
نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية تقريرًا ميدانيًا مطولًا عن مدينة شنقيط التاريخية شمال موريتانيا، حمل عنوان «الرجل الذي يسعى لإنقاذ مدينة المكتبات من الرمال الزاحفة».
يسرد التقرير، الذي أعدته الصحيفة من قلب الصحراء الكبرى، قصة رجل موريتاني سبعيني نذر نفسه للحفاظ على التراث العلمي والديني المهدد بالاندثار في واحدة من أعرق المدن الإسلامية في إفريقيا.
سيف الإسلام… حارس الذاكرة الموريتانية
في ظهيرة صحراوية حارقة، يدخل سيف الإسلام، البالغ من العمر 67 عامًا، باحة مكتبة أهل أحمد محمود الوقفية في مدينة شنقيط، مرتديًا دراعة زرقاء مخططة بخطى واثقة رغم بطئها، ويجلس على حصير يدوي متواضع، إلى جواره مصحف قديم تعود صفحاته إلى القرن العاشر، وقد اسودّت أطرافها بفعل الزمن.
يقول سيف الإسلام في حديثه للغارديان وهو يربّت على لحيته :
“هذه الكتب هي التي منحت شنقيط قيمتها وتاريخها. من دون هذه المخطوطات القديمة، لكانت المدينة نسياً منسياً مثل أي بلدة مهجورة أخرى.”
ويُعد سيف الإسلام، المتحدر من أسرة شنقيطية عريقة، أمين مكتبة أهل أحمد محمود الوقفية، وهي واحدة من مكتبتين فقط لا تزالان مفتوحتين للعامة في المدينة التي أدرجتها منظمة اليونسكو عام 1996 ضمن قائمة التراث العالمي.
مدينة العلم والتاريخ على حافة النسيان
برزت شنقيط في القرن الثالث عشر كقصر محصن (ksar) على طريق القوافل التجارية العابرة للصحراء، ثم تحولت لاحقًا إلى محطة للحجاج في طريقهم إلى مكة، قبل أن تصير مركزًا علميًا وفكريًا عالميًا يُلقّب بـ“مدينة المكتبات” و“السوربون الصحراوية” و“المدينة السابعة المقدسة في الإسلام”.
احتضنت مكتباتها على مدى قرون مخطوطات في الفقه والحديث والطب والفلك والشعر والرياضيات، بعضها يعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي، غير أن هذه الكنوز مهددة اليوم بالاندثار بسبب زحف الرمال والتصحر.
فالمدينة القديمة أصبحت محاصرة بالكثبان الرملية التي وصلت إلى ارتفاع نوافذ المنازل، بينما هجرها كثير من سكانها إلى الأحياء الجديدة خارج القصر التاريخي.
يقول سيف الإسلام بأسى:
“في الماضي، كان مئات السياح يزورون شنقيط يوميًا، أما اليوم فعددهم لا يتجاوز مئتين في الموسم كله. بعد جائحة كورونا، انهارت السياحة تمامًا، كما أن الوضع الأمني في مالي أثّر علينا كثيرًا.”
تاريخ يختفي تحت الرمال
تشير الغارديان إلى أن موريتانيا، التي تغطي الصحراء أو شبه الصحراء نحو 90٪ من مساحتها، تشهد تسارعًا كبيرًا في عمليات التصحر على غرار بقية دول الساحل الإفريقي.
وتقول الصحيفة إن شنقيط، التي كانت تضم نحو 30 مكتبة عائلية في منتصف القرن الماضي، لم يتبق منها اليوم سوى 12 مكتبة تحتوي مجتمعة على أكثر من 2000 مخطوط، بعضها جاء مع القوافل التجارية من المغرب العربي وإفريقيا الغربية، والبعض الآخر من بلدة لبير القديمة التي دفنتها الرمال بالكامل.
ورغم إدراج المدينة على قائمة التراث العالمي، يشكو الأهالي من أن الاعتراف الدولي لم يترجم إلى دعم مالي حقيقي.
الوعود التي أطلقتها الهيئات العامة والخاصة لم تُنفذ، ما جعل أمناء المكتبات يواجهون مصيرهم وحدهم في معركة الحفاظ على هذا التراث.
جهود إسبانية للحفاظ على المدينة
تقول الغارديان إن منظمة “تيراشيديا” الإسبانية غير الربحية لعبت دورًا محوريًا في السنوات الأخيرة في ترميم المكتبات والمباني التاريخية في شنقيط بالتعاون مع السلطات الثقافية الموريتانية وبدعم من الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي والتنمية (AECID).
اعتمدت عمليات الترميم على المواد المحلية وأساليب البناء التقليدية لضمان الحفاظ على الطابع المعماري الأصلي للمدينة القديمة، إلى جانب تدعيم الجدران وحماية المخطوطات من الحرارة والرطوبة.
وفي عام 2024، أطلقت المنظمة مشروعًا ثقافيًا تربويًا يهدف إلى إعادة الحياة إلى القصر التاريخي عبر إشراك الأطفال في أنشطة تعليمية وتراثية داخل أزقته القديمة.
تقول مامِن مورينو، المهندسة المعمارية الإسبانية المشاركة في تأسيس المنظمة:
“كان من المدهش رؤية الأطفال يلعبون داخل القصر للمرة الأولى، رغم أنهم يعيشون في شنقيط منذ ولادتهم. الهدف لم يكن فقط الترميم، بل إحياء الحياة نفسها.”
وأضافت مورينو أن “المباني تُحفظ حين يسكنها الناس، والمدن لا تبقى إلا إذا عادت إليها روحها.”
دعوة لإنقاذ “العاصمة الروحية لإفريقيا”
يختم سيف الإسلام حديثه للغارديان بنداء مؤثر:
“من المؤسف أن الأوروبيين أكثر اهتمامًا بشنقيط من العرب، بل حتى من المسؤولين الموريتانيين. هذه المدينة في خطر، وهي بحاجة إلى الجميع. شنقيط ليست مجرد مدينة، إنها ذاكرة إفريقيا الروحية.”
تؤكد الغارديان أن قصة سيف الإسلام تمثل رمزًا لمعركة كبرى بين الإنسان والصحراء في واحدة من أقدم المدن الإسلامية في القارة، حيث يقف شيخ سبعيني في مواجهة رمال تنسى التاريخ، يحاول أن ينقذ مكتباتٍ تحفظ ذاكرة العالم الإسلامي وإرثه العلمي.
تقدمي










