يختلِف المجال العام الموريتاني عن غيرِه بانتشار الطواطِم. وغالباً ما يكون هؤلاء البدَدة مجموعة من رجال الدِّين، تؤلِّهُهم مجموعات سياسيّة ويرمزون لطرائق حياةٍ معيّنة. تعود أصول هذا التقديس على الأقلّ إلى القرن السابع عشر، عندما ظهر هؤلاء "العلماء" و"الصالحين" كهوفاً للقبائل المحاصَرة، فاستخدَموا السِّرّ والعلاقات العامة واحتكار المخفي (التازبة وإعداد التمائم والحِكم، بما فيها حِكمة طي الأرض الأسطورية) ناهيك عن استفادتِهم من تجارة الورق في إنتاج ثقافة طُررية وأدبية معتبَرة. ومع القرن العشرين كان هؤلاء الأولياء رموزاً سياديّة وتحرّرية لأقوامِهم. كانت الهرطقة في الصحراء هي الكُفر بالقدرات الربّانية لهؤلاء العلماء. ورغم أنّ بعض المحاربين كان ينهب أموال هؤلاء (مثلاً استاق أحمد ولد الدّيْد أنعام الشيخ سيديا وغنم محاربوا الساحِل إبل الشيخ سعد بوه، ناهيك عن إغارات على إبل الشيخ محمد فال ولد متالي واغتيال بعض العلماء في حروب سياسيّة) إلاّ أنّ فكرة "التازبة"، وهي ظفر هؤلاء الربانيين بالنقمة الإلهية ظلّت سائدة.
عموماً كانت الحركات الدِّينية في الإسلام حركات نُخبوية من الأعلى حيث تُنتِج معرِفة نقدية و"مجرّدة" ومنهجية؛ ولكنّها حركاتٌ دهماوية من الأسفل يتحلّق حولَها جمهورٌ لا نفاذ له على الأدلة. وقد عاب البغدادي المعتزِلة أنّه "لا عامّة لهم". فيما كانت الحنبلية والشافعية والمالكية حركات دهماوية قوية في الشارِع. وكان تشميت الحنابلة للبربهاري يهزّ جِسر بغداد. وهذا النموذج من المجال العام الإسلامي القديم ظلّ حياً في موريتانيا وأندونيسيا والسنغال، على حساب الفضاء العام الحديث. وما يوجد عندنا هو حركات هوليغانزية من جماهير الشتمية والطقسية وتحزيب الفِقه. وقد استثمرت البلاطات العربية في حربِها الباردة في هذا العِلم الشنقيطي فاتخذَت به أصناماً للعامة وأعادَت به الاستقطاب ليس فقط في موريتانيا بل في كلّ العالم العربي.
تاريخياً كانت هنالك ردّات إصلاحيّة على هذا التقديس. فالحركة الإسلاميّة الإصلاحية بدأت بنقد التقديس. ولكنّها فشلت في النهاية في العمل بمقتضى بشرية الصالحين. واليوم هذه الحركة هي أكبر عابِدة للبدَدة؛ ولها طواطِم معلومة لا يوصَلُ إليها لا بالنقد السياسي (مع أنّ التناقضات السياسيّة لمعبودي الجماهير هؤلاء بيّنة لكل ناظِر) ولا بالنقد العِلمي، (مع أنّ عملهم الأساسي ليس إنتاج العِلم، بل العلاقات العامة: الخُطَب والمهرجانات والوعظ وتشريع السياسات وتحوير الإفتاء على الرغبات السلطوية والسكوت عن العاجِل والتنظير في الآجل).
لا أعتقِد أنّ هذا التقديس مفيد في بنية الإسلام المعاصِر. أعتقِد في المقابِل أنّ الثقافة الشعبية ستسفيد من دمقرطة الأقوال وإذاعة البحث وفكّ الوساطات بين المُسلِم والدين وفكّ الارتباط عن الكيانات النخبوية وتجريد المعرِفة ورفع الحصانة عن البشر، كلّ البشَر.
________________
*"تأسيس التقديس" هو عملٌ في علم الكلام لشيخ المعقول والمنقول، فخر الدِّين الرازي