اليوم الأول من ديسمبر من عام 1993، توقف القطار المنهك من المسير قادما من محطة العقيد عباس الحدودية مع الجزائر، هنا تنتهي رحلة قرابة الألفي كيلومتر التي كنت بدأتها قبل ثمان واربعين ساعة انطلاقا من الرباط بالمملكة المغربية عبر ما كان يعرف حينها بقطار المغرب العربي والذي تقطعت لاحقا أوصاله بسبب الخلافات السياسية التافهة التي طالما كانت الشعوب أكبر ضحاياها
الساعة العملاقة المنتصبة وسط المحطة تشير إلى التاسعة مساء، وكان أكبر همومي هو التخلص من الحقيبة الثقيلة التي انخلع كتفاي خلال الرحلة من حملها وجرها.
كان بند النقد في الصندوق من الميزانية العامة يتمثل في دينارين ونصف نجيا من الصرف خلال اليومين الماضيين، في حين كان بند الإحتياطي غير المعلن يتمثل في مبلغ 300 فرنك فرنسي يفترض ان تغطي مصاريف الأسبوع الأول في تونس قبل أن تصل التمويلات الجديدة من البلد.
دفعت دينارين أجر صندوق حجز الأمتعة وشعرت فور التخلص من تلك الحقيبة البغيضة أن هموم الدنيا انزاحت عن كاهلى.
تحسست جيوبي بحثا عن ورقة كنت كتبت عليها رقم هاتف المنزل الذي سبقني إليه صديقي واتفقنا أن أتصل عليه حال وصولي لكن الورقة تبخرت كأحلام حملة الشهادات في التوظيف المناسب.
أخرجت الإحتياطي المحفوظ بعيدا عن عيون الحساد وبحثت عن صرافة لأستبدل النقود استعدادا للبحث عن سيارة اجرة توصلني إلى وجهتي اعتمادا على عنوان مدون على ظهر رسالة كانت قد وصلتني قبل مدة بالبريد.
لكن المفاجأة غير السارة هي أن مكاتب الصرف كانت مغلقة، فاليوم يصادف يوم الأحد وهو العطلة الرسمية في تونس
سألت بعض العابرين أين قد أجد مكتبا للصرف فأجابوا بأن المكان الوحيد الذي قد يتوفر فيه الصرف أيام العطل هو المطار، لكن الوصول إلى المطار يتطلب رحلة شاقة اخرى ويتطلب قبل ذلك أجرة التاكسي.
كنت مرهقا حد الإعياء، فجفناي لم يلتقيا منذ ثمان واربعين ساعة من الرحلات المتواصلة بين المحطات وعبر قطارات أغلبها غير مريح البتة،
قدماي بالكاد تحملاني فوق الأرضية الملساء للمحطة، كنت كطفل أضاع أمه في السوق ويبحث عنها في كل الوجوه
البرد قارس والجوع حارق وعهدي بالزاد ما تناولته من رطل تمر اشتريته ظهرا من محطة عنابة، قبل أن تطلب مني الجمارك التونسية على الحدود رميه من نافذة القطلر وعدم إدخاله الى الديار التونسية بحجة أن النخل الجزائري مصاب بمرض فقد المناعة المكتسبة وهو مرض معدٍ ولا يريدون دخوله إلى الأراضي التونسية
فجأة ومن الفراغ ظهر ذلك الشاب التونسي الوسيم وكأنما علم بمشكلتي من بعض من سألتهم في المحطة، فبادرني بالسلام قائلا: (مرحبا خوي، اراهو موش باش اتحصل Échange توا في تونس الكل، خاطر اليوم Dimanche، أما هاذ خمس ألاف دبر روحك بيها حتى توصل دارك) ( مرحبا أخي، إنك لن تجد صرافة اليوم لأنه يوم أحد، ولكن هذه خمسة آلاف (خمسة دينارات) رتب بها أمرك حتى تصل إلى بيتك)
لاحظ الشاب ترددي وإحراجي البين من استلام المبلغ فقال مشجعا وهو يبتسم: (يا ولدي خوذ ارانا ؤخيان وعرب)
مددت يدي على استحياء وأخذت الورقة النقدية وملامحي تحمل من الإمتنان ما يغني عن كل كلام، وقد لاحظ الشاب ذلك فقال مهونا الأمر على: (أراهو من غير امزية يا خويا) أي ان الأمر لا يحمل منة ولا يستحق شكرا وانصرف تاركا إياي أحاول تفسيرا لما حدث.
اخبرني قدماء الطلبة لاحقا أن ما حصل معي يعد من الكرامات الكبرى التي لا تختلف عن المشي على الماء والطيران في الهواء، وربما أسر إلي احدهم بعدها قائلا : (اطلبلي مولانا ، انت تجبر الكرائم)