بدأ الصائمون من مختلف الأعصار والأعمار التوجه صوب خيمة تاتي بنت الولاية، بعدما شاع وذاع في الحيِّ أن "عصر لسياد" يقدمون عرضاً لمسرحية جديدة، وازداد طلب الحضور على إعادة الجزء الأول المتعلق بمحاكاة الإمامين سيد محمد بن النجيب وامحمد بن اسنيد، ولبَّى الشاب الموهوب "التاه بن حلاب" رغبة الجمهور، وأعاد المشهد عدة مرات بإتقان،فتمكن من تقمص الشخصيتين، ووفق في أداء موسيقى الشعر وفقا لأغباديهما، ثم قرر "لسياد" تأجيل عرض الجزء الثاني من المسرحية إلى الليلة الموالية، وذلك لإعطاء صديقهم التاه الوقت اللازم لتمثل الشخصيات من جهة، وحتى يتوصلوا بردود الفعل الأولية حول المسرحية من جهة أخرى.
طلبت "تاتي" من "بل بن ديد" أن يكتب لها النصوص الشعرية التي تم اختيارها، فسلمها الورقة التي كانت عند صديقه "التاه"، وأوصاها الفتية بأن تثير موضوع المسرحية مع كوم عصر "لِغْفَالَ" ، ثم سألتهم عن الشخصيات الجديدة التي ستكون حاضرة في المشهد الثاني، فعارض "التاه بن حلاب" الإعلان عنها، متعللا بأن التكتم عليها يدخل في سياق التشويق الضروري لنجاح المسرحية.
يضم عصر "لِغْفَالَ" شخصيات علمية متميزة، كالشيخ العالم سيد محمد بن عبدالرزاق، والإمام امين بن الداهي والرئيس محمد بن الشاه، والسادة الفتيان أوْفَّى ومحمدن بن فال وأحمد سالم بن دمين، إضافة إلى الصالح العابد أحمدُّ بن ممَّد الملقب احْمَيْدْهَ كانوا يتخذون من خيمة "تاتي بنت الولاي" مقراً دائماً لاجتماعاتهم ومكتبتهم ومجالسهم العلمية، ولم يكد السيدان "أوْفَّى" و"محمد بن الشاه" يشربان الكأس الأولى من الشاي، حتى أخبرتهما "تاتي" عن سهرة "لسياد" وبالغت في طرافتها وجدتها، ثم سلمت "أوفى" الورقة التي تضم الأشعار، وهي تضحك من إتقان "التاه" لمحاكاة الشخصيتين، فقرأ "أوفى" الورقة وهو مستلق على جنبه، ثم استوى جالساً ونظر إلى صديقه قائلاً تالله إن هذه الطرفة لهي أحسن ما سمعته بعد صوم يوم شاق من أيام الشعرى، ونوه بجودة المختارات الشعرية وبتناغمها مع الشخصيات المختارة، كما أكد "محمد بن الشاه" أن التراويح الشعرية تعتبر إبداعاً لم يسبق له هؤلاء الفتية، ثم سألها "أوفى" عما إذا كانت هناك سهرة أخرى، فأخبرته بأنها سمعتهم يتحدثون عن جزء ثان لكنها لم تعرف أسماء الشيوخ الذين ستجري محاكاتهم، ثم سألها "محمد بن الشاه" عما إذا كانت سمعت أبياتا من النصوص التي اختيرت للمشهد الثاني، فهزت رأسها بالنفي، فأردف قائلا: لا أظن أنهم سيخرجون عن قصائد امرئ القيس فشعره غزير وجميل وقد افتتح به الأعلك كتاب الست، كما أنه يشتمل على العديد من القصائد الجميلة التي يسهل حفظها، ظل "أوفى" صامتاً يفكر، ثم خاطب "تاتي" قائلاً: من الذي قام بانتخاب الأشعار؟ فقالت له لا أعلم ولكن بل بن ديد هو الذي أعطاني الورقة، فمد يده إلى كناش سيد محمد بن عبدالرزاق، واستل منه ورقة خضراء كانت في الماضي غلافا لقالب سكر، وأخرج قلم حبر جاف أزرق من جيبه، استعار من "تاتي" مصباحها الصغير الذي تعمل عليه أحيانا في الليل، فقال له محمد بن الشاه وهو يمازحه: "هَيَ الله انْتَاكْذِنْ" انْتَ يخي اشْهَامَّكْ؟ لا أظن إلا أن اتْجَوْجِينْ ذُو التِّرْكَ قد أيقظ مواهبك الدفينة، فابتسم "أوفَّى" وهو يواصل الكتابة.
لم يكد "التاه بن حلاب" ينهي غسل عدة الشاي، حتى غير ملابسه وخرج مسرعاً من منزل آل أكمجتمين، موليا وجهه قبل المشرق، فقد اكد عليه رسول الأستاذ أن يأتيه بعد الإفطار مباشرة، ثم جالت في رأسه أثناء الطريق عدة أسئلة؛ ترى متى قدم الأستاذ إلى القرية؟ ولماذا طلب منه الحضور بسرعة؟ وماهي المهمة التي يريد تكليفه بها؟ وما طبيعتها؟ لم يجد التاه أجوبة لأسئلته، فواصل سيره نحو بيت الأستاذ وهو يردد بصوت خافت يحاكي فيه طريقته في الكلام: لساعة في مجلس الأستاذ أحب إلي من حمر النعم.
بعد أداء صلاة التراويح، التأم عصر "لسياد" عند أهل امين بن أكمتمين، واقترح عليهم عبدو بن بكي ممارسة رياضة المشي خارج الحي، فرحبوا بفكرة "تِطْيَاحْ لُفْطُورْ" وقد كان أحد الطقوس الرمضانية الاعتيادية عند أهل انيفرار، ولما أجاز الفتية ساحة الحي، بدأوا يناقشون ردود الفعل الأولية التي وصلتهم حول المسرحية، حيث أكد عبدو بن بكي أن أهل السطارة قد اعجبوا غاية بمحاكاة "التاه" ل " دداه"، وهو نفس الانطباع الذي تركته لدى ساكنة حي "مدينة" ثم خاطب عبدو صديقه بل قائلا هل وصلك شيء من الكوم؟ ضحك بل وهو يشعل سيجارة كان أخرجها من جيبه، ثم فتح ورقة زرقاء، والتفت إلى "التاه" قائلا: لقد اقترح علينا "أوفّى" أن نضيف شخصية من عصر "الغالبين"، وبعث إلينا أبياتاً جميلة تتناغم معها، والغريب أننا لم نفكر إلا في شخصيات من عصري "الوسط" و"لمغيسل"، ثم أردف قائلا لقد أكدت لي "تاتي" أن لغفال أعجبوا بالفكرة، فهل يمكنك عزيزي اتَّاه محاكاة الشخصية التي اقترحها لغفال؟ قاطعه "التاه" قائلا، هل علمتم أن الأستاذ أحمد سالم بن سيد محمد بن النجيب قد استدعاني الليلة وطلب مني أن أروي له موضوع المسرحية، فقد سمع عنه اليوم في حانوت "صوماهيل"، فقاطعه بل قائلا ومتى قدم النيد إلى الحي؟ فأجابه التاه بأنه قدم البارحة في وقت متأخر من العاصمة، وأردف قائلا إنه تردد أولا في إطلاعه على الموضوع، لكنه فهم من لغة جسده أنه معجب بالمبادرة، فأخبره عنها بالتفصيل، وقد نوه بالفكرة وبالاختيارات الشعرية، لكنه طلب مني أن أضيف مقطعا يرى أنه سيكون منسجما مع طبيعة شخصية من عصر "الحافظين" ثم أخرج من جيبه ورقة من دفتر مدرسي، فبادر بل بن ديد إلى سحبها من يده، وهو يقول " التَّاهْ حَكَللَّ لاَ اتْكُولِنَّ مِنْهُ لَيْنْ نَعِرْفُوهْ مِنْ لَبْيَاتْ" ثم فتح الورقة ولم يكد يصل إلى البيت الأخير حتى صاحوا بصوت واحد هذا الشيخ افلان.
ارتاح الأسياد لإجازة عصري "لغفال" و"الفتيان" للمسرحية، وقرروا عرض الجزء الثاني، في انتظار أن يبدأ "التاه" التدريب على الشخصيتين الجديدتين، ثم اتفقوا على تغيير مكان العرض، فاختاروا ساحة تقع وسط الحي، وما إن وصلوها حتى، بدأ المتفرجون من مختلف الفئات العمرية يتقاطرون على المكان، فلقد أخبر الغائب الحاضر وندم الذين لم يحضروا بالأمس، وفجأة سمعوا صوت قراءة جهرية يقترب صاحبها منهم، فلم يترددوا في أنه الشيخ الحافظ محمد فال بن محمذن انَّا، فقد كان من عادته المرور بالساحة بعد أدائه لصلاة التراويح مع الشيخ محمذ باب بن داداه، ساد الصمت بين الفتية بعدما اقترب القارئ منهم، وكانت ملامحه البادية تحت ضوء القمر تؤكد حدسهم، فقد كان رجلا ربعة القدر يضع رداءه الأسود على منكبه الأيمن، ويشبك يديه خلف ظهره، ويمشي الهوينى، ومع اقترابه منهم وقفوا جميعاً للسلام عليه، لكنهم غيروا رأيهم لما سمعوه يقرأ قول ذي القروح:
ألما على الربع القديم بعسعسا * كأني أنادي أو أكلم أخرسا
فلو أن أهل الدار فيها كعهدنا * وجدت مقيلا عندهم ومعرسا
فلا تنكروني إنني أنا ذاكم * ليالي حل الحي غولاً فألعسا
فإما تريني لا أغمض ساعة ** من الليل إلا أن أكب فأنعسا
تأوبني دائي القديم فغلسا * أحاذر أن يرتد دائي فأنكسا
فيارب مكروب كررت وراءه * وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
ويارب يوم قد قد أروح مرجلاً ** حبياً إلى البيض الكواعب أملسا
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه * كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
ضحك الجمع، واستمتعوا بمهارات "التاه" وقدرته الفائقة على تقليد صوت وحركات الشيخ محمد فال بن محمذن انا وطالب بعض الحضور الذين فاتهم العرض بالأمس بإعادته، فلبى لهم "التاه" الطلب لأنه كلما أعاد المشهد تمكن أكثر من الإحاطة بتفاصيل الشخصية، ثم تركهم وذهب لكي يستعد لتقمص شخصية جديدة.
يتواصل بإذن الله
يعقوب بن اليدالي