د. محمد محمود أحمد محجوب
جمعتْني ظروفُ العملِ بشابٍّ مِنْ أصولٍ إفريقيةٍ يُدعى: (محمد ثلاثة)! نَعَمْ، اسمه: (محمد ثلاثة). لَفَتَ انتباهِي الاسمُ، فدفعَني الفضولُ إلى سؤالهِ عنْ سرِّ التسميةِ، فافْتَرَّتْ شفتاهُ عنْ ابتسامةٍ تُخْفِي وراءَها شيئًا منَ التبرُّمِ، ثمّ قالَ: "كثيرٌ غيرُكَ سألني هذا السؤالَ. أنَا أَنْتَمِي إلى مجتمعٍ مِنَ العاداتِ المتجذِّرةِ في بعضِ أُسَرِهِ: تسميةُ الابنِ الأولِ: (محمدْ1)، والثاني: (محمدْ2)، والثالث: (محمدْ3)، وهكذا"!
ذَكَّرَني هذا الموقفُ بالتزاحمِ الشديدِ عندنَا على ما نُسمّيهِ (الحَمُودِيَّة)، أي التسمية بـــ(محمد وأحمد ومحمود...). وهوَ تزاحمٌ تجاوزَ مفهومَ التسميةِ المعتادةِ إلى استثمارِ الاسمِ الشريفِ بوصفهِ وَسِيطًا دَلَالِيًّا "نَقِيًّا" يُتوصلُ بهِ إلى ما يُستهجنُ أو يستغربُ منَ الأوصافِ والنعوتِ المحليةِ، مثل: (أَحْمَدْ عُودَانْ)، و(أَحْمَدْ لِمْغَوْمَتْ)، و(أَحْمَدْ رَاجِلْ)،و(مُحَمَّدْ غَرْيَ) و(مُحَمَّدْ الْمُسَافِرْ)، و(مُحَمَّدْ نَكّْبُ).
***
يَتجلَّى البُعْدُ الإشكاليُّ للظاهرةِ في التدافعِ والتنافرِ بينَ مَبْدَإِ "التَّمْييزِ" الذي يقومُ عليهِ نظامُ تسميةِ الأعلامِ في الكونِ، ومَسْعَى "التَّرْكيزِ" الذي يَرُومُهُ سكَّانُ صحراءِ الملثّمينَ. فـــ"المبدأُ" يَقتضِي تَمايُزَ الأسماءِ طِبْقًا لتمايُزِ الْمُسَمَّيْنَ، و"المسْعَى" يَحُدُّ منَ التنوُّعِ، ويُهيِّئُ للتطابُقِ والتماهِي الاسمِيِّ.
طَوَّرَ الشناقطةُ استراتيجيةً اسميَّةً أَخْضَعُوا بموجبِها "المبدأ" لـــ"لمسعى"، وطَفِقُوا يَفْصِلُونَ بينَ بِنْيَةِ الاسمِ (محمد) ودلالتهِ، فَاكْتَفَوْا – مِنَ الدلالةِ – بالمعنَى النَّوَوِيِّ للاسمِ (=الحمد)، وَسَلَكُوا طرائقَ قِدَدًا في تشْكيلِ بِنْيَتِهِ اللفظيةِ.
وَيُمْكِنُنا أن نرصدَ مجموعةً منَ المعاييرِالتي افْتَنُّوا في توظيفِها منْ أجلِ صَوْغِ بِنْياتٍ اسميةٍ كثيرةٍ تَجِدُ مرجعيَّتها اللفظيةَ في الاسمين (محمد وأحمد)، مسْتعرضينَ منها أربعةً فقط؛ خشيةَ التطويلِ، ومؤكدين أنها متكاملةٌ ومتداخلةٌ:
1) معيارُ توظيفِ "الملامحِ الإعرابيةِ": ونَعني بهِ: تحريكَ الحرفِ الأخيرِ منَ الاسمِ حركةً تقتصرُ قيمتها على توسيعِ دائرةِ التسمية به، أيْ أنهُ يُصبحُ للاسمِ الأصليِّ الواحدِ صُوَرٌ اسميةٌ عِدَّةٌ، مثل: (محمدٍ، محمدًا، محمدُّ، ...)، و(أحمدُ، أحمدَ، أحمدُّ...). وهذَا المعيارُ لعلَّهُ أهمُّ المعاييرِ؛ إذْ تُوظِّفُهُ لهجتُنا (الحسّانية) غالبًا في التمييزِ بينَ الأعلامِ التي يَتَوَارَدُ الناسُ على التسميةِ بها، وذلكَ مثلُ: (زينبْ، وزينبُ)، و(مريمْ ومريمَ، ومريمُ). ويَظْهَرُ أَثَرُهُ أَكْثَرَ في الأعلامِ المؤنثةِ المختومةِ بالتاءِ مثل: (فاطمَ وفاطمةُّ)، و(عيشَّ وعيشةُّ).
والدليلُ على قوةِ هذَا المعيارِ أنّنا لا نُحَرِّكُ تاءَ التأنيثِ في الاسمِ المؤنثِ -سواءٌ أكانَ اسمًا أمْ صفةً- إلا في الأعلامِ المؤنثةِ؛ تمييزًا بينَها. أَلَمْ تَرَ أنّنا نقولُ: (دَرَّاعَ مَظْبُوطَ) و(مَلِحْفَ زَيْنَ) و(طَلْعَ مَوْزُونَ) دونَ تاءٍ محرّكةٍ. فالتاءُ في هذهِ الألفاظِ لا تكادُ تُنطقُ، وإن نُطقتْ لُمحتْ هاءً خفيفةً ساكنةً فقط.
2) معيارُ التركيبِ بأضرُبِهِ المحتلفةِ، ولا سيَّما: الإسناديّ والوصفيّ واالإضافيّ، مثل: (محمد محمود)، و(محمد الزين)، و(احمدْنَاْهْ)، و(احْمِدتُّ)، و(مُحَمْدِي)...
3) معيارُ إضافةِ السوابقِ واللواحقِ إلى الاسمِ الكريمِ، كَيَاءِ النداءِ في: (يا محمدْ) والهمزةِ في: (امْحَمَّدْ) والياء والتاء في (أحمديْتْ)...
4) معيارُ تعديلُ بِنْيَةِ الاسمِ الصرفيةِمطلقا، مثل: (مُحَمَّادُ، احمُدَّ، حَمَّدَّ) ...
***
ولعلَّ منَ المشروعِ -بعدَ تشخيصِ الظاهرةِ- أنْ نَتساءلَ عنْ أسبابها، وانعكساتها السلبيةِ والإيجابيةِ على الصعُدِ المختلفةِ؟
قدْ لا يجانفُكَ الصوابُ إنْ زعَمتَ أنَّ منَ الأسبابِ الرئيسةِ للظاهرةِ:
*السببَ الدينيَّ: متمثِّلًا في التَّيَمُّنِ باسم الحبيبِ المصطفَي، عليهِ الصلاةُ والسلامُ.فَكثيٌر منَ الآباءِ لا يريدونَ أنْ يُحرمَ أبناؤُهُم من حليةِ (الْحَمُودِيَّةِ) مُعزِّزين موقفَهُم بأنَّ هذا الدَّأْبَ كانَ منهجَ السلَفِ الصالحِ.
*السببَ السياسيَّ: ويرتبطُ بمفهومِ "السَّيْبَةِ"، وغيابِ السلطةِ المركزيةِ التي تنظِّمُ، وتراقبُ أنشطةَ المجتمعِ، وتُعطِي النموذجَ والمثالَ، في مرافق الحياة العامة كلها.
*السببَ الاجتماعيَّ: وهو وثيقُ الصلةِ بالذي قبْلَهُ. ولبُّه: أنَّ القومَ الذينَ همْ مَصْدَرُ الظاهرة ذَوُو سلوكٍ بدويٍّ مَرَدَ على التحرُّرِ من القوالبِ والأطُرِ والقيودِ المكانيةِ واللفظيةِ.
***
وتَبْدُو المآخذُ على الظاهرةِ أكثرَ منَ المكاسبِ:
**فعلى المستوى الديني: وُظِّفَ في نَسْجِ خيوطِ (الْحَمُودِيَّةِ) حديثٌ لا يرقَى إلى درجةِ الضعفِ! بَلْهَ الحُسْن أوِ الصّحةِ. وهوَ حديثٌ: "خيرُ الأسماءِ ما عُبِّدَ وحُمِّدَ". فقدِ اتفقَ المحدِّثونَ علَى أنَّهُ "لا أصلَ لهُ".
**وعلى الصعيدِ الاجتماعيِّ: أوجدَتِ الظاهرةُ ضرْبًا منَ التطابقِ في الأسماءِ تقلصتْ بسببِه وظيفةُ اسمِ العَلَمِ بين سكان الصحراءِ، وخاصة أولئك الذين يتقاسمون مجالا جغرافيًّا واحدًا، كما حَدَثَ، بموجبِهِ، تشويشٌ على الحالةِ المدنيةِ نتيجةً لطولِ الأسماءِ المركبةِ وتشابهِها.
**وعلى المستوى اللسانيِّ (اللغوي):انْجَرَّتْ عنِ الظاهرةِ ولادةُ صيغٍ واستعمالاتٍ ما لها من نظيرٍ في الْمُنْجَزِ اللغويِّ المتراكمِ، عبرَ التاريخِ. ومنَ الصورِ الصارخةِ لذلكَ إلزامُ اسمٍ معرب ِمتمكنٍ أمكنَ (محمد) "حركةً" واحدةً وصلًا ووقفًا.
***
وفي مقابلِ قائمةِ المآخذِ تلكَ لا يَعْدِمُ المرءُ بعضَ الأوجهِ الإيجابيةِ للظاهرةِ التي قد يكونُ منْ أبرزها: قدرةُ أبناءِ البلادِ السائبةِ على تطويعِ اللغةِ للتعبيرِ عنْ أغراضِهمْ مِنْ جهةٍ، وقدرةُ اللغةِ على التكيُّفِ والتأقلُمِ معَ جميعِ الظروفِ والبيئاتِ -بِمَا في ذلكَ بيئةُ "السَيْبَة"- منْ جهةٍ أخرى.