دونما زورق ولا آلة للرحيل اقترب الشاعر المختار السالم من الشاعر أدي آدب على سهل القوافي.. فكان اللقاء..
لقاء محقت فيه أزمة المطلع و تناءت المقدمات تحت سطوت لفيف جنود اللغة: ”أ” الاستفهامية الدالة على القريب والفعل الدال على المخاطب ”أتعلم” وأن سيدة القطع والحسم..
ويستمد اللفيف قدرته العجيبة من انتفاء المساحيق التي تطلي القبح وهي هنا مستبعدة بواسطة لا ومطرودة بإبعاد شبح الغلو والكذب “لا غُلوا ولا كذابا” و تكتنف كل ذلك وتعززه الجملة المتلازمة في البيت الأول:
أتَعْلَمُ أنَّـنِي إَنْ قُلْتُ شِعْراً
تَرَاني لَا، غُـلُوَّ، ولَا كِـذَاباَ
والتي لا تتيح إمكانية التباعد..
كل هذا جعل المشهد مشهد قرب على تناء، فاجتمعت حسرة الشوق لشاعر يغترب في صمت مهيب تناغم مع نشوة اللقاء..
لقاء رعته سورة قرآنية هي سورة النٌبإ التي نزلت استعظام لشأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان كفار مكة يتساءلون ويكيدون…..
ومنها استوحى الشاعر المختار السالم ليصوغ المفعول المطلق كذابا “(إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا)” وغيره من القافية البائية حيث ان فواصل سورة النبإِ بائية
(سَرابا ، مآبا ، أحقابا ، شرابا ، حسابا كِذابا عذابا ، أعنابا ، اترابا، كِذابا، حسابا ، خطابا ، صوابا، مآبا ، ترابا )
وتمشيا مع ذلك بدأ بالاستفهام اتعلم ؟ كما ان سورة النبإ تبدأ باستفهام “
“عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (“فالموقف موقف استعظام وتوعد بالذي لايتيح للشاعِر أدي ولد آدب ما هو أهل له لأنه الغريب القريب..
يأتي ذلك في مخزون لم شمل حسرة الشوق والتوعد بالحاقدين في ثوب النفي الذي منحته الجملة ”لا غلوا ولا كذابا“ للشاعر .. في استلهام
للموفق من سورة النٌبإ يلملم شتات الاختلاف في النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون حيث يتم الفصل “إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا” موقف فيه تفترق الأفواج ! فتبًا لِفوج الذين “وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا” وفتحا وذخرا للشاعر أدي “وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا” ولم لا ؟ ونحن أمة الذي هم فيه يختلفون وبقية طهر وللبقية في تراثنا كمسلمين ثراء “وبقية مما ترك آل موسي وآل هرون تحمله الملائكة:
فَنَحْنُ بَقِــيّةٌ مِن قَوْمِ طُــهْرٍ
يَـرَونَ الشِّعْرِ مُنْـتـَـبَذاً عُـجـَاباَ
أَخِـي يا الدِّي ابْـنَ آدُبَّ الـعَوَالي
إِلَيْكَ رِسَالَتِي.. حَرْفاً رِحَاباَ
أَخِـي إنِّــي أُحِسُّكَ فِي حُرُوفِي
دَمَاءُ النَّجْمِ لا تَـخْفَــى إِهاباَ
وإنِّــي إذْ أحِـسُّكَ للمَعَالي
ذُرَا نَبْعٍ قَد انسَكَبَ انْسِكَاباَ
لأعْرِفُ كَــمْ قَليل حِـيْـنَ تُــعْزَى
إَلَيكَ كَـواكِبُ الدُّنْـيَا صِـحَاباَ
يطوف الشاعر المختار السالم بسورة النبأ جاعلا من إدي ومن في ركابه من أمته مصدر ارتقاء” يا ابن العوالي ،دَمَاءُ النَّجْمِ لا تَـخْفَــى إِهاباَ ، احسك للمعالي ، “يقي سبيل المكذبين كِذابا:
فَنَحْنُ بَقِــيّةٌ مِن قَوْمِ طُــهْرٍ
يَـرَونَ الشِّعْرِ مُنْـتـَـبَذاً عُـجـَاباَ
أَخِـي يا الدِّي ابْـنَ آدُبَّ الـعَوَالي
إِلَيْكَ رِسَالَتِي.. حَرْفاً رِحَاباَ
…إنه ارتقاء يتسامى على مرارة الايام فيما تعنيه الكلمة “بقية” فقد سقطت دول، ونامت أحلام؛ لكنها تأبى الدياجر لأنها مرتبطة بالطهر “بقية طهر” وهي بقايا يكتنفها حرف رحب “إليك رسالتي حرفا رِحابا“
حرف يستكنه مٌثل وحضارة أمة، ما كان لها أن يكون أدي آدب فيها غريبا مهاجرا..
مشاعر تتدفق غيظا مطمورا.. تنسكب بمقدار تدفق عطاء الشاعر أدي وما في مكنون الشاعر المختار السالم من ود عبر عنه الفعل الدال على المطاوعة “انسكب"
هنا تتراكم مجموعة الصور التقابلية ذات الإيحاء بالتوعد والتفاؤل على منوال الجمع بين المكذبين وغيرهم في سورة النبإ حيث “إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا”.
وحيث كانت جهنم للمكذبين بعطاء الأمة ممثلا في الشاعر ادي… " إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِّلطَّاغِينَ مَآبًا”.
.. يتآكل الغضب وسط عنفوان الاحلام الخارجة من كبوة الزمن وعناد التاريخ؛ ليخرج الأمل من بين ثنايا النسيان ولِيبعث على خلود المواقف في رحلة الإباء والشموخ التي أسرج الشاعر أدي والشاعر المختار السالم قوافيهما إليها منازعين ناقة طرفة بن العبد :
“ تباري عتاقا ناجيات وأتبعت
وظيفا وظيفاً فوق مور معبد”
..اسراب قواف ما احترفت النفاق ولا الغلو :
وأنْتَ الشَّاعِرُ الـمــَسْكُونُ صَـحْواً
عَلَى صَـحْوٍ، وَعَنْ جِـيْلٍ أَنَاباَ
عندئذ يكسوه درع الإنابة .. في استمطار الغفران لجيل تغني الشاعر نيابة عنه بالقدس قدسا كما بغداد والأندلس
وَعَن جِيلٍ تَغَنَّى القدْسَ قُـدْساً
يُبَايِـعُ في قَضِيَّـتِـها الكِــتَاباَ
فأضْحَى نَبْضُهُ للقُــدْسِ سُوْراً
وأمْسَى في دُجُــنَّـتِــها حُـبَابَا
وَسَوَّرَ عَــهْدَ بَـغْدَادٍ نَـخِيْلاً
وأسْمَعَهَا قَصَائدَهُ العِــذَاباَ
وَكَمْ أفْضَى لَأَنْدَلُسٍ بِبُشْرَى
سَنُـرْجِعُها وَلَو طَالَتْ غِــيَاباَ
ومن ثم شدا حتى تحول حريق المنفي إلي انشودة في إشارة إلى ما حِققه هذا الشاعر من فخر لامة لم تمكنه من أن يلامس حصاها في عز عيش إلا لماما:
إِلَى الزَّمَنِ “الـمُحَـرَّقِ” بَاتَ يَشْدُو
لتُـصْبِحَ جَـمْرةُ الـمَـنْـفَى رُضَاباَ
وَفِي أنْشُودَةِ الـمَـــنْفَى تَسَامَى
عَلَى الآفاقِ أزْجَـلَها لُبَاباَ
وأزْهَرَ وَرْدَةَ الـمَعْنَى جُذُوراً
فَلَـمْ يَـقْبَلْ لثَــمْـرَتِــهَا اسْتِلَاباَ
وإنَّ الدِّي لشَاعِـرُنَا الـــمُــعَـنَّى
بِـمَا هَــمَّ الـمَــفَازَةَ واليَبَاباَ
وَمَا هَــمَّ العُرُوْبَةَ من عَنَاءٍ
وأحْنَاهَا وأذْوَاهَا مُصَاباَ
بـَــكَى فِيــهَا مَـعَــزَّةَ أنـْبِـيَاءٍ
بـَــكَى فِيــهَا الصَّوامِعَ والقِبَاباَ..
وَسَعْداً والـمُثَنَّى.. و”النَّشَامَـى”
وأيَاماً أخِذْنَ بِـــهَا غِــلاَباَ..
ولم يَنْسَ الرُّبى زِرْيَابُ فِيــهَا
يُعَتِّقُ للصَّدَى لَحْناً رَبَاباَ
يكتسي التنبؤ أهميته في المقطع التالي من القصيدة وهي الغارقة في إيحاء سورة النٌبإ ..
تنبؤ بموجبه ينتصر الخير علي الشر (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا) وفي خضم هذا التنَبؤ يحل بالمتناكِرين المتغافلين عن هذا الشاعر ما حل بالمتسائلينَ عن صدق الرسول الاعظم ؛ فتاتي الصور تترى.
ولذلك استحضر الشاعر الماء ضمن صوره التقابلية فجاء بالسراب مقابل الماء في استغراب توعدي:
وَحَـيْـنَ “تأبَّطَ” الرَّجُلُ القَوَافِي
وّأَجْزَلَ فِي خُطَى الـمَـعْـنَى رِئَاباَ
وَأَعْلَى الأَهْلَ ذِكْراً فَوقَ ذِكْرٍ
وأرْجَعَ أمْرَهُـمْ أمْراً شَبَاباَ
تَوَاصَوا بالنَّكِـيـرِ!.. فـَـأيُّ قَــوْمٍ
أضَاعُوا الـمَـاءَ واسْتَسْقَوا سَرَاباَ
وبما أن الماء أصل الحياة وباعث علي استمرارها جاءت أطراف التشبيه لتخدم الصراع بين الخير والشر فالشٌاعر الدي هو الماء.. هو الحضارة ، بمكنُوناتها ، وبه تستعيد الامة شبابها :
وَأَعْلَى الأَهْلَ ذِكْراً فَوقَ ذِكْرٍ
وأرْجَعَ أمْرَهُـمْ أمْراً شَبَاباَ
وأي امة تضيع مثله إنما تضيع شبابها..
ولا تفتأ الصور التقابلية تتدفق لتنسج الدراما الضاربة في أعماق التخيل والتخييل فمن التقابل بين السراب والماء إلى التقابل بين الأسود والذباب
وقد يجفو اسود معرة
من تراه مدح الذبابا
هنا يتم كشف المستور فأنتم تجفٌون الأسود من امثال الذي آدب وتَصطفون الذباب وكان معرض أكسو دبي حاضر إلي حد ما في القصيدة أو كأنها تستحضر ما هو أسوأ من تناس للمبدعين وَتعليف الذباب.
تَنَاسَوا بَالتَّــنَـاكُــرِ لَــيْثَ عِــزٍّ
وَمدُّوا للذُّبَابِ القَشِّ نَاباَ
تأتي خاتمة القصيدة مفعمة بالصراع المنبعث من الصور التقابلية التي تحيل إلي الضياع والخروج منه بقوة المنتصر..
يتعزز مفهوم الضياع من خلال وحي (التواصي بالنكير في البيت الواحد والاربعين وتراكم الفاظ الضياع بعد هذا البيت (أضاعوا الماء أضاعوا حق شاعرهم شاعرهم:
تَنَاسَوا بَالتَّــنَـاكُــرِ لَــيْثَ عِــزٍّ
وَمدُّوا للذُّبَابِ القَشِّ نَاباَ)
غير أن التنبؤ بعظيم يثنيك عن الجثُو في تابوت الضياع فهذا الكنتي حفيد عقبة بن نافع سيظل أقوى وبذلك تنصر إرادة الخير على الشر كما انتصر الرسول الذي جفاه مشركو مكة وذلك في سورة النبأ ذات الصلة الوجدانية بالقصيدة حيث كانت صيغة فِعال هي قافية معظم أبيات القصيد ة كما كانت تلك الصيغة خاتمة لبعض الفواصل في سورة النبإِ:
ولكنْ بالفَتَى “الكُــنْـتــِـيِّ” كَانَتْ
شعيرةُ بيْـرَقِ العَلْيَا نِــصَاباَ
ألا إنَّ ابنَ عقبة مَجْدُ قـَوْمٍ
وَتَارَيْــخ تَـرَفَّــعَ أنْ يُــذَاباَ
سَيَــبْقَى فَــوْقَهَا هَرَماً أصِيْلاً
ويَــبْقَـى مِن ذَوِي القُرْبَى قُـرَاباَ
وإنَّ مَقَالتِي لَلأَهْلِ أنْ لَا
شِفَاءَ لِـمُخْبِتٍ وَهَجاً رُهَاباَ
فكَـمْ ضَاعَ الغَبيُّ إذاَ تَذَاَكى
وَكَــمْ فَازَ الذَّكِــيُّ إِذَا تَغَابى.
في خروج على المألوف.! وعتوا على عنوسة الأدب، يبحر الشاعر المختار السالم من المحيط إلى الخليج حيث مهجر الشاعر أدي.. في دراما أدبية تتنازعها تراويح الشعر حيث المسرح الزمني للقصيدة هو العشر الأواخر من رمضان ، وختم القرآن في آخر صلاة تبدأ بسورة النٌبإ – مع إخفاق الواقع تراويح شعرية وجدانية نأت به عن أن يمدح غلوا أو كِذابا.
في طرح صقيل للصراع بين الخير والشر وتصور انتقائي لمأساة هجرة العقول التي تعانيها البلاد والتي قد يكون أدي آدب أفضل نموذج لها.