كان العام ألفان وواحد يتأهب للمغادرة، حين أسدلت موريتانيا جفونها على فاجعة انغرست بقسوة مخالبها في الوجدان الجمعي، حين انطفأت شعلة أضاءت زهاء أربعة عقود لم يكدر صفوها فتور أو سأم، كان الاستثنائي حبيب ولد محفوظ يرتقي مودعا وطنا كسيرا يغص بالألم، كان الفقد عنوان مساء قاتم ظلل الأرض وأطبق على النفوس.
حبيب ولد سيدي ولد محفوظ (بداح)، قصة إيمان بالقضية الوطنية واعتناق للقيم، نقشتها موهبة فذة في الكتابة بأسلوب ميزته الرصانة والعمق، وبلبوس ساخر ممتع.
**********
عام 1960، ولد حبيب في قرية النيفرار على بعد أربعين كلمترا شمال المذرذرة في ولاية الترارزة. في القرية الإيكيدية نشأ ودرس القرآن وعلومه مبكرا ثم التحق بالمدرسة الابتدائية في مقاطعة المذرذرة حيث ظهر نبوغ الفتى وتميزه خصوصا في إتقانه للأدب الفرنسي.
ثم وفد إلى العاصمة ليواصل دراسته ويحصل على شهادة ختم الدروس الإعدادية ثم باكالوريا الآداب العصرية للشعبة المزدوجة قبل أن يلتحق بالمدرسة بالمدرسة العليا للتعليم ويتخرج أستاذا.
***********
شغف الكتابة باللغة الفرنسية رافق حبيب ليؤسس تحت إلحاحه مع زملاء له جريدة الأنباء وهم بعد في المرحلة الإعدادية، وكانت حينها مشروعا إعلاميا واعدا حصد قاعدة قراء أغرت بالمواصلة.
مكث حبيب سنوات في سلك التدريس جاب خلالها مناطق عدة من الوطن ولامس هموم المواطنين وتعرف على طباعهم واحتك بثقافاتهم المختلفة.
قبل أن يترك التعليم لصالح الصحافة ويبدأ مع مجلة موريتانيا الغد سنة 1988 تجربة غنية كانت نقلة في مجال الصحافة المستقلة.
إلى صحيفة البيان انتقل حبيب سنة 1991 ليواصل مسار تألقه مديرا لتحريرها، ثم قرر سنة 1993 رفقة كوكبة من زملائه تأسيس جريدة القلم التي حققت نجاحا وانتشارا فاقا التوقع، فكانت مساءات الأربعاء مواعيد لتوافد قراء متعطشين لا ينتظرون عادة وصول العدد للموزعين.
************
خلال هذه المسيرة اشتهر "مويتانيد" العمود الأسبوعي الذي يكتبه حبيب بفرنسيته الأنيقة الرصينة وبنبرته اللاذعة وينتقد عبره ما يراه فسادا وسوء تسيير، كان يناضل ضد الظلم والقمع، وكان في تعليقه على مستجد الأحداث يفصح عن توق محموم للحرية وعن انحياز مطلق للمهمشين والمغبونين.
ميزت قلم حبيب موهبة سردية غذاها اطلاع واسع على الموروث الشعبي، فكان يوظف القصص والأساطير ويسقطها على الظواهر والأحداث، أسلوب متفرد مكن صاحبه من طرق مواضيع كثيرة وشائكة في سعيه لترسيخ قيم الحرية والعدالة والمساواة، وكان من ثمن تشبثه المستميت بتلك القيم أن جريدة القلم التي أدارها حتى وفاته كانت الأكثر مصادرة وتوقيفا عن النشر.
************
يتحدث العارفون بالرجل عن موسوعيته وذكائه الحاد وسرعة بديهته وعن ذاكرة استثنائية لا تهمل أدق التفاصيل، يروون قصصا مبهرة عن كرمه وبساطته وصدقه وطبعه الحاني، وعن نفس أبية جمحت به دائما نحو السمو عن كل ما هو مادي.
الفتى الهادئ بطبعه، تستغرقه القراءة والكتابة حد الذوبان، يعزف لحن الإنسانية ويتغنى بالحرية، قدرات كتابية مذهلة كانت لدى حبيب تنضاف إليها مهارات كالخط وتصميم الصحف، وكان راوية للشعر والأدب بصنوفه متبحرا في الفن ومقاماته، مغرما بمطالعة التاريخ وثقافات الشعوب.
************
إحدى وأربعون سنة كانت حيزا زمنيا بحجم حياة زاخرة، كانت عمر بداح الذي خلده صفحاتِِ ناصعةً سطر فيها قناعاته.
تولت هيئة حبيب ولد محفوظ التي أنشأتها عائلة المرحوم ورفقاء دربه، تولت الإشراف على إصدار كتابين جمعا 149 مقالا من عموده "موريتانيد" في ما يقارب 750 صفحة، صدر أحدهما عن دار "كارتالا" الفرنسية للنشر، فيما أصدرت الثاني دار "جسور"، مجهود ينوي القائمون على الهيئة مواصلته لنشر ما بقي من إنتاج الفقيد، ولترجمته نحو العربية. كما تحتفي سنويا بأحسن مقالين صحفيين باللغتين العربية والفرنسية عبر جائزة حبيب ولد محفوظ التي دأب الاتحاد الأوروبي على تقديمها منذ رحيل المرحوم قبل أن تتولى تنظيمها الهيئة.
لم يتلق فقيد الصحافة والأدب تكريما رسميا من طرف الدولة الموريتانية، وهو ما استدعى تساؤل مقربين منه عن سر غيابه عن منصات التوشيح، فيما يعيدون المطالبة بتسمية شارع عليه، المشروع الذي توقف بعد أن قطعت خطوة باتجاهه.
************
رحل المرحوم حبيب ولد محفوظ رحيل العظماء، مضى أحد القلة الذين حملوا لواء الصحافة المستقلة الجادة في أحلك الظروف.. مضى بعد أن وهب حياته للإنسان، وبعد أن دوت نداءاته - وما زالت أصداؤها تتردد - تنديدا بالظلم ورفضا للاستعباد والاستبداد.