د. عبد الله السيد (*)
الأعياد مواقيت سرور وأفراح، ومناسبات تواصل وتهانئ؛ فيها يمن الله على عباده بلحظات نسيان، تخف فيها سوداوية الواقع المعيش أمام دفق شعوري؛ بموحبه تتخثر لذة المشاعر فينام الألم ولو قليلا.
ولعل أكثر الشواهد التاريخية استثناء لهذه القاعدة عيد المتنبي الذي دون جزء من مأساته في إحدى هجائياته لكافور:
عيد بأبة حال عدت ياعيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد
هذا العيد ما كان لولا شعور صاحبه بالألم والهم وصحوة عقله ومشاعره التي عبر عنها في إحدى روائعه قائلا:
والهم يخترم الجسم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
اليوم تطل علينا ذكرى أحد أعيادنا السنوية الغالية والحال على ماهي عليه:
_ في مشرقنا: تفتك الحروب باليمن والعراق وسوريا، وتمتد رقعتها لتصل المملكة العربية السعودية، وتتخافق بروقها، وتزمجر رعودها، وتتحرك أنواؤها لتشعل منطقة الخليج العربي؛ بينما يزداد الاحتلال الصهيوني عنجهية وكبرياء بدعم من قوى الاستكبار العالمي.
_ وفي إفريقيتنا ومغربنا: يمتلكنا الذعر من دخول السودان نفس الأنفاق التي دخلتها الصومال منذ عقود، ويعتصرنا الألم مما آلت إليه الأحوال في ليبيا، ونتخوف من انزلاق الأمور إلى ما هو أسوء في كل من مصر وتونس والجزائر، ونخشى في كل لحظة من انهيار الهدنة الهشة بين الصحراويين والمغرب؛ فيتضرر الإنسان والحيوان، وتتقطع الأرحام أكثر... وفي مالي والنيجر ونيجريا والسنغال وكوديفوار وتشاد وغيرها من بوادر الفتن ما نرجو الله أن بطفأه.
_ وفي عمقنا الآسيوي دول إسلامية كبيرة مهددة بالحروب، أو تعيشها يوميا كإيران وتركيا وباكستان...
_ مسلمون مهاجرون من هنا وهناك بحثا عن عالم آمن، أو لقمة عيش سائغة، أو متنفس من حرية الكلمة والتفكير...
_ علماؤنا وفقهاؤنا، ماشاء الله، أكثر من الحصر، ولهم من الوسائل ما لم يتوفر لسلفهم، ومع ذلك فلم يتمكنوا حتى من توحيد رؤية الهلال، ولا من إعادة النظر في مدوناتنا الفقهية ولو على مستوى تيسير اللغة والأسلوب... سنيون لكنهم مذاهب، وفي كل مذهب آراء واجتهادات وفتاوى... اجتماعات كثيرة وحوارات أكثر لم يتمكن فقهاء أهل السنة خلالها من الاتفاق على أي شيء... ويوما بعد آخر تزداد مساحة الخلاف بينهم... فذاك لا يخشى تكفير غيره، وآخر قطع الشك باليقين وامتشق سلاحه "لتطبيق شرع الله"، ومحاربة "الجاهلية الجديدة"، بحجة بيان "شرع الله" لا فرق بين الفتوى والدرس، ولا حرمة لمنبر الإمام... كل يجب عليه أن يفتي ولو لم يكن للفتوى مؤهلا، ولا لها منتخبا ولا بها مكلفا...
رباه نحتفل بالعيد... وقرارنا بأيدي خصومنا، ومواردنا في خزائنهم، وحروبنا بسلاحهم، وأغذيتنا، وأدويتنا، وملابسنا، ومراكبنا... وما لا يعرفه سواك هو من عقولهم وصناعتهم...
رباه نحتفل بالعيد... ووحدك نخاطبك بلغة كتابك... فبلغاتهم نتكلم... نكتب... نعلم... نتعلم... نغني... نرقص... بفكرهم وتفكيرهم نريد النفاذ من أقطار السموات والأرض بسلطانهم لا بسلطاننا...
رباه نحتفل بالعيد، وأنت أعلم بحالنا منا، فارحمنا بشآبيب النسيان... متعنا بالسعادة النفسية والاطمئنان حتى لا نتمزق إربا من هول المآسي وشدتها... امنحنا صلابة أولي العزم من رسلك، وقد قال سيدنا عليه أزكى صلاتك وتسليمك: " يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته"... امنحنا قوة المريدين من أمتك حتى نقول مع الشاعر خليل مطران:
شردوا أخيارها بحرا وبرا
واقتلوا أحرارها حرا فحرا
إنما الصالح يبقى صالحا
آخر الدهر ويبقى الشر شرا
كسروا الأقلام هل تكسيرها
يمنع الأيدي أن تنقش صخرا
قطعوا الأيدي هل تقطيعها
يمنع الأعين أن تنظر شزرا
أطفئوا الأعين هل إطفاؤها
يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا
أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم
وبه منجاتنا منكم فشكرا
رباه والعيد عيدك، والحال حالنا ونحن عبيدك، نعاهدك أن نحلم، أن نتكلم، أن ندعو، أن لا نستسلم ما أحييتنا... فإليك نتوجه وأنت العزيز فأعزنا... وأنت المذل فلا تذلنا... وأنت القادر القوي فامنحنا من قوتك وفدرتك ما يعطينا حرية القرار...
رباه ونحن عبيدك، والعيد عيدك، وكل المواهب منك فهب لنا من رشدك وتوفيقك ما يجعلنا نستعيد دورنا فنكون خير الأمم؛ تشد إلينا رحال الفقير للغنى والخائف للأمان، والجاهل للتعلم... اجعلنا خير أمة ترقي الدماء، وتغرس سنابل الخير والحب والحرية والعدالة في ربوع المعمورة، فتكون أيامنا كلها أعيادا وسرورا.
(*) أكاديمي ومثقفي موريتاني كبير ومدير بيت الشعر في نواكشوط