بديهة جمال...وجمالُ بديهة.
من كنّاش مُرِيدٍ لجَمال...
جرَى ذلك في أحد أيام مايو القائظة من عام 1984، بقاعة محاضرات المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، بحضور وزير الثقافة والشؤون الإسلامية (لا أتذكر اسم الوزارة بالتحديد)، العقيد الشيخ ولد بيْدَّه، وبحضور فضيلة لمرابط محمد سالم ولد عدُّود، رئيس المحكمة العليا، تغمدهما الله بواسع رحمته، والأستاذ إسلمُ ولد سيدي المصطف، مدير المعهد، أطال الله بقاءه، وخلال إحدى محاضرات المغفور له، جمال ولد الحسن الكاظّـة بالحضور، كما هي حالُ كلّ محاضراته...كانت أضواء الكامِيرات والبروجَكْتِيرَات موجهةً بصورة مركزة على جمال الذي كان، مثل كل الحضور، يتصبب عرقا بسبب ارتفاع درجة الحرارة واكتظاظ القاعة، بين وقوف وجلوس، قال في مضمار تأريخه للأدب الموريتاني: «...وقد سلّط المؤرِّخون الأضواء على تلك الحقبة أكثرَ مِمَّا هي مُسلّطةٌ عليَّ الآن..»، غصّت القاعة بالتصفيق وضحكات الإعجاب...ابتسمَ لمرابط محمد سالم ابتسامةً هادئة وهمس في أذُن العقيد ولد بَيْدّه بما أدّى إلى خفض درجة قوة وتركيز البروجكتيرات على جمال...
في نهاية المحاضرة، وبعد فتح مجال التدخّل أمام الحضور، تدخّل أحدهم، فتحامل، عفَا اللهُ عنهُ، على جَمال وتَطاوَل، وكان ذلك مَوضَةَ ذلكَ الزّمان، وذكَر أن المُحاضِرَ ركّز على منطقة الگبله مُهملاً الحديثَ عن سائر مناطق البلاد...وختم بقوله حرفيًا: «إنني، من خلال معرفتي بأدب البلاد، أشمّ في هذه المحاضرة رائحة التعصُّب الجهويّ ورائحةَ الانحياز ورائحةَ الاهتمام بجزء من البلاد على حساب الأجزاء الأخرى..»، رجع الكلام للمرحوم جمال، وبعد دحضه اتّهامَ المُتدخّل، قدّم أسبابًا موضوعيةً، علميةً مدعومة بالشواهد والبراهين المقنعة لمبنَى دراسته وختم ردّه على المداخلة بقوله حرفيًا: «...هذا وإنّ مقارباتنا لدراسة هذا الأدب وأدواتنا الإجرائيةَ في التعامُل معهُ جمعًا ودراسةً متبايِنةٌ، فنحنُ نُعامله بالعلم والعقل بينما تتعاملون معه وَفق مقاربة مبنِيةٍ على الرائحَة...على الشّمّ... على الأنف...»، وضع ولد عدّود طرفَ عمامته علَى فمِه مُخفيًا ابتسامةَ إعجاب بسرعة بديهة جمال...
تغمدّ اللهُ برحمته التي وسعت كلَّ شيءٍ الشّيخ ولد بيدَّه وجمال ولد الحسن ولمرابط محمّد سالم ولد عدُّود.
وحفظَ اللهُ وسلَّم وأمّن من كلّ مَخُوف وكل مُختشًى الأحياءَ وأطالَ، في طاعتهِ واتّباعِ سنّةِ نبِيّه، أعمارَهم...
آمِينْ..
ابُّـوه ولد بلبلاَّه