فيصل خرتش
كلُّ من يتناول فرضية تبدل الأزمان وخلود المبدعين، وتقنيات ما أبدعوه، لا يمكنه أن ينسى الشاعر اليمني والناقد والمؤرخ: عبد الله البَردُّوني.
وُلد عبد الله بن صالح في قرية «البَردُّون» عام 1929، من أعمال زراعة «الحدا» محافظة «ذمار» في قلب اليمن، وهي قرية شاعرية الهواء، ذهبية الأصائل والأسحار، يطلّ عليها جبلان شاهقان مكللان بالعشب، مؤزّران بالنبت العميم. وهو من أسرة فلاحية بسيطة من قبيلة «بني حسن» لم تعرف قلماً أو كتاباً أو ورقاً، وقد أعطته القرية اسمها فلقب بالبردُّوني، «وفي أحضان هذه القرية الخالدة، وتحت ظلال والده الفلاح ووالدته، مرحت طفولته، وتحسست نظراته كؤوس هذا الجمال الفاتن». حتى أغمض عينيه العمى، وذلك بين الرابعة والسادسة من عمره، بعد أن كابد من مرض الجدري سنتين، وهو من المواسم الدائمة فيها وكثير من الأطفال أودى بهم إلى المقبرة.
وفي نهاية السابعة استهل الشاعر المنتظر التعليم في الكتاب، فتعلّم فيه ولكن هذا التعليم لم يتجاوز قراءة الأحرف، ومعرفة حركاتها من ضمة وفتحة وكسرة وسكون، انتقل بعدها إلى قرية «المحلة» من أعمال «ذمار»، حيث كانت له أخت متزوجة فيها فتابع دراسته فيها، ودرس فيها حتى ثلث القرآن الكريم بادئاً بالسور القصيرة، انتقل بعدها إلى مدينة «ذمار» عام 1937، وفي المدرسة الشمسية (نسبة إلى شمس الدين بن شرف الدين)، أكمل علمه فتعلّم حتى سورة الأنعام، وكانت مدّة إقامته في «ذمار» عشر سنوات، كابد فيها مكاره العيش ومتاعب الدرس، والحنين إلى القرية وملاعبها، كما يقول هو، وفي هذا العهد من تاريخه مال إلى الأدب فقرأ كلّ كتاب يصادفه، وبدأ يقرض الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وأكثر هذا الشعر شكوى من الزمن، وتأوّه من ضيق الحال، وفيه نزعات هجائية، تكوّنت من قراءة الهجائين، ومن سخطه على المترفين، فقد كان يتعزّى بقراءة الهجو ونظمه، وقد يكون هذا بدافع الحرمان الذي رافقه شوطاً طويلاً، فبكى منه واستبكى، وكان يظهر في هذا الإنتاج طابع التشاؤم والمرارة، ولكنه كان ينبئ عن شاعرية ستورق وتزهر، فقد تنبأ له آنذاك كثيرون من أرباب الذوق بالنبوغ والصيت الذي يملأ اليمن.
بعد عشر سنوات في « ذمار « شق طريقه إلى «صنعاء» عام 1949، وفيها عانى ما عانى من مكابدة العيش ومصارعة الأهوال، كما يقول: ثم تبنته مدرسة «دار العلوم»، وفيها قرأ المنهج المرسوم للمدرسة، حتى أنهاه، وعيّن أستاذاً للآداب العربية في المدرسة ذاتها، في الأعوام (1953- 1962). وقد لقي عناية من علماء «الجامع الكبير» فيها فتلقن على أيديهم بعض العلوم الشرعية وفقه اللّغة، وقد رفض أن يكون مقرئاً، لقد خلق للشعر المتوحش والجميل، وسيطر عليه هذا الشعر، فاختار دواوين القدماء يحفظها غيباً، فلان له الشعر وأعطاه بواكير فاكهته، ونظراً لتفوقه اللغوي فقد عيّن في الإذاعة مشرفاً على البرامج الثقافية، ثم رئيس لجنة النصوص، ومديراً للبرامج، وذلك حتى عام 1980، إلى جانب برنامجه الإذاعي الأسبوعي «مجلة الفكر والأدب»، كما عمل مشرفاً ثقافياً في مجلة الجيش من عام 1969 حتى عام 1975. وله العديد من المقالات. وهو واحد ممن أسسوا اتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين، وانتخب رئيساً له في مؤتمره الأوّل.
لقد دخل البّردُّوني إلى صنعاء فاتحاً يحمل على كتفه الغربة والجوع والوحشة، وفقدان البصر، دخلها ماشياً متعثر الخطى مرتطماً بالمارّة حيناً وبالجدران حيناً آخر، يتعرض للإهانات من الأولاد الصغار، وقد رأوا أعمى في السوق يرفعون عقيرتهم بالسخرية والشتائم إليه، وهناك واحد آخر من أعيان البلد يلطمه، فلا يعرف من أين تأتيه اللطمة، لأنه قال فيه شعراً، يهجوه فيه، ولكنه رغم معاناته، وعذاباته لم يفقد البَردُّوني وفاءه وحبّه لأبناء اليمن، وتحسسه لأحواله وإحساسه بأتراحهم طول حياته. هذا ما تقوله قصائده، بل دواوينه كلّها، لقد كان كلّ الناس وطنه، وكانت أحلامه قضيته، كان خلاصة بلد وآهة الزمن الذي مضى، والزمن الذي سوف يأتي، كان عبقري اليمن، في زمن ضاع فيه الإبداع، إنه شاعر لا يعرف سوى التمرّد، إنّه يعيش غربة قاتلة في واقع لا يعطيه إلا الألم والخيبة، أيامه مليئة بالسواد المادي والروحي والنفسي.
إننا أمام شاعر مجدّد حطم العلاقات اللغوية التقليدية، وابتكر جملا وصيغ شعرية جديدة، وقد تحرّر في استخدام المفردات والصور والتراكيب، ليعطينا شكلاً جديداً لها، إنه يحيل الشكل التقليدي إلى شكل فني حداثي يخترق المألوف ويتجاوزه بإيقاعاته وصوره ولغته، ويتكئ على الحواس فيجعلها وسيلة للصورة الشعرية، يركز فيها على حاسة اللمس فيكثف من خلالها موهبته الخلاقة ليعبر عن مخزونه العاطفي، ويعلن قدرته على مجاراة المبصرين، ويوفق بين المخيلة والرؤية ليقدّم لنا صوره البصرية والحسيّة بقدرة تخيلية بديعة.
إنّه بحاجة إلى إنسانية جديدة تنبع من التجربة الحياتية، وليست متجمدة في نصوص متحجرة، إنّ الشعر هو سلاح الفقراء في ليل الجهل والتخلف، وكان يكره أدعياء الشعر ويعتبرهم أعداء الحياة.
وعلى هذا فإنّ الشاعر عبد الله البّردُّوني لم يعد يطيق الأثواب الجاهزة، فكلّ موهوب يختار الثوب الذي يرتاح فيه، ويرفض أن يضع أفكاره في قوالب كلسية جاهزة، وفي مثل هذا النوع لا تنمو القصيدة نمواً عضوياً وإنما تقف كلّ صورة فيها معزولة عن الصور الأخرى، وكلّ بيت قائم بذاته، هنا تظهر الحاجة إلى القافية كسياج يشدّ تفكك الأبيات، وإلى الخاتمة المجللة القاطعة التي تظهر بالنهاية.
إن رؤيا الشاعر عبد الله البَردُّوني ليست هي المحتوى السياسي والاجتماعي أو الدلالة الفكرية في شعره، وإنما هي جماع هذه المضامين، والتجربة الإنسانية التي يعانيها وتسم تكوينه الاجتماعي والنفسي والفني... إنّ لكلّ شاعر رؤياه الخاصة بحسب موقفه الفكري، وعلى هذا الضوء يمكن تفسير شعره كمعبر لما يجري في اليمن، فهو ابن القرية الفقيرة القادم إلى العاصمة، يتسلح بموهبته الشعرية التي زادها الصقل الثقافي حدة وثراء، يطلق صوته الغاضب بشجاعة في وجه سلطان الظلام، يقول موجهاً الكلام للإمام أحمد حميد الدين في عيد جلوسه:
فيم السكونُ ونصف شعبك ههُنَا يشقى... ونصف في الشعوب مشَّردٌ؟
ضاعتْ رجالُ الفكر فيه كأنهــا حلمٌ يبعثرُهُ الدجى ويبـــــــــــــــــــــــدِّدُ
إنّ الصورة تعبر عن نفسية الشاعر، وهي من عمل القوّة المبدعة والاتجاه إلى روح الشعر، وهذا ما فعله الشاعر في قصيدة «أمّي» التي تعتبر قمة الشعر عنده، قال:
سحبتُ أيامّها الجرحى على لفحةِ البيد وأشواك الهضـــــــــاب
آه يا أمّي وأشواكُ الأســـى تُلْهبُ الأوجاع في قلبي المُــــذابِ
ها أنا يا أمُّ أرثيكِ وفــــــي شجو هذا الشعر شجوي وانتحابي
ونجد أنّ موضوعات الشاعر تدور حول الإحباط والفقر والحزن واليأس والضياع والأسى: «ليل من الحرمان»، «وتضم أشباح الجياع»، «البيوت النائمات على الطوى»، «أشكو جراحاتي إلى ظلي»، «الوجد يحدوالذكريات»، «وحدي وراء اليأس»، «فأنا هنا طفل بدون صبا»، «اليأس مُرضِعتي ومحتضني»، «أقتات أوجاعي»، «أعيش كالميت الملقى بلا كفن»... الخ.
إنّ وصف ألفاظ الشاعر وتراكيبه إنما يعطي قيمة جزئية من قيم أسلوبه، ولا يصل إلى حدّ إعطاء قيمة شاملة لتشكيله الجماعي، وتظل هناك عناصر فنية عديدة دون تفسير.
لقد كانت لغة البّردُّوني مع تقريريتها ومباشرتها، دقيقة، حديثة، حيّة، وعندما عرّج على الاتجاه الرومانسي، استخدم لغة الحياة، وبناء القصيدة بناءً عضوياً، لقد تحرّر من التبعية والتقليد، وفي ديوانه الأول أمثلة كثيرة على ذلك، والشاعر هو الساحر الذي يحوّل النحاس إلى ذهب ويقلب التراب إلى ضوء، وفي سبيل هذه الفلسفة اللغوية، حاول البّردُّوني أن ينتقي من اللغة أعذبها، ومن الأوزان ألطفها وأخفها، لأن الكلمة البسيطة هي أقرب إلى القلب، وترتفع بالمرء عن واقعه العادي إلى عالم المثل، وقد عاد مرّة أخرى إلى الكلاسيكية الجديدة واستخدمها، ومن الحياة المعاصرة مفردات جديدة اكسبها تألقاً وحرارة حتى عبّر بها عن المضامين الاجتماعية والإنسانية، وأوتي موهبة كبرى في اختيار الألفاظ المعبّرة والموحية، ويكون انفعال الشاعر من التوهج والحرارة والإشراق بحيث يغمر إحساسه ويجعله في شبه نشوة، وعندئذ يتم اختيار الألفاظ وتنسيقها، وتتوارد الخواطر والألفاظ وتتناسق وكأنما دون اختيار، وشاعرنا هو الفارس الذي ينتشل الكلمات من نسيجها القديم ليخيطها كلمة كلمة في نسيج جديد، وهو إذ يفعل ذلك يفرغها من شحنتها القديمة ومن دلالاتها وتداعياتها، ليملأها شحنة جديدة، فهي مفاتيحنا إلى عالمه، وعبثنا نحاول الدخول إلى هذا العالم قبل أن نمسك بمفتاحه، يقول من قصيدة «أنا والشعر»:
وحدي مع الشعر هزتني عواطفه
فرقَّصت عطفَه النشوان رناتـــي
وهبتُ للشعر إحساسي وعاطفتي
وذكرياتي وترنيمي وأناتــــــــي
فهو ابتسامي ودمعي وهو تسليتي
وفرحتي، وهو آلامي وحزنــي
أحيا مع الشعر يشدو بي وأنشده
وللخلد غاياته القصوى وغاياتي
اللغة الشعرية هي إذن اللغة المغسولة من صدأ الاستعمال، وهي نوع من العودة إلى البراءة الأولى، وهي ليست ملك الشاعر وليست لغته إلا بمقدار ما يغسلها من آثار غيره.
لكن الشاعر البّردُّوني لم يعد غيرياً يعبّر عن الآخرين، وإنما أصبح ذاتياً يعبّر عن عالمه الداخلي وما يموج فيه من مشاعر وانفعالات، فأخذت القصيدة عنده ترق وتصبح أكثر شفافية، وتحرّر من الشعراء القدماء، ولم تعد القصيدة عالية النبرة خطابية الإيقاع، واهتَمّ بالموسيقا الداخلية، وتوخى الألفاظ الموحيّة، القريبة من النفس البشرية، ونجد ذلك في عناوين بعض القصائد: «ثرثرات محموم»، «السفر إلى الأيام الخضر»، «فلسفة الجراح»، «أنسى أن أموت»، «لها»، «ضائع في المدينة»، «أعشاب الرماد»، «في طريق الفجر»، «ضياء البروق»، «مغني الغبار» ... الخ.
***
لا تزال كتب البّردُّوني الأكثر مبيعاً في اليمن، وربما هؤلاء الذين يبيعون كتبه لا يعرفون أن شاعراً كفيفاً عجوزاً، أصرّ على دفع كلّ ما يملك لناشري كتبه ودواوينه من أجل أن تباع هذه الكتب بسعر رخيص، ورغم معاناته وعذاباته، لم يفقد البّردُّوني وفاءه وحبّه لأبناء اليمن، وتحسسه لأحوالهم وإحساسه بأتراحهم طوال حياته، كان الناس في وطنه، وأحلامهم قضيته، كان خلاصة بلد: بفرحه وحزنه وآماله وآلامه، وإنّ جواب العصور نسي معها أن يموت وهو يحلّم بلحظة «عشق على مرافئ القمر».
نال عدة جوائز منها:
- جائزة أبي تمام، في الموصل عام 1971
- جائزة أحمد شوقي في القاهرة عام 1981
- جائزة الأمم المتحدة «اليونيسكو» عام 1982، وقد أصدرت اليونيسكو عملة فضية عليها صورته
- جائزة مهرجان جرش الرابع في الأردن عام 1982
- جائزة سلطان العويس في الإمارات العربية عام 1993.
أصدر في حياته الشعرية اثني عشر ديواناً، منها: من أرض بلقيس، في طريق الغجر، مدينة الغد، لعيني أم بلقيس، السفر إلى الأيام الخضر، وجوه دخانية في مرايا الليل، جواب العصور، زمان لا نوعية، ترجمة رملية لأعراس الغبّار...
المراجع
1. ديوان عبد الله البّردُّوني... الأعمال الشعرية الكاملة. إصدار الهيئة العامّة للكتاب... صنعاء، المجلد الأوّل، الطبعة الأولى 2002 م/1403 هـ.
2. ديوان عبد الله البّردُّوني، الأعمال الشعرية، مكتبة الإرشاد، المجلد الثاني، صنعاء، الطبعة الرابعة 2009 م/1430 هـ.
3. عبد الله البّردُّوني، د. إبراهيم الجرادي، دمشق 2011 م.
4. مختارات شعرية، عبد الله البَردُّوني، كتاب في جريدة، دمشق 2009 م.
5. الحداثة الشعرية، محمّد عزّام، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1995 م.
6. الشاعر ناقداً، د. فاروق سليم، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2017 م.
7. حكيم الدهر، مالك صقور، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2015 م.
8. قادة الفكر، فلك حصرية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2016 م.
9. النصّ الكامل لكتاب في الشعر الجاهلي، مجلة القاهرة، القاهرة، أبريل 1995 م.
المصدر: الشرق الأوسط