إعلان

(منكب اللغة) / مولاي حمين الحسني

ثلاثاء, 12/19/2017 - 23:14
العربية

أيام اللغة العربية في عرف أهل المنكب البرزخي تتعدد بتعدد طلوع الشمس وغروبها فبين أحضان تلك الجامعة البدوية الجوابة، يدلف الطالب إلى السباحة كل يوم في محيط اللسان العربي فيتراءى المحيط أمامه قاموسا زاخرا مفعما بالجواهر، دلفينه الأكبر ديوان العرب، بصفحاته الاولى: الكندي، وابن الأبرص، وميمون، والعامري، والعدوي، والتغلبي، وتبقى الحيتان الصغار الأخرى تتبعه: - النحو، الصرف- البلاغة، العروض.. - كما تتبع الصغار أمهاتها..
يفتح الطفل عينه على مجالس الشيوخ التي وصفها ابن الشيخ سيدي في نونيته، ويشب في تعلم الكتاب والحكمة، إلى أن يشتد عوده، وكهلا، عندها يصبح حافظا ضابطا بوابا للغة، حارسا لعلوم الدين، ينثر النصائح والحكم، ويعرب عما في الحجا ورحم الله ابن حنبل الحسني: 
كل فتى شب بلا إعراب** فهو عندي مثل الغراب
وإن رأيته لخود عاشقا** فقل لها دعي الغراب الناعقا
والآن.... وفي ظل ضياع القيم والإجهازعلى الصبابة الباقية من تراث هذه الأمة المرحومة، فقد اختفى ضبط الصدر أو كاد، وبقينا أسارى لضبط الرقيم، وفي ظل نظرية تشييء الإنسان وتحويله إلى آلة "ريبوتية" لا دور لها إلا استعراض ما هو مبرمج، فلا بد من العمل على تكوين جيل أصيل غير مهجن ولا مدجن، يحفظ للأمة تراثها ولغتها، هذه اللغة التي تحمل خصائص الأمة بعقيدتها ووتصوراتها، بتاريخها وحضارتها، بإيمانها وإحسانها،  وقد لحظت أن أغلب المشارقة في هذا العصر - وهم أصحاب تأثير في البوصلة العلمية-  نزاعون إلى اختزال عائلة اللغة العربية في البنات الصغار دون الأم المهمة.
ولا ريب أن علم الدلالة - رغم ذلك- أم اللغة وأساسها وتاجها، ووسيلة استيعاب العلوم والمعارف، به يدرك مراد الله ورسوله، وهو من دون معرفة ديوان العرب كلمس الثريا، وهو محفوظ بحفظ كتاب الله، وإن أغفل وترك برهة من الزمان فلن يضيره ذلك شيئا، وسيظل مكينا نقيا جميلا ولو طالت حياته ببر.
 وقد عبرت فيما مضى عن العزلة اللغوية القائمة: بأن محب اللغة العربية اليوم سامري معزول فاقد لمحبوبته يبحث عنها في كل مكان، فإذا خرج لا يمكنه العثور عليها، لأن الشارع "فيه علوم" أخرى و"نفر" آخرون، وإذا قصد المسجد تصادفه لخلخانية الخطباء الباحثة في ركام الكلمات المبتذلة، المتقعرين الذين يقذفون المفردة دون بينة. وإن تيمم عمله اليومي فما هو إلا ظرف مكان مفعول فيه، وإن أغلق عليه الباب فما هو بآمن من وخز إبر الهجنة واللكنة وجموع التكسير القادمة من كل اتجاه في شبح هذا المفترض. بصرت اليوم صغيرتي - عن جنب- تقول لأختها "لا مساس" فأقلعت عما كنت فيه حتى لقنتها أن معنى لعنة السامري"لا مساس" نفي وقوع الفعل من الجهتين، أي: "لا أمس ولا أمس"، موقف عبثي مع الصغار يوحي بالعزلة والغربة رغم كثرة الناس حولك ممن تحبهم ويحبونك !!
عذرا أيتها الضاد الحبيبة فبوحي ببعض أناتك الخفيفة إن هو إلا تراويح أسلي بها نفسي واطرد وحشتي، ولولا تلك الانات لتزايد الأرق، واتسع المنخرق، على حد بوح النجدية الساهرة:
لها أنة عند الصباح وأنة** سحيرا ولولا أنتاها لجنت.
ولولا فضل الله علينا ورحمته - أهل المنكب البرزخي - بتلك الصبابة اليسيرة منها لانبهمنا وابتلعتنا بالوعة الرمال إلى أبد الآبدين.
مولاي ولد حمين الشنقيطي