يا أهلا وسهلا ومرحبا
محمدن ولد سيد إبراهيم الحديث عنه حديث طويل
عريض فهو أديب منتج وفنان بارع وناقد متمكن وإعلامي موسوعي فإذا كان من
من مشاهير أدباء العرب القدماء من تسمى بصناجة العرب فإن محمدن ولد سيد إبراهيم يحق له بحكم الخبرة والموسوعية في الأدب أن يلقب بصناجة الأدب الحساني لأنه ببساطة هو مرجعيته الأبرز في بلادنا تنظيرا ونقدا وتاريخا وإنشاء وإنشادا وموسيقى فللعميد محمدن أذن موسيقية لا تقل رهافة وخبرة في الأوزان والموسيقى عن أذن الأصمعي وأضرابه من فطاحل الغناء والأدب.
تعاطى الأدب الحساني في مدرسة أهل هدار العريقة حيث نشأ في كنف أمه الحافظة التقية الصالحة الأديبة موكف العزة بنت هدار التي كانت في حوزة ابن عمها بزيد ولد هدار الذي هو علم بارز ومتميز في هذه المدرسة يكفيه تألقا أن يوصف شعره بأنه نسخة طبق أصلها من شعر امحمد طرافة ونسجا وموضوعات فكان محمدن قرينا للمختار ولد هدار ولم يلبث أن دشن مرحلة جديدة من حياته الأدبية بالتحاقه بنظرائه وأقرانه من جيل الفتوة والعبقرية أمثال محمد ولد ابن والمختار ولد هدار والشيخ ولد مكي وغيرهم وكانت له جولات مع هؤلاء حين كانت اندر ملتقى للأدباء ومسرحا مفضلا يلتقي فيه
المبدعون من كل (الأعصار).
انتسب محمدن ولد سيد إبراهيم إلى الإذاعة على رأس مجموعة نخبوية تعد على رؤوس الأصابع في منتصف خمسينيات
القرن الماضي والإذاعة حينئذ ما زالت في مدينة اندر؟
وقد أدركت من هؤلاء كبير فنيي الإذاعة في الصوت بلال ولد يمار رحمه الله، والإداري المخضرم عبدو ولد محمد الأمين حفظه الله، والوثائقي سيدي محمد ولد اعمر رحمه الله، والأستاذ حماه الله منعش برامج.
وكان أول ما قام به عند انتسابه رحلة قادته إلى المراكز المأهولة حينئذ داخل الوطن ومنها استجلب التسجيلات الأولى
التي اعتبرت النواة الأبرز لوثائقيات الإذاعة الوطنية فيما بعد ومنها تسجيل قديم للفنان الراحل المرحوم سداتي ولد آب
يغني فيه الأبيات المشهورة لعمرو ابن الفارض:
ابرق بدا من جانب الغور لامع
ام ارتفعت عن وجه ليلى البراقع... إلى آخر هذا التسجيل الذي كان بالمناسبة سنة 1957 ومعه تسجيلات غنائية أخرى ولكنه التسجيل الأبرز الذي جذب المستمعين جذبا إلى الإذاعة وصار حديث الساعة ومادة السمر الرئيسية لعلية القوم في أول جيل من أجيال الاستقبال بث الإذاعية برز يومئذ وكان غالي الثمن يسمى "كيرير" ولا يتوفر إلا نادرا عند أشخاص قليلين من طبقة النبلاء الأنيقة ذات الصلة القديمة بالأسفار إلى حواضر العالم الكبرى.
أتذكر وأنا طفل دون الخمس سنوات أن أول من اقتناه من حينا المختار ولد هدار رحمه الله، ويقولون إن هناك جهازا واحدا مماثلا له في حي ناء جدا من حينا لمحمد المامي ولد سيد امين ولد الشيخ محمد المامي. وإلى هذين الجهازين
كان يتقاطر أطفال الحي ليحظو بسماع حصة من "هول سداتي" تقدم من مدينة اندر كل أسبوع عند منتصف ليل كل اثنين
يقدمها محمدن ولد سيد إبراهيم.
وكان المستمعون يتوافدون على من حباهم الله بهذه النعمة "كيرير" ليشنفوا آذانهم بمقاطع عجيبة من الصندوق المتكلم!!
ولم تمض سوى أيام قلائل حتى صار كبار حينا يتداولون معلومات تفصيلية مفادها أن المسمى محمدن ولد سيد إبراهيم هو في الأصل من حينا وأن أمه موكف العزة بنت هدار.
من هنا بدأت نجومية المرحوم محمدن ولد سيد إبراهيم بعد أن تردد صوته مرارا على آذان السمار
وهم يغالبون النعاس ينتظرون على أحر من الجمر إطلالة محمدن ولد سيد إبراهيم من داخل صندوق الغرائب
والعجائب ليقول بالحرف تلك الكلمة المختصرة (هذ أنا محمدن ولد سيد إبراهيم اف رج مورتان ف اندر اصنتو.. لاهي انقدم الكم هول سداتي ولد آب).
وحين يردد سداتي ضمن الأبيات السالفة الذكر:
إذا ما بدت ليلى فكلي أعين
وإن هي ناجتني فكلي مسامع
عندها تجد السمار وكلهم آذان صاغية ومسامع مفتوحة بتركيز واهتمام بالغين إلى هذه النغمات من الصندوق الناطق.
ومع الإعلان عن الاستقلال الداخلي بدأ تحويل الإذاعة من اندر إلى نواكشوط وكان محمدن ولد سيد إبراهيم من طلائع الموظفين الذي جاؤوا من اندر إلى العاصمة الفتية وكان بيته في ابلوكات منارة جود وكرم أصيل يتردد عليها الجميع من الخاصة والعامة أدباء وفنانين ونجوم "ظامت" ومن ذوي الحاجات ويجد فيها الجميع كل ترحيب وتكريم ولتبدأ مراحل أخرى من نجومية وتألق العميد محمدن ولد سيد إبراهيم وقد أصبح رئيسا لقسم الأدب والموسيقى بالإذاعة الوطنية في فصول أخرى ومشاوير من عطائه مقدما ومنعشا لحصص متنوعة وألعاب إذاعية وريبوتاجات حية مباشرة ومتنوعة كان مطلوبا أن تغطي كل الوقت المخصص للبرامج العربية التي لم تظهر كمسطرة ثابتة إلا أواخر الستينيات.
وهكذا كان محمدن ولد سيد إبراهيم رحمه الله رجلا يوزن بأمة تراه مع المختار ولد حامد في سجالات جميلة يترجمان فيها الأدب الحساني إلى شعر فصيح والعكس، ثم تراه على جبهة أخرى في برامج توجيهية مع إبراهيم ولد النانه لبيان
متطلبات المدينة العصرية وكيف تتناقض مع السلوك البدوي موضحا كيف أن للسلوك البدوي مخاطر مخلة بالصحة العامة وتلقاه تارة في سباق الإبل والخيل وفي الاحتفالات المخلدة للاستقلال والألعاب المواكبة لهذه الاحتفالات.
وما أكثر البرامج والحلقات التي تأتي على غير ميعاد كالأناشيد الجديدة التي هي من إنتاج الأستاذ وإخراجه
فهو من ينتجها ويختار لها إيقاعا معينا يدرب عليه الفرق المختلفة ويعدل فيه إذا لم يعجبه وهو من سجل النشيد الوطني الأول مع سداتي وصاحب كلمات النشيد العسكري اتقوي يالجلال كتائب موريتان واناشيد واغنيات أخرى لاتعد ولا تحصى وله حضور أيضا في المسرح مع المرحوم همام في عروضه المسرحية الغنائية الكوميدية المعروفة بالكيكوطية
وتلقاه في محور آخر ينَظر مع المرحوم احمدو ولدحرم في برنامج بعنوان الحضارة والنظام في القرن العشرين كل هذا بطبيعة الحال كان يجري بالتوازي مع عمل القسم المركزي المتعلق بالتسجيلات الغنائية والأدبية و تلك التي تسجل مع فرق الشباب والموهوبين في حفلات بنجه وحتى مع صاحب النيفارة والرباب ونوادر القصص وغيرها كثير وكان من مهام القسم أيضا ابرام العقود التي تنظم علاقة الإذاعة والفنانين وتبين طبيعة الحقوق التي
تتكفل بها الاذاعة للفنان مقابل بث أغانيه الخ وقد أدركت في الإذاعة المرحوم ابوه وهو مكلف من طرف القسم بتسجيل كل نوتة موسيقية او حصة غنائية من أي لون تبث يبين طبيعتها ومدتها وتاريخ بثها ليستلم ذووها حقوقهم كاملة نقدا كل ثلاثة أشهر تحت عنوان حقوق الفنانين.
ومهما يكن وفي كل الأحوال هناك دائما ثلاثة برامج في الأسبوع من انتاج محمدن نفسه الأولى بعنوان دروس من الأدب الشعبي وفيها يستعرض النصوص الادبية التي تصله عبر البريد كل اسبوع برنامج آخر بعنوان مختارات من الأدب الشعبي يقدم فيها كل اسبوع نصوصا من المدونة الادبية الوطنية يختارها وينوع في موضوعاتها هذا بالإضافة إلى دروس اسبوعية حول الموسيقى ينوع فيها أيضا بين مدارس التيدنيت في جهات الوطن.
كما ان القسم يعنى أيضا بالحفلات التي تنظم لاستقبال الضيوف وتلك التي تنظم في دار الشباب وفي الرئاسة وبحضور الفرق الفنية الوطنية بمختلف آلاتها وتشكيلاتها وأزيائها.
كل هذا تحت إشراف العميد محمدن وليس هذا فحسب فأحيانا يختار وبشكل دوري من بين المراسلين واحدا يقدم عنه حلقة كاملة من شعره الذي وصل القسم وقد يقع اختياره ايضا على الأعلام الوطنيين الكبار من علماء وأمراء فيقدم عن كل منهم على حدة حلقة خاصة به وبسجاياه الذائعة وبطولاتة من خلال نصوص أدبية تخلدها واستمر على هذا الزحم وبدون انقطاع حتى ظهور أول مصلحة للبرامج العربية في مستهل السبعينيات مع أستاذنا الحسن مولاي علي حفظه الله قبل أن تتحول الى إدارة للبرامج مركزية يتبع لها اقسام هي قسم الانتاج العربي وقسم الأدب والفنون
واقسام اللغات الوطنية وقسم للبرامج باللغة الفرنسية وقسم للتنسيق وفي سنة 1980 تحول قسم الأدب والفنون الشعبية إلى مصلحة مركزية للفنون الجميلة بقيادة العميد محمدن ولدسيد ابراهيم وكان يوما تاريخيا بمعنى الكلمة وواصل محمدن عمله رئيسا لهذه المصلحة إلى غاية تاريخ تقاعده وإحالته إلى المعاش ليتفرغ للتأليف حيث نشر عدة كتب من حصاد هذه التجربة المهنية الرائدة. رحمه الله رحمة واسعة.