إعلان

صو آداما.. منعطفات الطريق بين آفطوط ومخيمات الفدائيين الفلسطينيين

جمعة, 03/14/2025 - 16:33

 

المصدر- صحراء ميديا:

 

 

أخذ الطفل المنعطف دون أن يعلم. كانت تلك سنوات الخيارات الضيقة في بلاده، وأعوام المنعطفات الحاسمة في حياته. وبين طرْق الأبواب للسؤال (آلموده) أو الالتحاق بمدارس الاستعمار (المحرمة.) كانت خيارات أطفال الفلاّن في آفطوط الشرقي ضيقة وحرجة، والآن على صو آداما صمبا أن يختار.

سنوات قبل ذلك عاد الوالد من الحج، وبعد ممانعة قصيرة أَمَّ المصلّين في المسجد، كان يرى أن حجّه دون استزادة في العلم لا يخوّله الإمامة. وحين وهب الوالد ولده لمعلم القرآن في غمرة النشوة بعد الصلاة، لم يكن دافعه نشوة العودة والاستقبال. كانت ثروة الوالد ألف رأس من البقر، وأربع أبناء من الذكور، وكان لا بد من قربان.

سنوات آفطوط

انتمتْ أسرة صو لعرقيّة الفلاّن، “وهؤلاء،” على قول ولد ابريد الليل، “تشبه معرفتهم بالإسلام معرفة أولئك الذين انفجر بين خيامهم فجأة كالرعد في سماء صافية عام 610م.” ومهما شق القرار على الطفل أو على أمه، فقد وهبه الوالد تقربا إلى الله. وفي البداية أيقن آداما أن الأم لن تقبل، ما دام أصغر الأبناء. لكن حين وقف الثور في الصباح على مشارف قرية دغفگ، كان قد حمل معه الطفل والخبر اليقين.

“تلك هي أشق رحلة عليّ في حياتي، ما زلت حتى اليوم أحكيها لأحفادي.” حمل صو آداما صمبا الحكاية وتحوّلاتها لبودكاست مبتدأ في ستوديوهات صحراء 24، كانت بسيطة لا تخلو من منعطفات سلسة حيناً حادة حيناً آخر. وسؤال الخيارات الضيقة الأولى لم يكن إلا البداية، وجد لإجابته متسعاً لدى الحاج محمود با في “مدارس الفلاح.”

مثل آداما كان الحاج محمود با فلانياً. من “جَوَلْ” حمل إحساساً ثقيلاً بإرث وتاريخ شعبه. قلّب وجهه في السماء وتولّى وجهة يرضاها بعيداً في المشرق، وأربكت عودته سنوات بعد ذلك شعبه والمستعمر الفرنسي على حد سواء. كانت “مدارس الفلاح” تجربة سعودية حملها الحاج معه إلى أعماق الغرب الأفريقي، وزاحم بها نفوذ الإدارة الفرنسية، وحمل معها نفَساً إصلاحيا وهّابيا، عكّر به صفو مشائخ التصوف من أبناء شعبه.

في كل غرب أفريقيا وجدت “الفلاح” لنفسها موضعاً، ولم تكن الأماكن رحبة في كل مرة. ومنتصفَ الستينات حين نزل صو آداما ضيفاً على أقارب له في نواكشوط، كان “ممنوعاً على الكلاب وتلاميذ الحاج با المبيت” هناك. لكن ذلك لم يستمر طويلا، سنوات قليلة بعد ذلك وتكون أسرة الحاج با نفسها محلّ ترحيب وضيافة لدى نفس الأقارب. الآن ضرب الشيخ بجذوره عميقا.

سنوات المشرق

سنوات السؤال في سهول آفطوط، عن العلم والصدقة آتت أُكلها في نواكشوط، حين استدعاه الحاج عام 1964. هناك كان متفوقاً عن مستوى مدارس الفلاح الابتدائية، والدروس الخصوصية لم تضف إلا القليل، فكانَ لا بد من استدعاء آخر. جاء النداء من مصر، مرة أخرى من الحاج، هذه المرة من القاهرة بعد سبع سنين.

لكن الوجهة لم تكن مصر في الحقيقة. منعطفات آداما ستأخذه منها إلى لبنان في سنوات غليانه، وسؤاله سيحمله هذه المرة إلى الحدود مع إسرائيل، والأشهر الثمانية التي قضاها هناك في “صور،” يدرس اللغة والمنطق والبيان والبلاغة، كانت بين مخيمات الفدائيين الفلسطينيين، وبين معهد شيعي يديره موسى الصدر سنوات قبل اختفائه. وكلَّ حين كانت آلة القتل الإسرائيلية تنال نصيبها من دم ولحم أبناء المدينة والمخيمات، كان كل ذلك غريباً وبعيداً على سهول آفطوط.

لحظات صعبة عاشها آداما هناك، وحين اعتُقل في طرابلس لخرق حظر التجوال، جاء التدخل من الرئيس اللبناني للإفراج عنه من سراديب المعتقل. هناك وقف على وحشية الجيش اللبناني تجاه الفدائيين الفلسطينيين. كانت تلك إرهاصات لحظات أصعب قادمة على لبنان سنتين بعد ذلك 1975. كانت كرة الثلج تتدحرج نحو لبنان، تحمل الموت والحرب والدمار، وتتغذى على لحظات صغيرة صعبة كلحظة آداما. أصدقاء كثر سيصله موتهم عاما بعد رحيله للكويت.

من الكويت، بعد لبنان، سيحمل آداما إلى موريتانيا عام 1979 أول شهادة في العلوم السياسية باللغة العربية، وبعد تلكّؤٍ قصير سيُوظَّف في وازرة الخارجية، وطوال الخمس سنوات هناك ستظل “ظروف الطالب في الكويت أفضل من ظروف الموظف في الخارجية.” مجيدةً كانت سنوات الكويت ورغيدة، شيء واحد نغّصها هناك؛ البلاغات الشعبية في الإذاعة الموريتانية بعد منتصف الليل، حملت الأخبار والدموع إلى عينيْ آداما.

سنوات الإدارة

من الخارجية إلى وزارة العدل سيحمل أوراقه وملفاته، ليختبر من مكتبه في الأمانة العامة للوزارة لهيب الثمانينات الموريتانية. كانت سنوات عاصفةً لعبت بالأوراق والمصائر، وكرّست موضة الانقلابات؛ الناجحة منها والفاشلة أيضا. أعادت للواجهة أسئلة هوية ملغومة، أشهرت مخالبها وسيلة للوصول إلى غايات وأجوبة نهائية. تدحرجت الوحدة الوطنية في البلاد طويلا، وعند حافة الثمانينات كانت قد وصلت للهاوية.

من موقعه في الوزارة كانت ورقة الوحدة الوطنية الأخيرة في يده. حين اختلطت الأوراق والدماء في الأيدي، حملها إلى الضفة في خضمّ أحداث 89 لطمأنة السكان. “حينها حمل مواطنون موريتانيون أرواحهم في أكفّهم وساروا خلف أبقارهم وراء الحدود. كانت الأزمة مع السنغال قد بلغت ذروتها، ولم يرد هؤلاء ترك الفرصة لاختبار موريتانيّتهم مع انعدام الوثائق؛ السمة الغالبة على أكثر الموريتانيين آنذاك.” القول في كل ذلك لآداما.

إلى اليوم يؤكد آداما أن ما جرى لم يكن استهدافاً؛ “ربما وقعت أخطاء وهفوات وتجاوزات، لكن الاستهداف ليس وصفاً دقيقاً.” وظلّ همّ المبعدين همّه في كل حين. عرض وساطات وتوصيات وحلولا، في بعضها وافق الرئيس معاوية، لكنه عاد ورفض. “سياسيون هنا وهناك كان لهم رأي آخر.”

وفي أوج الاحتفال بموريتانيا في عرسها الديمقراطيّ 1991، كانت رسالة مجموعة من حكماء البلد للرئيس تشير ببداهة؛ “قبل أي حديث عن ديمقراطية أو تعددية في البلد، لا بد من حل المسألة.” كان اسم آداما حاضراً بين الموقعين على الرسالة.

إلى اليوم لا يعلم وزير العدل الأسبق صو آداما صمبا سبب توزيره 1991. سمع كثيراً عن وساطة من زملاء وأصدقاء له، وسمع أكثر أن توسطه في عاصفة أحداث الثمانينات والتسعينات ورأبه الصدع بين الضفة ونواكشوط كان السبب. وإلى اليوم بدا جازما من أمر واحد، في حديثه لـ”مبتدأ” من ستوديوهات صحراء 24، “أن لا عاصم ولا منجيَ لموريتانيا، أمس واليوم وغدا، إلا وحدة أبنائها ووطنيّتهم.”