في ذكرى ميلادي..
أصبح عندي الآن هديَّة.
إلى الحبّ خذوني معكم...
.........
على الضفة الأخرى، حيث لا أثر لأقدام السياسة...
أجمل ما في جيل اليوم "رقَّة حافَّته"، جيل حالم، ظريف، يُشرِّقُ صباحًا مع بني يَعْرُب، ويغرِّبُ مساء مع بني يَغْرُب،.. يُقلِّد على عمى، ويتتبَّع الصَّرعات أيْنَ وُلِدت، مُنسحِق تحت كوْمة من سخافات شاسعة، صادحة البراءة، مُحْتفيَّة بالجنون،.. جيل مُنْشقٌّ عنا بتمرُّد، ماهر مُهاتر، يُشركنا عنوة في جرأته،.. و"نحن"، نجاريه في حُلُم يَقَظَةٍ، لَيْلُه عَذْب التَّرْجيع.. نَتَغابَى مرَّة ونَنْتَبه،.. ونتغافل عشرا ونُنبّْه.. في مودَّة قلْبٍ وتهذيب عقلٍ.
طبعا، أنا من جيل سابق على "فتنة" أعياد الميلاد، وهَمسات أعياد الحب، ولمَسات أعياد الأم والأب.. لا تَعني له هذه المناسبات الكثير،.. لم يعرف التَّمني المُبتهج حول الشُّموع الناعسة، لم يتأوَّه على مُجسَّمات القلوب الحمراء، ولم يجرِّب الرَّقص البريء على الكعك المدوَّر،.. جيلي لم يتداول تفاصيل غنج العواطف الودودة المستوْرد.. جيل مُتيبِّس الحواس وَعِر المسالك الوجدانية، أسير مبادئ يشقى بها ويسعدُ في آن، .. مصنوع من زلط القِيَّم المتولّد من حمم الوعي المرسوم الأبعاد،.. لم نعرف هدايا الألعاب اللطيفة،.. كُنَّا نلعب بكل ما يمكن تَخيُّله أداة لهو من النفايات،.. أحضرتُ مرة من الخارج لعبة قطار يدور على سكَّته، افتراضا بأنها لابن أخي، لكن قبل أن أسلِّمه إيَّاها، احتجزتُها في غرفتي لأيَّام،.. أعود من العمل، أرمي مِلحفتي وأوحَال النَّهار، أُركِّبُ اللعبة، أتربَّع جنبها في صَمْتٍ وهيَّ تدور،.. استدعي بها رسمًا مُخزَّنًا في خيالي، لطفلة بشعر معقوص، تجلس في ذات المكان من لعبة قطار ضمّتها صفحة من كتاب القراءة العراقي في الابتدائية،.. وأعيش معها طفولة متأخرة.
يتحمَّس أطفالي لذكرى مقدمي للحياة، وينبِّهوني بالتفاتاتهم الصَّغيرة،.. بهدايا رمزية مُوقَّعة بصبيانية المَقالب، فقبلهم كانت الذكرى تمرُّ منزوعة الصَّوْت.
الحياة مجموعة مرَّات من الدَّهشة،.. وتستمر مُتعتها قَدْرَ استمرار طراوة الدَّهشة،.. شيء واحد يُبنَى فينا على طراوة أبديَّة.. نعمة الأطفال!.
في كل ذكرى ميلاد أُجالس النَّفس على ناصية زمنٍ جريتُ معه وجاريتُه، يتسرَّب من بين أصابعي، أشْرد بين أطلاله يحادثني الصَّمت،.. أوقِظ كمًّا مِنَ الذِّكريات في آنٍ، فتنتفض في فوضى، ترتطم بينها، فيستفيق بعضها باشًّا مُهللاًّ، ويستفيق البعض مُقطِّبا، عصيًّا على الاقصاء من خزّان الذَّاكرة المُعتم ،.. رغم استعدادي لخسارته!..
يسيل أمامي جدولٌ من أيَّامٍ أُصارع لإبقائها على نضارتها، رغم تَكالب الجفاف والقحط على مجرى الجدول،.. ورغم أنَّ الحُبَّ صُلِب في هذا الزَّمنٍ الكريه على الكراهيَّة، في جوٍّ بارد القسوة ومَثَّل الشَّر بجُثَّته.. وشرّ ما في النفس البشرية أن تعتاد الكراهية، تداجي بها،.. ألَّا يقشعرَّ منها الخَلَد.. ولسوء الحظ، لا توجد مدارس لتعليم الحب.. أو على الأقل لتخفيف التأرجح بين الحب الزائف والكراهية الصَّادقة، فالسواد الأعظم اليوم لا يبغي بين الصنفين سبيلا.. ومع كلّ ذلك أخذتُ نَفْسي على مَحْمَلِ الحُبِّ.. وبما أنِّي عازمةٌ ألاَّ أُقلِع عنه، رَفَعْتُنِي لرُتبة مُحبٍّ مع مرتبة الشرف، في نظام التَّسامي الأزلي.
رويدا رويدا، تتوارى وراء أُفق النُّضج حماقات أطفالنا، يتوارى التَّشاكُس، والتَّشاكي، والتَّعارك، والتَّذاكي وغِشّ القَصْد.. زخَّاتُ ازعاجٍ، رشَّات جنون روِّضَتنا باتجاه السكينة،.. ارتعاش الخوف، والتعلق بأستار الرجاء في القلق، في ارتكاس الأفراح وأمل النجاح ،.. أدمنَّا معهم كمائن عِشْق سَقَطْنا فيها طواعيَّة، تَسلَّقنا بها السَّعادة، وعطّرت بشططها تفاصيل أيَّامنا الباهتة،.. واستحثَّت منّا افراز الحنان بغزارة.
تلقيتُ ثلاث هدايا في ذكرى ميلادي هذه،.. لَعِبَ ابني البكر مع فريقه، بقميص يحمل اسمي وتاريخ ميلادي (الصورة)،.. قدَّم لي طفلي الآخر، فاتني الأسمراني، قطعة كعك وكأس عصير، ويَعْلم مُسبقا أنِّي لا أستطيبُ المُسمّنات العشوائية، فاستَرَدَّهُمَا الماكِرُ لنفسه كالعادة، فهي أصْلاً هديَّة برسم الاستعادة،.. أمَّا أغلى الهدايا، فكانت صوتيَّة مُعايدة، بصوتٍ عذبٍ من حبيبة مُغتربة، أمُدُّ إليها عاطفتي بتدفُّق وَفير، تِحنَاًنا وشَوْقا لكائنٍ رقيق..،
...
أطفالي.. هل أعْترِفْ؟!
أحرقتُ كلّ مراكب العودة إلى ما قبل وجودكم،.. فوُجودي تَزَعَّمتْهُ أوَّل صرخة لكم من مَبْسَم الحياة،.. ومِنْ يومها عقدتُ قراني على حبّكم!.. وانصرفَ العُمر اتّجاهَكُم، ليكْتُبَ ديباجة جديدة لحياة بطعم مُختلف؟!
...
أحبابي.. سأُسْجيكم بدوري ما في اليد من هدية!
هل لمحتم الشعاع الأبيض على اليَمين؟، المسوه، ستجدون به شُريانًا موصولا بروحي،.. اسْلكوا مسار تدفُّقه، تطلَّعوا الى الإمام، أرأيتم شيئا ينبض في الأفق؟،.. ذلكم خافقي بما حَوَى، اجتمعتُ فيه كُلُّي،.. فامتلكوه، وأطيلوا الإقامة لو سمحتم، في هدأة حُنُوٍّ، مُجَاهِر بعاطفة من نَسْل الحُبِّ.. هذا أجمل عشقٍ راهنتُ عليه، واعلموا أن القلبَ أزْكَى شهادةً على الحُبِّ من القول.
هل تعلمون؟..، في سُلَّم الحُبِّ ثمَّة حُبّ لا نملك حيَّاله شيئا، فهو الثَّمالة انتشاءً،.. وهو ربح العمر، وانتصار الأمل والتجربة معًا... الحُبُّ أيضا سلوك يمارس.
أهمس هنا، بكلمة صغيرة لوصف حالة كبيرة، أعجز عن قولها بما فيه الكفاية: أحبّكم،.. ومعكم أُحافظ على طفولة عقلي، وعلى النَّهم في استهلاك الحبّ دون اعتدال، إنه منتوج صحي..
.......
لقد أذَّنَ حبُّ العمر في عُمري فردَّدَّ القلب خلْفه وسَكَر، وعلى سُكَّان الاكفهرار وضواحي النّكد مراعاة فارق العقْليَّات.. فقد أصابوا الحبّ بالاكتئاب من خنق التعبير خلف ستار الصّدق، وحبس الأرواح في غُرف عازلة للعواطف... طبعا، غير معني بالحبّ من لم يستطع إليه سبيلا..
أَفكلَّما تعلق الأمر بأطفالنا، آثرنا أن يَسكت اللّسان و يُحاذر الجنان؟!.. لكن ماذا لو نشط أحدهما من عقاله مرَّة؟...
عبِّروا قبل أن تنفجروا أو ترحلوا، يرحمكم الله،.. أو على الأقل.. انصفوا "الدَّهماء" من هذا اشْوي ادْسَاره وابتلعوا الوعظٌ المُتَمَصْلح...،
مع ذلك، وتقديرا لبعض الذّوق الاجتماعي، لم أُعدِّي بالذكر على أسماء الأطفال، أسوة بحياء "الصَّيد"، الذي لا يعرف أسماء الجيل الجديد من "أولاد احمد بن دمان".
اللهَ أسأل أن يهديهم ويصلح بالهم، ويوجّه قلوبهم الى طاعته، واتباع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.. ولكم المثل ولأطفالكم.
كل عام وأنا بخير.. نَعْطسْ وانْشَمْتْ ارَّاصِي.