ذات يوم كان العلامة الشيخ أحمدو بن محمذ فال "مدو" رحمه الله يُدرس "دولة" من الطلاب قول خليل في المختصر: (وتسقط صلاة وقضاؤها لعادم ماء وصعيد) فلم يستوعب أحدهم الصورة الفقهية لحكم عادم الماء والتيمم وما فيها من الصور، فما كان من المرابط أحمدو إلا أن دعا شيخا مسنا في الحي اسمه: إلا بن حيبو الحسني وقال له احك لهم قصة محمدُ بن أحمدُ انأن الحسني رحمه الله: (لإيضاح صورة عادم الماء والتيمم).
بدأ الشيخ يسرد قصة الرجل بتدفق وعفوية، قال حدثني محمدو بن أحمدو انان أنه: (انطلق ذات مساء من عند حي قد خيم بالقرب من "ذات الحبال" - وهي شجرة معروفة جنوب شرقي منهل بلغربان تغنى بها شعراء المنطقة - واتجهت شمالا نحو حينا النازل شمال غربي البئر وكانت البئر تقع في منتصف الطريق بين الحيين الجنوب الذي أنا قادم منه والشمالي الذي أنا متجه إليه، بحيث يمر الرائح والغادي بين الحيين برأس مثابتها أو على حياضها، وحين اقتربت من المنهل أحسست عطشا فعرجت على الحياض فوجتدها حديثة عهد بالمتح فالفيت زلالا رقراقا شربت منه شربة بنت زياد من نمير، وادي آش:
وارشفنا على ظمأ زلالا
أرق من المدامة للنديم.
لم يقترب وقت صلاة المغرب بعد، وإنما كانت الشمس تَضَيَّفُ للغروب، حمراء كأنما تغرب في عين حمئة؛ وكان الجو هادئا منصتا إلا من نسناسة لطيفة تهب من الجنوب الغربي فتنقل الأصوات من مسافات بعيدة.
شربت وتوضأت وهممت بالانصراف، لكن المفاجأة التي لم تكن في الحسبان أبدا هي عندما رفعت رأسي جنوبا فإذا الأسد أبو الحارث ذاته وجبهته المدورة ومفاصله المترصة، عيانا معاينة يداهمني ويتقدم إلي بمشيته الفدعاء، ولبدته المتحركة، فجئت لهول الموقف وقرب المسافة منه، وكأن الأرض قد انتهت بيننا!
يا إلهي لم تعد هناك فرصة للتفكير في الخلاص من قبضة هذا العنبس، والتملص من كماشات شرنبثاته.
تماسكت واتجهت إلى شجرة سامقة في نهاية رأس المثابة (المَرْجَعْ) عاينت جذعا قويا متفرعا في قمتها، لا أدري كيف شددت الهمة لبلوغ القمة! وكيف هيأت لي الأقدار معراجا للصعود نحو السماء، وأنا لست نبيا ولا ملَكا ولا طيرا من المسخرات لجو السماء.
لكن قدر الله الذي جمعني هنا بغير حبيب على غير ميعاد، قادر على إنقاذي منه، وألا يرزقه إياي بغير حول مني ولا قوة!
ما إن تربعت على القمة حتى تربعت براثنه الشثنة في نفس موضع قدمي.
حين أفلت من قبضته وأمسيت ثاويا على رأس جذع السامقة، استشاط غضبا وطفق يزمجر زمجرة تحدث رجة في المكان وزئيرا كدَمدَمة الرعد المتواصل في الغيوم المثقلة.
لم أعاين قط غضبة الأسد وسفاهة حلمه! إنها تجعل منه مخلوقا متجهما مخيفا، وزلزالا مرعبا يملأ ما بين السماء والأرض، ولله ما أصدق فيه وصف الصحابي كعب بن زهير رضي الله عنه:
منه تظل سباع الجو ضامزة
ولا تمشى بواديه الأراجيل.
أو وصف العلامة محمدو سالم بن الشين رحمه الله:
كأن عباءة خيطت وزُرَّت
على متعجر الأثباج عات
خبعثنة هريت الشدق جأب
يقلب للمصيد شرنبثات
ضبارمة حديد الناب عضب
يكب على سواعد أيدات.
انتصبت في القمة حذرا قلقا كراكب الصراط، لكنني كنت متماسكا -ولله الحمد- وبات الرعد يرزم في الأرض وأنا صَمِتٌ مقشعر في السماء، والزئير في السفح تحتي وأنا فوقه، لا يبرح مقبلا مدبرا لا تهدأ أرجله ولا مِرْجله، أما أنا فهيهات مني القرار وأنا على حدة هذا العود المتحرك "ولا قرار على زأر من الأسد".
لكنني اتخذت حيلة ووسيلة علها أن تساعدني على البقاء في القمة تحسبا للتعب أو الغثيان الذي قد يتسبب في السقوط الحر من هذا الملجئ السماوي الخطر.
أخذت عمامتي وربطت نفسي بها مع الجذع - حتى صرت معه كنبتة العلندى - بثلاث لفات أو أربع ثم عقدت طرفي العمامة عقدا محكما وانتظرت الفرج من رب السماء والأرض وما بينهما!.
على منزلق ذلك الجذع بت تلك الليلة النابغية التي كانت لحظة منها كسنة مما تعدون، صليت الفرض والنفل معا، لكن كانت صلاة عادم الماء والصعيد، وخائف اللص والسبع، نوازل فقهية اجتمعت علي في آن واحد! لا ماء ولا تيمم ولا استقبال، لا خشوع إلا لهمس ونهيس الجار المرعب! لا طمأنينة، لا ركوع، لا سجود، على عظم واحد ولا اثنين، أحرى سبعة أعظم!
حين انفجر بركان الصبح في الأفق الشرقي انصرف القسورة وأنا أرقبه لكنني لم أنزل مخافة كرة الأسد بعد انصرافه وقديما قالت العرب: "قريبا مفر أسد الشد".
عند بزوع الشمس بدأت الوراد تنحدر للمنهل من كل صوب، ونظر الناس فإذا أنا ثاو على رأس الجذع فساعدوني وأنزلوني من علٍ.
لكن قدمي وساعدي انتفخت وتورمت زمانا ووعكت مدة أشهر حتى تماثلت للشفاء، وكانت تجربة مريرة في ليلة واحدة عشتها في السماء لكنها بمثابة ألف شهر).
انتهى الدرس.
من رواية العلامة القاضي الداه ولد حمين.