
يا سيّدًا إذا ذكرتُ اسمه شعرَ القلمُ بأنّ عليه أن يستوي، وإذا وقفتُ أمام سيرته شعرتُ أن الوقوفَ لا يكفي، وأن عليّ أن أخلع نعليّ قبل الدخول إلى هذا التاريخ.
يا شيخ بكّاي…
يا رجلًا بدأ من واحة صغيرة فصار واحةً واسعة للبلد كله.
خرجت من الرشيد لا تحمل حقيبة، بل تحمل جمال المكان، وصمته، ولطافته، وطهارته الأولى، ثم مضيتَ في دربٍ طويلٍ لم يمشِه إلا من كان يعرف أن الطريق لا يفتح صدره إلا لرجالٍ بصلابة الجبال ورقّة السراب.
بدأتَ من الإذاعة الوطنية في أيامٍ كان الميكروفون فيها أشدَّ رهبة من السلاح، لأن الكلمة كانت ـ وما تزال ـ أخطر من الرصاص.
ثم ارتقيتَ درجات المهنة كما يرتقي الصوفيّ مقامات المعرفة:
هينًا، رزينًا، مطمئنًا،
حتى صرتَ في بواكير عمرك مديرًا للتحرير لا بالتعيين، بل بالكفاءة التي تتقدم على أصحابها قبل أن يتقدموا هم.
لكن القدر — ذلك الكاتب الأعلى — كان يريد لك صفحة أوسع، ففتح لك بابًا لا يفتح إلا مرّة واحدة في أعمار الرجال:
باب هيئة الإذاعة البريطانية.
ومنذ دخلتَه في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أصبحتَ — دون مبالغة — عين موريتانيا في العالم، وصوت الصحراء في الإذاعات الكبرى، وبوصلة الأخبار حين تتوه الحقائق.
كنتَ يا عميد:
رجلًا يعبر الحدود لا بالدبلوماسية بل بالمهنية،
يسجّل صوته فوق خطوط النار،
ويحاور القادة كما يحاور الراهبُ شيخه:
بوقارٍ لا يُستعار، وبخوفٍ لا يظهر، وبثقةٍ لا تُمنح إلا لمن حمل الصدق معه لا في جيبه، بل في دمه.
غمرتَ أحداث المنطقة كلها:
حروب الشمال، نزاعات الحدود، الانقلابات، تغير المناخ السياسي، مؤتمرات القمم، التحولات الكبرى…
لم تكن شاهدًا عليها فقط،
كنت مرجعًا لها.
الناس يشاهدون الخبر، وأنت تشاهد ما قبل الخبر وما بعده.
والعجيب — وليس في سيرتكم شيءٌ غير عجيب — أنك لم تكن مراسلًا واحدًا لجهة واحدة؛
كنت جيشًا من الأقلام يعمل في إذاعة، ويكتب في صحيفة، ويقابل رؤساء دول، ويغطي معارك، ويتلقى تدريبات في الإلقاء، والتحرير، والتكنولوجيا، والمخاطر…
ومع ذلك بقيت كما أنت:
ابن الرشيد الذي يبدأ يومه بالوقار وينهيه بالصدق.
ويا لروعة تلك اللحظات المضيئة التي خلّدتها العدسة…
لقطاتٌ لا تبدو صورًا جامدة، بل صفحات حيّة من كتابك؛
وقفاتٌ في شمس الميدان، وومضاتٌ بزيّ العمل، ومحطاتٌ من رحلاتك الطويلة…
تظهر فيها كما أنت: رجلٌ لا تدلّ عليه الصور، بل تتشرّف هي بأن تُعلَّق على جدار تاريخك.
وفي كل هذا الزخم، لم تتخلَّ عن ذلك الخيط الذي لم ينقطع يومًا:
خيط العشق الخفي بينك وبين الصحراء.
كنتَ إذا تكلمتَ عنها كأنك تتحدث عن أمٍّ من لحمٍ ورمل،
وإذا كتبتَ عنها كأنك تُصلّي لها.
أما عملك المستقل اليوم، فليس انتقالًا من مؤسسة إلى أخرى،
بل هو عودة الرجل إلى نفسه الأولى؛
عودة الكاتب الذي لا يُملي عليه أحد،
ولا يرفع فوقه سقفًا أحد،
ولا يحدد له أحدٌ متى يكتب، أو ماذا يقول، أو كيف ينطق.
يا شيخ بكّاي…
يا رجلًا أطولُ من تاريخه،
وأكبر من عناوينه،
وأوسع من صفحاته،
وأصدق من عصره.
أمام تاريخكم لا نقف لنكتب،
بل نقف لنبحث عن مكان في ظلّكم.
لا نستخدم البلاغة لنجمّلكم؛
بل نستنجد بها كي لا نقف حفاةً أمام مقامكم.
أنتم — والله —
قلبُ المهنة حين فقدتْ قلوبها،
وعقلُ الحقيقة حين تاهت،
وصوتُ الصحراء حين احتاجت إلى من ينطق عنها بلسانٍ لا يبيع ولا يلين.
فدام مقامُكم عاليًا،
ودام اسمُكم شاهدًا،
ودامت سيرتكم نورًا يُقتدى به لا يُشرح.
ولكم — يا عميد —
أعمق الإجلال، وأصدق التوقير، وأرفع الانحناء.









