
محمد السالك إبراهيم
رغم أنه يعد من رواد الصحافة الحرة، حيث أسس مع زملاء له صحيفة "موريتانيا الغد" أو Mauritanie Demain في نهاية الثمانينيات، والتي ربما تكون أول صحيفة حرة في التاريخ الموريتاني المعاصر، فإن أمبارك ولد بيروك الملقب شيْخو عَلَماً، قد أشتهر أكثر ككاتب وأديب موريتاني يكتب باللغة الفرنسية*.. وقد نشر هذا الكاتب الذي هو من مواليد سنة 1957 في مدينة أطار، عددا من الروايات ومجموعة من القصص القصيرة، حصل بعضها على جوائز دولية مثل الجائزة السويسرية للأدب التي يمنحها سنويًا معرض جنيف الدولي للكتاب والصحافة، وتحمل إسم الروائي الإيفواري المبدع "أحمدو كروما". وقد فازت بهذه الجائزة سنة 2016 رواية بيروك المعنونة "طبل الدموع" أو Le Tambour des larmes الصادرة عن دار ELYZAD في تونس سنة 2015.
وقد نشر بيروك منذ روايته الأولى بعنوان "ونسيت السماء تمطر"، الصادرة عن دارDapper سنة 2006، حتى الآن عدة روايات من أبرزها "إيگيوْ الأمير، 2013"، و "طبل الدموع، 2015"، و"أنا..وحدي، 2018"، و"صمت الآفاق 2021"، و"المنبوذون 2021".
في كل هذه الأعمال الأدبية يكرس المؤلف إبداعاته بالكامل لمجتمعات الصحراء وثقافة شعوبها ومفردات حياتهم اليومية سواء كانوا من البيظان أو الطوارق أو التبو.. هذه المجتمعات العالقة - حسب تعبير المؤلف- بين عالمين متناقضين ومتصارعين هما الصحراء/التقاليد والمدينة/الحداثة.
ولطالما اعتقد الروائي بيروك، بأن "فيكتور هوغو" كان شاعرا بدويا مثل إمرئ القيس أو طرفة بن العبد. وقد صرح بيروك ذات مرة في إطار برنامج أدبي لإذاعة فرنسا الدولية بأن "والده كان مدرسًا في المدرسة الإستعمارية، حيث قام بتدريس مادة اللغة الفرنسية. وقد أحب كثيرا هذه اللغة التي كان يعتقد بأنها يمكن أن تكون سلاحًا لنيل الحرية". لكن والد الكاتب بيروك رغم كونه محبا للفرنسية، إلا أنه كان مناهضًا بشدة للإستعمار. ولعل هذا كما يقول الكاتب عن نفسه: "هو ما صاغ شخصيتي منذ أول كتاب قرأته باللغة الفرنسية. عندما أعطاني والدي رواية "البؤساء" لـ فيكتور هوغو، الصادرة سنة 1862". يقول بيروك: "لقد فتنتني تلك الرواية وجعلتني شغوفا باللغة الفرنسية وبفيكتور هوغو على وجه الخصوص.. وذلك الشغف لم يغادرني أبدا.. "
وكما في جميع رواياته، ظلّ بيروك يتناول بالتمحيص هموم المجتمعات التي تعيش في المجال الصحراوي عموما، مُركزا على إشكاليات التحولات المجتمعية والثقافية المختلفة خاصة في موريتانيا المعاصرة.
فمثلا، نجد أن الكاتب بيروك في روايته الرائعة "ونسيت السماء أن تمطر" التي صدرت سنة 2006 عن دار Drapper في فرنسا ثم عن مكتبة القرنين 15/21 في أنواكشوط، يطرق إشكالية التوتر والصراع بين التقاليد القديمة ونداء الحداثة في المجتمع الموريتاني المعاصر. لكنه يعالجها دائما من خلال سرد روائي غاية في التشويق، مستطردا جاذبية الصحراء وسحرها الغامض، ومفككا التحولات المجتمعية الكبرى لساكنتها من خلال ملحمة الخروج من الإستعباد إلى الحرية التي تنتهي بمأساة بالنسبة لإثنين من أبطال الرواية هما "محمود" العبد الهارب الذي أصبح موظفا يشغل منصب مدير الأمن المتغول، و"اللوله" تلك الحرطانية الفاتنة التي هربت ليلة زفّها إلى "بشير" شيخ قبيلة "أولاد عيّاط" في نجوع "الگلب"، لتتحرر تلك الفتاة في المدينة وتلتقي بمحمود الذي اشترطت عليه للزواج بها أن ينتزع وثيقة تطليقها من زعيم القبيلة "بشير" المتغطرس، في رمزية واضحة للصراع بين فئات المجتمع وطبقاته.
إنهم أبطال هذه الرواية.. وهم ثلاثة شخوص "اللوله" و"محمود" و"بشير".. يمثلون أصواتا مدوية وسط الرمال وفي قلب المدينة، يجيب كل منهم على تساؤلات الآخر المُلحّة.. .. إنه حوار ساخن حول مسائل تتعلق بالحياة، والموت، والرغبة.. ثلاثة شخوص بمشاعر متناقضة يرسمون قصة متعددة الألحان خالدة وعابرة للحدود..
تأخذ الرواية مظهر حكاية فلسفية و رمزية تثير بكل وضوح، أسئلة إنسانية جوهرية: هل ينبغي أن يستسلم الإنسان بصمت لمصير يضرّه؟ بحجة أنه لا يستطيع الهروب منه، وأن هذا هو المصير المحتوم؟ أم على العكس، لا بد من التمرد حتى لو كانت ثورة مليئة بالرعب، وستنتهي حتما بموت مؤلم وقاس؟ كما في حالتي بطلي الرواية محمود واللوله!
وعلى طول متن الرواية، وهي من حوالي 150 صفحة، يمنح الروائي المتميز بيروك الفرصة بالتناوب، لأبطاله الثلاثة إضافة إلى مولاي وهو المجنون-الحكيم في حي أولاد عيّاط، لسرد هذه الملحمة/المأساة المؤثرة التي تحدث وسط الصحراء وتحت سمائها المكفهرة بالغبار وأرياح السموم، والتي تجد فيها المشاعر الإنسانية تعبيرًا شديد الإنتيابية والتناقض: الغضب والكراهية، والتمرد إلى جانب الصداقة أو الحب، والإشمئزاز والرغبة في الإنتقام.
تعبر الرواية عن كل هذه المواضيع الخالدة بلغة فخمة، غنائية وحازمة، تأخذ فيها كل كلمة مكانها الصحيح. يُظهر الروائي "بيروك" موهبة رائعة لإبراز صراع الأفكار والأوضاع البشرية، في صورة الطبيب النفسي الذي يطل على ميدان "حرب الأعصاب" بين أبطال روايته، للتحدث بشكل مناسب عن هذا العالم الذي يتميز في نفس الوقت بأنه جميل ورهيب، وعنيف، ورائع لكنه بدون شفقة.
ومن أجل القيام بذلك، يستدعي الروائي مفردات غنية ومتنوعة وموغلة، ولكن يتم استخدامها دائمًا بحكمة وبدون رغبة في خلق تأثيرات عبثية، بل فقط لسرد هذه القصة القوية على أفضل وجه ممكن، جميل وقوي في آن واحد..
ويجد دائما الكاتب بيروك من المفردات ما يناسبه تمامًا لإعطاء فكرة ما، كامل أبعادها وعمق دلالتها.. وها هي الكلمات الأولى للفتاة الهاربة المتحررة اللوله تقول: "لم تبتلعني الأمواج.. لم أقدم عذريتي لتهدئة شهية الوحش.. لم أنحن أمام أحكام السماء، ولا عواصف الزفير، ولا الأوامر التي يصدرها الأئمة في الصباح الباكر .. لقد رفض جسدي قيود الأمس الزائلة كما يرفض اليوم أوهام الهوى المهتزة.. أنا اللوله.. ولن أسجن نفسي في الخيام البيضاء لأسياد الرمال ولا في المنازل الفخمة لسكان المدينة"..
هكذا تشهد الجُمل الإيجابية والسلبية ببلاغة على التصميم الكبير لشخصية البطلة، وشجاعتها النادرة.. وهو مزاج دفعها للهروب من الرغبات الشهوانية لبشير الرهيب زعيم أولاد عيّاط كرمز للإستبداد والمحافظة على قيم تملك الجسد الأنثوي وتشييء المرأة..
أما عنوان الرواية "ونسيت السماء أن تمطر" فهو مأخوذ من عبارة كان يردّدها "مولاي"، ذلك المجنون-الحكيم في أفريگ قبيلة أولاد عيّاط، مُحذرا -في نهاية الرواية- أهل لفريگ المتحمسين للفتك بالشابة "اللوله" التي قررت مواجهتهم بجسدها الجميل العاري، وهو يصيح فيهم: "الويل لكم جميعا.. لا تقتلوا بقرة الرب.. وإلا فإن السماء لن تمطر أبدا على مرابعكم القاحلة"..
يبقى أن نشير إلى أن رواية أخرى الكاتب بيروك هي "صمت الآفاق" كانت مُرشحة هذه السنة لجائزة هيئة Orange المخصصة لتكريم الكتاب في إفريقيا. وقد وصلت الرواية إلى المراحل الأخيرة من التصفيات من بين 6 روايات أخرى.. وكلنا أمل في أن تنال هذه الرواية الموريتانية كل ما تستحقه من تكريم رفيع إعترافا بمستواها الإبداعي وبقيمتها الأدبية العالمية.
محمد السالك ولد إبراهيم،
مقال منشور في العدد 002، من مجلة الثقافة الموريتانية، الفصل الثالث، لسنة 2022
*أعيد نشر هذا المقال احتفاء بالروائي بيروك بمناسبة صدور كتاب الناقدة الفرنسية برناديت رويز عن أعماله الروائية، في باريس مؤخرا..
** الصور:
- غلاف العدد 002/2022 من مجلة الثقافة الموريتانية، المتضمن مقالي عن الروائي بيروك، بعنوان: "الروائي بيروك: هوغو الموريتاني"؛
- غلاف كتاب "امبارك ولد بيروك: عن الصحراء وعن الرجال" للناقدة الفرنسية برناديت، عن الأعمال الروائية لبيروك؛
- صورة جماعية تضم الناقدة برناديت والروائي بيروك وكوكبة من المثقفين أصدقاء الروائي، داخل مكتبة-فضاء موريتانيا والصحراء لصاحبها الباحث و الأديب والدبلوماسي والإطار المالي أحمد محمود(جمال) ولد أحمدو.

