الكبر / إبراهيم الأندلسي

ثلاثاء, 12/25/2018 - 22:58

 

 سبينوزا باروخ :
هو فيلسوف هولندي من أهم  فلاسفة القرن 17، ولد في 24 نوفمبر 1632 في أمستردام، وتوفي في 21 فبراير 1677 في لاهاي.. 

من أقواله :
" لا أحد يؤثر فيه المدح كالمتكبرين، الذين يرغبون في أن يكونوا الأوائل، ولكنهم ليسوا كذلك "

الكِبر ُ مصطلح واسع و قديم يختلط فيه الحانب العِرقي بالجانب الديني و الجانب السياسي و كذلك الاقتصادي، و قد يشمل الأوصاف الخَلقية و القدرات العلمية و كل أنواع التميُّز الممكنة و المُتخيَّلة.
و الأسئلة الجهوهرية التي تُطرح حوله تتركز على جانبه النفسي، أو الحالة المَرَضيَّة ، لأنها تُشَكِّل العامِلَ الأبرز، و هذه الحالة المَرَضيَّةُ لها أسبابُها التي يقول بعضُ الدارسين إنها تتكوَّنُ في اللاوعيِ و أن من أسبابها التعرض السابق للظلم و الاضطهاد سواء كان ذلك حدث للشخص نفسه أو لعائلته، أو لمجتمعه و حتى لطبقته أو لثقافته، و قد يكون بسبب المهنة أو سلسلة هزائم سابقة، و كذلك الهجوم الثقافي المتمثِّل في الاستهداف المستمر بالأقلام أو المسرح...
و هذا الأمر  يخلُقُ كبتًا داخليا يحاول الخروج حين تُتاحُ له الفرصة ، و كأنه في دائرة انتقام قصيرة المدة أو طويلتها حسب نوع المُسبِّبِ لها.

فما هو الكِبْرُ؟
و ما هي أعراضه و أشكاله؟
و كيف يتِمُّ اكتشافه ؟
و ما هو العلاج الحقيقي؟

يمكن تقريب مفهوم الكِبْر إلى الأذهان بصفته و شكله، فهو نوع من الاعتزاز  الذاتي الذي يجعل صاحبه يعتدُّ بتفوقٍ حقيقي أو تخيُّلِيٍّ له على الآخر و يعتمِد على ذلك في أسلوب المعاملة و المشاركة و التَّقارب،و يمنعه الكِبر المقصود من استخدام جانبه الإنساني في التعاطي مع الأمور العامة و الخاصة ، و لو أدّى ذلك إلى خسارته المادية و المعنوية و السياسية .. و صاحبه المقصود قد يكون فردا  و هي الحالة الكثيرة في الواقع، و قد يكون عائلة  أو مجتمعا و حتى دولة و قد يشمل الثقافة بشكلها العام، و نفس الحال يُمكن تطبيقه على المُتكبَّرِ عليه، فقد يكون فردا أو جماعة...
أركان مقولة الفيلسوف الهولندي اسبينوزا باروخ  هي الكِبْر و المدح و التأثير و التفوق، و يمكن ردُّها إلى ركنين كبيرين هما:
الكِبْرُ و المَدحُ؛ لأن الآخرين يشكلان انعكاسا لهما ، و هما سببان مباشران للعلاقة بين الركنين الأساسيين.

المَدحُ هو ذِكر محاسن الفرد أو الجماعة أو الشعب و الدولة ، بغضِّ النظر عن صدق تلك المحامد و ملاءمتها للواقع المُشاهَد، و هذه المحامد تختلف باختلاف منظومة القيَّم التي يقنِّنها الدين و العُرف و العادات و المَظْهَر الاجتماعي بتقلباته الكثيرة و الغريبة.
و المَدحُ من الأمور المُحبَّبةِ التي جُبِلت القلوب البشرية على حبِّها، و استقبالها بابتسام خارجي و انشراحٍ داخليٍّ مُنقطِع النظير، و استمر ذلك عبر عصور البشرية المتعاقبة، رغم اختلاف الثقافات و المجتمعات و المناطق، و لم تسلم الخرافات و الأساطير المحفوظة من تأثير المدح و تخليد صوره و أنواعه ؛ في الأدب و المسرح و الملاحم الكُبرى...

و بالعودة إلى مقولة الفيلسوف الهولندي الكبير اسبينوزا  باروخ فهو يجزم أن تأثير المدح في المُتكبِّرين أعظمُ و أكبرُ من تأثيره في غيرهم، مما يُحيل إلى فهم جانب من ذلك التأثير و هو أنهم يحتاجونه ليُثبتوا لأنفسهم، لداخلهم المُطِّلِع على الحقائقِ، لضميرهم الشَّاك أنهم يستحقون المدح بسبب التفوق الذاتي، كصاحب المصيبة الكبرى حين يتشبثُّ بالحُلم و يهرب من الحقيقة، و كلما تأكد من الحقيقة يَفزع إلى الحُلم مرةً أخرى خوفا من الصدمة مع يقينه أن الصدمة واقعة لا محالة، و لكنه تسوِيفُ الادراك ، و تأجيل استيعاب المَشهَد، و حقيقته تضييع وقت ردة الفعل ، و إمكانية تدارك ما يُمكن تدارُكه.

فهل هناك حاجة ماسة إلى المَدح في مرحلَةٍ  فارقة من مراحِل  حياتنا كبَشَرٍ فوق سطح هذا الكوكب؟
و هل للمدح جانب إيجابي يُساعد على تجاوز العقبات الصعبة، في مراحل التربية و حتى مراحل التطوُّر الكبيرة في حياة العباقرة؟
و هل يفعل المدح المَكذوبُ فعل المدح الحقيقي في كوامن النّفوس؟

يرى علماء التربية أن مدح الطفل يدخل في تشجيعه و ترسيخ ثقته الذاتية مما يزيد حريته في اختيار الطُّرق و الوسائل و تشكيل الأساليب و التّصورات ذات البصمة الشخصية، و لكنهم يرون أن ذلك يجب أن يَعتمد على إرادة حقيقية من الطِّفل و عمل ميداني واضح، لا أن يُبنَى على فراغ و أحلام و أوهام، لأنها  تجعل الطفل يظن أن ما قام به يكفي و أنه متميِّز دون حاجة إلى جهد كبير.

حِرْصُ المُتكبرين على المدح ينبُعُ من حرصهم على التفوق و احتلال المركز الأول، و صعود درج الريادة، و لكنهم و هو يصعدون الدرج الخشبي أو الرخامي إلى مِنصة التكريم ، في ذلك الوقت يُراجعون أنفسهم فهم غير مُقتنعين بتفوِّقهم لأنهم يعلمون حقيقة ما حدث، و يُدركون كلَّ صوَّرِ هذا المَشهدِ العَبثيِّ ، تلك الصور التي تُشبه تلميع الحذاء القديم المتمزِّق، أو طلاء الحائط المُتهالك، فقد لا يستمر كما يُريدون حتى نهاية إخراج المسرحية و إسدال السِّتارِ.

و في الختام فإن المَدح كان دائما في جانب القوة، القوة السياسية و الاجتماعية و الثقافية...و كان دعامة من الدعامات التي حَملت على عاتقها عروشَ الظُّلم و الفساد، و قد يُعدُّ شقيق الكذب أو توأمه الحقيقي،فكم رمَّم صورةً رائجة لأعظم إمبراطوريات التاريخ، و كم لطَّخ فمهُ بأطعمة و موائد المُستبدين و أصحاب الفظائع و الفضائح المُزلزلة، و كم أخَذ نصيبه الصغير المشؤوم  من أموال النهب و الغصب و الضراب و الإتاوات الجائرة.

فمتى يُقدَّم المَدحُ إلى محكمةٍ تاريخيةٍ لتجريمه، و ضمِّه إلى رفقاءِ دربه الدائمين - الذين طالَهُم التّجريم في البلدان المُتقدِّمة - كالكذب و الظلم و الاضطهاد و التَّشويه  و الترويع و التَّزوير ...؟