.........ا
النّخلة سيِّدة أتقنتْ فنّ الشموخ،..
أحبُّ التُّمور في مرحلة من عُمُرها، لا في مُراهقتها (لبلحْ) ولا في كهولتها (اتمرْ الصالح)، أحبُّ الرُّطب فقط، وفي حضرته أتغافلُ عن هَوس الوزن، .. كُلما وضعتُ ذلك المُجسَّم اللذيذ في فمي، استحضرتُ السّر الذي أودعه الله، تذكَّرتُ مريم البتول ومخاضها، حين أكرمها الله بتلك الثمرة، في عمرها ذلك تحديدا (رُطبًا جَنيًّا)، انتقاها لها الله حَصرًا من بين خَيرات الشَّام، أرض التِّين والعنب والرمان..
الجميل، أنِّي " انگيطنْ " كل سنة بأفخر صنف، على حساب مروءة أصدقائي وجيراني من أهل آدرار، هنا في انواكشوط، ولا أتذكَّر أني اشتريتُ " التگلاع " إلا نادرا، فللقوم طاقة تشارُكٍ فريدة..
كُلما انساب في فمي رحيق الرُّطب "المجاني"، أيقظَ أحاسيس غافية تحت رُكام الأيَّام،.. فقد حمَّسني عمِّي ذات عطلة لأصحبه وأسرته للگيطه في آدرار، سيكون ذلك أول انتجاع لي هناك،.. فرحتُ، ومنَّيتُ المزاج ببعض التَّرميم.. أخذتُ كمًّا من الكتب والمجلاَّت والأشرطة لتعمير خلوتي حين أتراجع إلى صمتي، فلي مع الوقت معارك شتَّى، .. كان المشهد جديدًا عليَّ بكلِّه، .. لم استوعب تفاصيله المملَّة وحرارته الشَّرسة وغذاءه الرَّتيب، فسقطتْ فورا الصُّور التي بنيتها في مَجَاهل خيالي.. وصُدمتُ..
تربيَّتُ بين أهل آدرار في لكصر ولستُ منهم، وقد سمَّموا ذهني بالدِّعاية لأشيائهم الجميلة،.. لقد أتقنوا لعبة تثمين منتوجاتهم والإقناع بها حتى نَبَتَتْ في اللاَّوعي، فالطبيعة هناك شحيحة، وما يَنتزعون منها يضاعفون قيمه بالدِّعاية والتَّلميع حَدَّ الإطناب: دهن آدرار، اتمر آدرار، كسكس آدرار، حنة آدرار.. احتوتني الدّعاية بتمهُّل، فحَبَسْتُ في ذاكرتي أنَّ كلَّ طعمٍ بذوق مُميَّز مرجعيته لآدرار حتمًا، حتى حرموا ذوقي التقليدي فرصة أنْ يقف بمفرده على دعائمَ من اختياره،.. والحقيقة، أنَّها الشَّطارة والمهارة في صناعة فنِّ الحياة، برقيٍّ معصورٍ من طبيعة متعسِّفة، عاشوها وخبروها، وبتلك الدِّعاية يرفعون سقف امتنان الانتماء إليها.
أحصلُ غالبا على نصيبي من بركات أرضهم بالمودَّة، ( ادگيك اشعير، ادهن، كسكس، البن لغنم..)، حتى اعتدتُّ عِشرتها،.. وكُلّما يمَّمتُ شطر مَرصتْ لكصر للتَّزود منها، أحسُّ أنِّي دخلتُ الحقل الجسدي لآدرار .. مع أنِّي أتنازع معهم السُّوقَ، فهي من معالمي الوجدانية .. بل بروحيَّ تلك السُّوق، بوَقار تجاعيدها، ولُطف صَخبها الهامس وعُرُشها التَّليدة المُتوارثة.. هي حيِّز من نَفَسِ طفولتي عَجِزَتِ السِّنين عن محوه.
الطريف أنه خلال إقامتي تلك، وبعد أن تفاهمتُ مع ذلك الوادي الوديع، هجرتُ ما حملتُ من ورق،.. حاولتُ أن أتناغم مع سيْرِ حياته، فانشغلتُ باكتشاف الإنسان وهو يثبتُ أمامي غرابَته في حفظِه لتميُّزه،.. رجال، نساء، فتيات كالنَّحل في جدِّه واجتهاده وكرم عطائه، يَعملنَ نهارا في كلّ شيء وأيِّ شيء، وفي المساء، قبل أن يتوغَّل الليل في ظُلمته، يُشعلن فتيل الغناء والمرح واللَّهو المُسْكِر،.. لا أفوِّتُ حلقة "جَرِكانْ" في الجوار، أتفرَّجُ على النَّكد يُذبح أمامي باشْويراتْ عذبة، تُستباح فيها اللغة، تُحَقِّرُ العِبارات بالتَّابوهات،.. فحَوْلَ "جركان" لا عورة للابتسامة وهي تنْفكُّ من عِقالها.. ابليس، هُوَّ الآخر يَحرصُ على تسجيل حضوره بروحه، يضبط مَعهُنَّ إيقاع الجُنون، يؤزُّهنَّ أزًّا، وقد فاضَ حماسًا من ضحكات وَقَرَت أذنيه، بل أنَّه لاصگ فيهم لصگه من لصگات ابليس..
عالم رائع في شفافيَّته وهدوء باله، يعيش في حدود يومه بلا عُقَدٍ، ولا قَلق، لا يهمُّه إلى أيِّ مَصيرٍ يسعى غده.. فللإنسان في تلك الوديان قدرة غريبة على الإفراج عن الفرح بكلِّ درجاته، وعلى الثَّبات عليه، هيَّ نفْس الملامح الظريفة المتهكِّمة، وهي تُطالعك صباحًا أو وهي تَنصرف عنك مساءً،.. كنتُ فيما تَلاَ من أيَّام إقامتي، أتمنَّى أن لا تنتهي، أُجمِّعُ الضَّحك المُتناثر في عفوية، أختلسُ من أحاديثهم الطريفة وأوثق، لأرفع رصيدي في فنِّ المؤانسة إن عدتُ لمدينتي المرحة بالفال.
على مذاق الرُّطب، استعيد تلك التفاصيل الغابرة، فقد وصلتُ معها يومًا أقاصي تُخوم الانشراح.. تحية لأهل اتمر من أهل الحوت.
- سؤال خارج الموضوع: لمَ هذا النَّوع من الكتابة؟ - جواب: لأنه يمشي جنب الحيط، باردْ افمجبنتْ القانون الجديد، وذوق ولد مرزوگ حتمًا.
طاب المساء.