يوم في دولة بلا مساجد (1) / عبد الله أمون

أحد, 05/20/2018 - 02:25

 

أقلعت طائرة البوينغ   777-300 التابعة لطيران الإمارات من مطار دبي تمام العاشرة صباحا يوم السادس والعشرين من سبتمبر 2013 معلنة انطلاق الرحلة رقم  105 المتجهة إلى اثينا مستغرقة خمس ساعات وعشر دقائق 
كان ذلك الجسم الهائل الذي يتسع ل 550 راكبا يحلق عاليا عبر الغيوم وكان محركا  Trent 892 بقوة 92,000    رطل يئنان تحت حمولة فاقت 350 طنا, ومع أن Rolls Royce  لم تترك مجالا للصدفة أثناء تصنيع المحركات إلا أن المتبصر يعلم أن ذلك العملاق السابح في جو السماء لا يمسكه حقيقة إلا الله
يخيل إلى الجالس على الكرسي المريح أنه متواجد بإحدي قاعات العرض وليس على ارتفاع يفوق 14,000 مترا, ولولا الرعشة التى تنتاب ذلك الكائن العظيم من حين لآخر بفعل عوامل المناخ لما تنبه الراكب إلى أنه يسير- رغم السكون السائد - بسرعة قد تصل 1,000 كيلومتر في الساعة
وصلت إلى مطار أثينا تمام الثانية وعشر دقائق ظهرا, كان طابور الجوازات طويلا ورب ضارة نافعة فالأزمة الإقتصادية المطبقة على القصبة الهوائية لليونان أدت إلى تدفق السياح من ذوي الدخل المحدود مغتنمين فرصة انخفاض أسعار الخدمات السياحية 
وقفت أمام أحد مكاتب الجوازات حيث كانت الشرطية الشابة توزع ابتساماتها العريضة على كل العابرين بمنتهي العدالة , إلتفت يمنة ويسرة فإذا كل شرطيات الإستقبال منهمكات في توزيع نفس الإبتسامة التي ينال كل مسافر منها نصيبه , عرفت حينها أن الأمر وإن كان تصنعا إلا أنه يتم بحرفية عالية, فرغم أن تلك الفتيات يبتسمن بعدد من يعبر أمامهن من المسافرين يوميا إلا أنهن استطعن- أو هكذا بدى لي- الحفاظ على ابتسامة غير نمطية وخالية من الإبتذال ,
ما أجمل أن يبتسم لك أول شخص تكلمه بعد رحلة طويلة , 
أعلم أن شرطيات مطار أثينا لم يسمعن قول نبي الذوق والخلق الرفيع (تبسمك في وجه أخيك صدقة) لكن الفطرة البشرية السليمة لا تحتاج  بالضرورة إلى الوازع الديني للقيام بالتصرف الصائب
تذكرت شرطيا عبوسا في مطار انواكشوط كان وجهه يقطع الخميرة من البيت كما يقول المصريون , كان ذلك الشرطي يحمل ملامح عزم صاحبها على نشر الكآبة بين عباد الله القادمين و المغادرين ,كان هدفه الأساسي أن يجعل القادم يقول ليتني ما عدت والمغادر يتمني أن لا يرجع.
كان وجه ذلك المخلوق المصنوع من مزيج فحم البيوتومين وأحجار البازلت قد اكتسب لونا عجزت عملية ما يسمى في الرياضيات بتكامل الأجزاء عن تشكيله من بين الألوان الأساسية أو المتفرعة عنها , لكنه عموما لون لاحياة فيه ويتشكل بعد مرورعقود زمنية من عدم الرضي عن الذات أو الغير 
لم أرغب قط فى سماع قهقهة ذلك المخلوق, لكنني تمنيت من كل قلبي أن يقتنع بأنني لن أسلبه ما خلف مص أعقاب السجائر من أسنانه الصفراء إن أظهرها مبتسما في وجهي, لوكان لي الأمر في المطار لألبست كل من لا يبتسم في وجه خلق الله قناعا يخفي ملامحه الكئيبة
كنت أعلم أن اليونان هي الدولة الوحيدة أوروبيا وربما عالميا التي لا يوجد بها مسجد رسمي, لقد أدي زحف الحضارة الغربية وانحسار المد الإسلامي في أيام أفول نجم الإمبراطورية العثمانية  إلى تحول اليونان من بلد يمثل المسلمون فيه نسبة 68 % إلى بلد متعصب ضد المسلمين ولا ترتفع فيه مئذنة عن سقف قيد انملة ويشكل المسلمون فيه أقلية دينية محاصرة في عباداتها وعاداتها وتقاليدها ولا تزيد نسبتهم بين السكان عن 1,3 % 
إن تاريخ الإسلام في هذا البلد يرجع إلى مرحلة متقدمة من القرن الثالث الهجري- وبالتحديد عام 210  في عهد المأمون بن هارون الرشيد - حين قامت طلائع المسلمين  بغزو عدد من الجزر اليونانية، وكان ذلك الفتح إيذاناً بدخول الإسلام إلى البوابة الجنوبية لبلاد البلقان
لكن اتفاقية تبادل السكان بين اليونان وتركيا، والمعروفة تاريخياً باسم اتفاقية (المقاصة) والتي وُقّعت بينهما عام 1924 واتفاقية ( لوزان) التي تلتها  كان لهما أثر حاسم في انحسار وجود المسلمين في اليونان حيث ان الإتفاقية الأولى وحدها أفضت إلى هجرة  1,200,000 مليونا ومائتا الف مسلم من اليونان باتجاه تركيا وتوالى النزيف بعد ذلك إلى أن انحصر عدد المسلمين اليوم في اليونان حسب الإحصائيات الرسمية إلى 250 الف نسمة  
في أثينا العاصمة وكذلك في بعض الجزر اليونانية تقتصر دور عبادة المسلمين على بعض المصليات المخبأة ضمن محلات تجارية أو غرف منزوية في أحد أدوار البنايات القديمة وأحيانا بضعة أمتار مقتطعة من مواقف السيارات الملحقة بالعمائر أو مجتزأة من مخازن في خواصر الضواحي النائية, وكلها مصليات لا تعفر فيها الجباه بالسجود إلا بعد تغليق الأبواب. ولا يذكر فيها اسم الله إلا على استحياء  , ولعل القاسم المشترك بين كل تلك الأماكن هو الضيق والتخفي وعدم توفر التهوية  في أغلب الأحيان 
وللأمانة أستثني هنا المصلى التابع للمركز العربي اليوناني للثقافة والحضارة الواقع على شارع Kiprou  بمنطقة   Moscháto في قلب أثينا والذي لوكان سمح بأن تعتليه مآذن لصار مسجدا بمعنى الكلمة, إنه المركز الذي افتتح قبل ثلاث عشرة سنة بتمويل من محسن سعودي ورفضت السلطات اليونانية حينها إضافة كلمة إسلامي إلى اسمه 
                                                                          يتبــــــــع