...
خرج بوفيم وتركنا لوحدنا تبادلنا النظرات عرفت أنه جمركي أردت أن اختبر استجابته.. غمزت له في عيني فرد علي بغمزة مثلها أو أحسن منها، عندها وجدت الشجاعة الكافية للكلام فقلت وأنا أضع يدي على كتفه:
- انفعني انفعك
فأجاب وهو يطبطب على كتفي
- انفعني أنفعك
وضرب كل منا كفه في كف الآخر وعرض علي أن يذهب بي إلى تاجر يعرفه سيتولى تصريف نصيبي من النقود وذهبنا إلى التاجر وفي لمح البصر قضى حاجتنا وذهب كل منا إلى جهته.
كان أول هدف عندي بعد خروجي من هذه الورطة ،أن أذهب إلى بوفيم للتشفي فيه وابرهن له مرة ثانية أنني لست على مستواه وان المثل التي يبدو أنه آمن بها متأخرا لم تعد صالحة لعالمنا اليوم، اتجهت إلى بيت بوفيم وحقيبتي تكاد تفلت من يدي لثقلها, وصلت باب المنزل لم يكن موصدا ودخلت، سألت عن بوفيم فقيل لي انه ذهب إلى المسجد للصلاة في الجماعة وجلست انتظر عودته. بوفيم في المسجد وبوفيم يسهر على مصالح الوطن ويدعي الوطنية، ماذا جرى للدنيا؟ أليس بوفيم هو الذي تولى تربيتي في يوم من الأيام لأسير في هذا الطريق الذي كنت أمقت أهله، كيف تبدل حاله بهذه السهولة؟
وفجأة سمعت صوت بوفيم وهو داخل يسبح فنهضت لملاقاته
عندما رآني ظهرت على وجهه علامات الدهشة جحظت عيناه دون أن ينطق بكلمة.
بادرته بسيل من الشتائم والوعيد ومن بين ما قلت له أنني تلميذه واني مازلت احفظ دروسه وبدل أن يرد علي خر على الأرض مغشيا عليه حاولت تلافيه وقع وصاحت زوجته
- يا رجال، يا رجال الغيث
ارتبكت في البداية لكني تأبطت حقيبتي وخرجت إلى الشارع ابحث عن سيارة أجرة انقله فيها إلى المستشفى.
كانت أول سيارة أجرة تصادفني من نوع رينو أربعة باليه لست ادري كيف تسير لكن الفاقة جعلتني أوقفها ولم أناقش الأجرة.
ذهبت بها على بيت بوفيم واستطعت بمساعدة زوجته أن أضعه داخلها وهو لا يزال فاقدا الوعي.
عندما حاول السائق الانطلاق توقف محرك السيارة فالتفت إلي وزوجة بوفيم قائلا:
-ادفعوني قليلا لأن "دماريير" السيارة متعطل.
نزلنا من السيارة تركنا بوفيم داخلها وبدأت أنا وزوجة بوفيم ندفع السيارة وكلما مر بجانبتا شخص نطلبه المساعدة فينضم إلينا وكلما ازداد عددنا ازدادت سرعة السيارة دون أن يشتغل محركها حتى صرنا على بعد مائتي متر من الستشفى، أطلقت السيارة سحابة من الدخان الأبيض حجبتها عنا وانطلقت مثل البرق حتى وصلت باب المستشفى حيث وقف السائق ينتظرنا.
عندما وصلنا حاولنا الدخول لكن الحارس منعنا وأثناء محاولة إقناعه مر طبيب فسأل عن الأمر فقلت إن لدينا مريض في خطر فاطل برأسه من شباك السيارة وقال
- لقد توفي المريض
... صاحت زوجة بوفيم صيحة جعلت المارة والمراجعين يتجمهرون حول السيارة وأصبح من الصعب علينا الخروج من ذلك الطوق البشري الذي أصبح يطوقنا.
حاولت تهدئة زوجة بوفيم وساعدني الجمهورمن الفضوليين في ذلك بتذكيرها بزوال الدنيا، كانوا كلهم يقولون شهدي لا تضيعين أجرك في المصاب بهذا النوح.
هدأت زوجة بوفيم شيئا ما وأصبحت تعاني في صمت والدمع ينهمر من على خدها، خرجنا من المستشفى وذهبنا إلى المقبرة لدفن بوفيم كان كل من يعلم بخبر وفاته من سكان حيه يلحق بنا حتى أصبح دفنه كالمناسبات الشعبية.
كان كل واحد يشهد له بالاستقامة وارتياد المسجد، وحسن الخلق، أنا وحدي من كان يعرف ماضيه بين الحاضرين لذلك لم استطع أن اشهد له، لأن العمل الذي جعل الآخرين يشهدون له قام به في غيابي.
انتهى الدفن والتفت إلى زوجة بوفيم، أحسست برغبة في الطبطبة على كتفها لكنها لم تكن محرمة لي رافقتها إلى منزلهم واخرجت رزما من النقود وسلمتها لها قائلا:
- لقد كان المرحوم مثل أخي ويعود له الفضل في ما أنا فيه الآن من يسر حال، ولذلك أرجو أن لا تترددين في الاتصال بي إذا كنت تحتاجين لشيء.
خرجت من بيت بوفيم وأنا متعب ومشوش الذهن أشياء كثيرة كانت تدور في مخيلتي محطات حياتي تمر أمامي كحلقات مسلسل مشوق تذكرت كيف كان المرحوم ذكاؤه دهاؤه طريقته في الحياة، خفة دمه وشطارته في التحايل لكسب المال.
قلت في نفسي من كان يستطيع أن يتصور أن بوفيم سوف تكون آخر محطات حياته في المسجد؟
.. وتساءلت ثانية هل يمكن أن تكون آخر محطات حياتي أنا ايضا في المسجد؟ من يدري؟
كنت بحاجة إلى مكان أرتاح فيه فقررت الذهاب إلى معلمتي في كوخها في حي الانتظار، عندما وصلت كوخها وجدتها تغسل مواعين المطبخ أمام الكوخ، فنفضت يدها من الغسيل واستوت واقفة وهي ترحب بي وتتقدم أمام لتسوية الفراش داخل الكوخ.
قلت لها: أنا بحاجة إلى كأس من الأتاي وفتحت المحفظة وأخرجت رزمة من النقود وسلمتها لها قائلا:
- خذي إذا كنت عرفت أن المبادئ وحدها لا تكفي.
أخذت النقود وهي تبتسم دون أن تنطق كلمة واحدة.
القيت بجسمي المثقل على الفراش الرث الذي فرش به الكوخ ونادت هي أحد جيرانها وسمعتها تكلفه بشراء كبش وجلست تعد الشاي وسرقني النعاس.
أيقظتني لأشرب كأسي الأول، تناولت الكأس وأنا مغمض العينين رشفت رشفة ثم أخرى انفتحت إحدى عيني فلم أر حقيبتي التي بها النقود انفتحت عيني الأخرى فلم أر شيئا حملقت بعيني في كل الاتجاهات فلم أر شيئا.
استويت جالسا ودرت ببصري داخل الكوخ فلم أر شيئا، قلت ربما وضعتها هي مكان آمن سألتها
- أين حقيبتي؟
قالت: أي حقيبة
قلت: الحقيبة التي جئت احمل
قالت: لم تأت بحقيبة
لم أتمالك نفسي أخذت اصرخ نقودي ،حقيبتي ،نقودي، حقيبتي ،حتى أنت صاحبة المبادئ تسرقين، ولم يقطع صراخي إلا صوت زوجتي وهي تحتضنني قائلة: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ماذا بك هل هو كابوس انهض لقد تأخرنا.
قالت: أنسيت أننا سنذهب اليوم إلى المدينة
فقلت: المدينة أبدا لن أكرر ما رأيت..
النهاية