يكاردو اليسير نيفتالي
بابلو نيرود المعروف ب بابلو نيرودا شاعر تشيلي الجنسية ويعتبر من أشهر الشعراء وأكثرهم تأثيراً في عصره، ولد في تشيلي، بقرية بارال بوسط تشيلي في 12 يوليو عام 1904
حاز على جائزة نوبل للآداب
سنة 1971
الوفاة: 23 سبتمبر 1973
من أقواله المشهورة:
" لماذا ذهبت أفضل الأنهار إلى فرنسا كي تجري ؟ "
ألفاظ التفضيل المطلَق كثيرة الانتشار و الاستعمال في لغات العالم القديم و الحديث، و لم يتطرق الباحثون حتى الآن إلى تاريخها، و لا إلى المصدر الذي أطلقها أول مرة، و لا إلى ماهية صدقها و دقة تعبيرها عن الواقع الحقيقي الذي تُطلق عليه.
كلمات من أمثال أكبر و أعظم و أجمل و أروع... عبارات تحمل معاني التفوق ، و تتضمن مسحا للخرائط الجغرافية و البشرية و الحسية و النفسية...و تأتي دائما كنتاج تحقيق شامل و دقيق باعتبارها المحصلة الصادقة، التي لا تتقبل التشكيك، و هذا مخالف لحقيقتها فهي مجهولة المصدر، و مُرتبِكة التقديم و الإطلاق.
يقول الكاتب ابابلو نيرودا:
لماذا ذهبت أجمل الأنهار؟
التعبير الأدبي المجازي واضح، فالأنهار تجري لكن حسب مجراها السابق و الأول الدائم، لكن ذهبت هنا بمعنى اختارت ، أو صارت من نصيب فرنسا، لماذا صارت الأنهار الجميلة من نصيب فرنسا؟
بمعرفة أن الكاتب من أمريكا الجنوبية أرض الخضرة و الأنهار الجميلة، يمكننا فهم أسباب المقولة التي ربما لا تكمن في جمال النهر نفسه، بقدر ما تكمُن في جمال محيطه و حاضنته، التي تملك الرقيَّ و الازدهار مما يُصبغ على النهر لمسة التشذيب و التهذيب و الرعاية، تماما كما يحدث للحدائق الجميلة، حيث لا تكفي الخضرة و لا الزهور وحدهما، بل يحتاجان المعرفة و الرؤية الجَمالية و العمل الدائم.
يتبادر إلى الأذهان أول مرة أن الجمال يجذِبُ الجمالَ و يستحِقُّه، و بذلك تستحق فرنسا الأنهار الجميلة، لكن هذا المعنى يرفضه التاريخ الزمني الطويل فلم تكن فرنسا جميلة دائما، و لا لوحة غناء رائعة، فقد مرت بها الظروف العالمية ؛ كالحروب و التدمير و الكوارث، هذه فرنسا كتاريخ طويل، و ليست فرنسا التي عايشها الكاتب ابابلو نيكودا ، مما يُفسر كلامه تفسيرا زمنيا ضيقا.
لماذا ذهبت أجمل الأنهار إلى فرنسا
في وقتنا هذا؟
و هذا السؤال يُمكن تحويره بشكل آخر حتى يُصبح:
لماذا جعلت فرنسا الجميلة، أنهارها أجمل الأنهار؟
و هذا هدف واضح من أهداف المقولة السؤال، فهل الجَمال يُعدي المحيط به؟
أم أن النظرة الجميلة هي التي تصنع الجمال و الألق؟
أم أن المتفوق يجعلنا نتخيل دائما أن كلما يُحيط به جميلا؟
أم أن الجمال في جوهره الحقيقي صناعة و رعاية و تهذيب؟
أم هو عَرض و ترويج و إعلام؟
جانب آخر من المقولة السؤال يجب الاهتمام به و هو الفعل المضارع المستقبلي الذي ختم به الكاتب ابابلو نيكودا سؤاله، إنه الفعل (تجرِي)
لماذا ذهبت أجمل الأنهار إلى فرنسا كي تجري؟ هل ترفض الأنهار الجميلة الجريان في مناطق غير جميلة؟
و هل الأنهار هنا أنهار فقط؟
أم أنها تحمل كل شيء يريد الزينة و النهوض و التفوق؟
و من هذا المفهوم تُطرح كل الأسئلة الأخرى ، الاقتصاد و الموضة و السينما و المسرح و الكتاب و المفكرون ...
لماذا يحب كل ذلك أن يجري حيث تتركز الأضواء، و حيث يحدث التسابق و العَرض، و حيث تتركز الثروة في البلدان المتقدمة، و بذلك تصبح فرنسا اسما للعالَم الأول، و ليست دولة معينة معروفة.
فهل هذا النوع من المقولات هو شهادة صادقة بجَمال منطقة معينة؟
أم أنه جزءٌ من استلاب الشعوب المتأخرة عن الركب، حتى في أبعاد نفسية لا يُحسون بها و لا يعرفونها؟
أتذكر كلمات مهندس معماري إسباني قال لي يوما: حين أرسم مخططا أنطلق من نفسي و هدفي الاقتصادي، و محدِّدات الطلب، و لكنه حين يكتمِلُ أجِدُ فيه الحضارة العربية ماثلة للعَيان، إنها بداخلي تعيش دون أن أُدركَ ذلك،
فهل زرع التفوق فينا -كشعوب متخلفة- بذوره و قوته و جَماله الأبدي الخالد؟
لا يُنكرُ عاقلٌ جمال الأنهار الفرنسية، لكن أي نوع من الجمال نقصد ؟
فالماء نفس الماء في أنهار إفريقيا و آسيا و أمريكا الجنوبية، و التُّربة قد تتشابه حد التطابق، و جريان الماء يوجد شبيهه و المتفوق عليه و المتأخِّر عنه،
فأين يوجد الفرق إذا؟
لعل الفرق في المُناخ، أم لعله في الشواطئ و المطاعم و المقاهي، و الفنادق، و الممرات المُمرَّدة...
و هنا نصل الجَمال المجلوب بتطرية ، كما يقول سيد الأدباء و الشعراء العرب المتنبي:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
و في البداوة حسنٌ غيرُ مجلوبِ
و الخلاصة التي يمكننا الخروج بها من مقولة الكاتب ابابلو نيكودا، هي أن الشعوب المتأخِّرة عن الركب الحضاري ، ركب التقدُّم و الرقيِّ يجِب أن تُؤمن بإمكانياتِها و قدراتها الذاتية، و تُؤمن بعدالة الجغرافيا، و أن حجزَ مكان في المقدمة مُرتبِطٌ بأفعالها هي، و ليس بالآخر المُختلف ، و لذلك نطرح سؤالا حقيقيا و هو:
لماذا استطاعة فرنسا -كرمز للتقدم الجَمالي - أن تجعل محيطها جميلا و أن تجلب إليها كل جميل حتى اقتنصت قلوب كتاب لا يملكون شيئا جميلا غير حروفهم الذاهبة إلى فرنسا
هي الأخرى في تَسابُقٍ غريب؟