كنت ولا زلت أكره التجارة وأمقت البيع والشراء، ولعل بعض الزملاء في هذا العالم الأزرق من رفقاء الدراسة يتذكرون أني كنت أدعو الله أيام الجامعة - كلما تناقشنا حول طموحات المستقبل - أن لا يجعل رزقي في التجارة، لكن الحمض النووي يفشل أحيانا في نقل بعض الصفات أو الميول النفسية من الآباء إلى الأبناء، وتلك مسألة تقتضيها حكمة الله في تكريس اختلاف طبائع ورغبات البشر التي لو توحدت لما أمكنت الحيات التي تقوم أساسا على سنة التدافع وقوانين التداول والتبادل.
وعلى ذكر التجارة، فقد قررت مدرسة الصغيرة سعداني إجراء تجربة تستمر لمدة يومين، وتهدف إلى تعليم البنات الصغيرات في الصف الثالث، مبادئ التسيير التجاري من شراء وبيع وتعامل مع المورد والزبون و إقناع المشتري السلعة، ومناقشته في السعر، وأخذ الثمن منه، وإرجاع الباقي له، وما إلى ذلك من الشؤون التجارية والمحاسبية الهادفة إلى معرفة مدى قدرة الطالبات على التعامل مع الشؤون المالية بشكل منطقي وسليم.
عارضت بداية الأمر مشاركة الصغيرة في التجربة استنادا إلى العامل الشخصي سالف الذكر أولا، وثانيا، خوفا من إحباط الصغيرة إن لم يقبل المشترون على معروضاتها، أو لاحظت إقبالا أكبر على بعض زميلاتها مما قد ينعكس سلبا على نفسيتها.
بعد الحاح شديد من الصغيرة، وافقت مكرها على الفكرة التي كانت تقوم على دفع كل مشاركة لمبلغ 100 درهم لتأخير محل العرض والطاولة التي يتم بسط العروضات عليها، أما السلع المعروضة فترك للطالبات حرية اختيارها على أن تتراوح أسعار القطع بين خمس دراهم كحد أدنى وعشرة كحد أعلى لكل قطعة
كان من بين بنود التجربة أن يمنح ولي الأمر لابنته المشاركة حرية اختيار السلع التي ستبيع وعددها، لتقييم مدى الرشاد في تصرف التاجرة الصغيرة
سلمت للصغيرة بطاقة بنكية وعدت إلى السيارة بعد أن أدخلتها أحد المحال التجارية المعروفة بتنوع معروضاتها وارتباطها برغبات الأطفال.
بعد نصف ساعة تقريبا وصلتني رسالة من البنك تفيد بخصم مبلغ 965.37 درهما من البطاقة.
عرفت على الأقل أن عملية اختيار السلع شرائها قد تمت بنجاح ولو أن حجمها كان مبالغا فيه كثيرا، وهو ما يطرح أول تساؤل يشكك في موضوع الترشيد الاقتصادي، لكن لا بأس فربما تحسن التصرف في عملية البيع فيكون العائد مضاعفا
نهاية اليوم الأول من التجربة التجارية عادت الصغيرة فرحة مسرورة مدعية أنها استطاعت التصرف في أكثر من نصف السلع المعروضة لكنها أصرت على عدم الكشف عن حجم المبيعات إلا في نهاية اليوم الثاني بعد انتهاء التجربة متعللة بعدم الكشف عن حجم المفاجأة التي ستصعقنا بها حال عرض النتائج الاقتصادية للتجربة بشكل مفصل
احترمت رغبتها وتفهمت مبرراتها وانتظرت نهاية اليوم الثاني بفارغ الصبر وأنا أنتظر استعادة رأس مالي على أن تحتفظ الصغيرة بالأرباح كما تنص على ذلك قوانين التجربة حسب منظميها
نهاية اليوم الثاني عادت الصغيرة وهي تقفز من الغبطة لتعلن نجاح التجربة والتخلص من كل المعروض
شعرت بفرحة غامرة إذ عرفت أن موضوع الإحباط الذي كان يقلقني قد تلاشى وهي مسألة بالنسبة لي في غاية الأهمية، لكن، ماذا عن النواحي التجارية، دورة رأس المال، تقرير الأرباح والحسائر ؟
قلت لها حسنا، أبارك لك هذا النجاح الباهر على ما يبدو، لكن حان الوقت لنلقي نظرة على الأرقام،
لم يفاجئها السؤال بل أجابت بكل ثقة، نعم بالطبع وأخرجت محفظة نقود صغيرة كانت تستقر في قاع حقيبتها المدرسية ومدتها إلى قائلة : ستجد مع النقود ورقة كتبت فيها حجم المبيعات في اليوم الأول وحجمها في اليوم الثاني ثم المجموع النهائي
دون عد النقود التي كانت كلها من الفئات الصغيرة، درهم، خمسة، عشرة، فتحت الورقة المطوية بعناية وقرأت
البيع في اليوم الأول 113
البيع في اليوم الثاني 94
المجموع 207
تمعنت في الأرقام وأنا أجمع ذهنيا تكلفة المشروع التي قاربت 1100 درهم، وتمالكت ضحكة كادت تنفجر ثم قلت مبتسما، أحسنت حبيبتي، و استدركت قائلا : أريدك أن تشرحي لي كيف استطعت بيع كل تلك الأغراض؟ فقالت: لا يا بابا، أنا لم أبعها كلها، لقد أعطيت بعضها لإحدى زميلاتي (من دولة عربية منكوبة) حيث كانت طاولتها تضم القليل من الأغراض فأحببت أن أساعدها، وكنت اعطي الأغراض مجانا للأطفال الذين لا يملكون نقودا، وأعطيت بعضها كهدية للمدرسات والعاملات في المدرسة، وفي نهاية اليوم الثاني تبرعت بالباقي لصندوق الهلال الأحمر في المدرسة
وبقدر ما كانت التجربة فاشلة من منظور الربح والخسارة، بقدر ما كانت فرحتي عارمة بالتصرف الفطري السليم للصغيرة
احتضنتها وقلت لها مرة أخرى أحسنت حبيبتي، فقالت هل يمكن أن أشارك في هذه التجربة كلما أعلن عنها، فقلت: أرى أن تركزي مستقبلا على الدراسة بدل الانشغال بمشاكل التجارة، فقالت بنغمة طالما نجحت في ابتزازي بها: ولكنها يا أبي كانت تجربة ممتعة وأود أن أكررها السنة المقبلة.
الصورة من موقع المدرسة، وتظهر الصغيرة وهي تبيع على ما يبدو لتلميذة من إحدى الجنسيات الآسيوية.