د. أحمد ولد المصطف
(أغسطس 1824 ـ مايو 1825)
كما ورد في الكتاب الذي ألفه سنة 1830 عن رحلته بعنوان: يوميات رحلة إلى تمبكتو وجنة بإفريقيا الوسطى.
أولا: لمحة عن حياة ر. كاييه
ولد رنيه كاييه سنة 1800 في موزيه، مقاطعة دي سيفر بفرنسا من أبوين فقيرين، فقدهما في فترة طفولته. تلقى تعليما متواضعا في مدرسة خاصة بأبناء الفقراء. بدأ مبكرا يميل إلى قراءة رحلات المغامرين. في سنة 1816 وبعد الاتفاقية المبرمة بين الإنجليز والفرنسيين التي بموجبها قبل البريطانيون تسليم إعادة مستعمرة السنغال إلى فرنسا، توجه إلى سينلوي (اندر) في سفينة لوار Loire التي كانت سفينة لامديز La Méduse الشهيرة التي غرقت قبالة سواحلنا ولم ينج من ركابها إلا القليل. لحسن حظ كاييه، أخذت السفينة التي كانت تقله مسارا آخر غير مسار لامديز وتمكنت من الوصول إلى السنغال دون مشكلة.
بعد مقام استمر بضعة أشهر توجه إلى اندر حيث كان الإنجليز المغادرون يجهزون رحلة استكشافية داخل إفريقيا يرأسها الرائد بدي Peddie مهمتها عبور جبال فوتا جالون. فشلت هذه المهمة ومات قائدها وخلفه، لكن الإنجليز أصروا على مواصلة تسيير رحلاتهم الاستكشافية، فابتعثوا الرائد غراي لمواصلة المهمة. بدأ هذا الأخير تجميع عناصره واستعد ر. كاييه للحاق به لما علم بتجهيز الرحلة المذكورة. غير أن أحد الضباط الفرنسيين أقنعه بعدم المشاركة فيها، وبدلا من التوجه إلى الإنجليز في غامبيا وسيراليون، توجه إلى جزيرة غوادلوب حيث عمل هناك لفترة ثم عاد إلى فرنسا ليرجع بعد ذلك بقليل إلى اندر نهاية 1818.
التقى بأحد الفرنسيين في هذه المدينة وكان قد كلفه الرائد غراي بشراء بعض السلع إرضاء إمام (المامي) بوندو ليسمح للبعثة بالمرور من مملكته، فذهب رفقته يوم 5 فبراير 1819 ومرت قافلتهم المكونة من الجمال بكايور وجولف ثم بباكل حتى وصلوا بولينابه مقر ملك بوندو المذكورة، لكن هذا الأخير رفض في النهاية السماح لهم بالعبور إلى باكل، رغم الهدايا الثمينة التي قدمها له الإنجليز. بعد جهود مضنية وصلت القافلة إلى باكل.
بعد أسفار عديدة، ، عاد ر. كاييه سنة 1824 إلى السنغال (ص: 28) ثم عبر إلى الضفة اليمنى للنهر ليمكث حوالي ثمانية أشهر مع البيظان في البراكنة (من سبتمبر 1824 وحتى بداية مايو 1825) من أجل تعلم اللغة العربية والتضلع من العلوم الإسلامية، مدعيا أنه اعتنق الإسلام وذلك تحضيرا لرحلته الاستكشافية لمدينة تمبكتو.
لقد اتضح له أن مشروعه لا يمكن تحقيقه إلا بتقمص شخصية مسلمة تعرف اللغة العربية كي يتفادى المضايقات والمخاطر على حياته من قبل مجتمعات إسلامية يتعين عليه العبور من أراضيها وجمع المعلومات بخصوصها وهو في طريقه إلى تمبكتو.
بعد ذلك سافر إلى سيراليون حيث عمل هناك مؤقتا كموظف مع الإنجليز. من هذا البلد استأنف رحلته فعبر غينيا وساحل العاج ثم مالي حيث مر بباماكو وجنة حتى وصل تمبكتو يوم 20 ابريل 1828. بعد أن أمضى فيها حوالي أسبوعين عاد مع قافلة متوجهة إلى المغرب أوصلته إلى فاس، ومن هناك ذهب إلى مدينة طنجة حيث توجه منها إلى فرنسا التي وصلها سنة 1830.
يعتبر رنيه كاييه أول أوروبي يصل مدينة تمبكتو ويعود منها. لقد وصل المستكشتف الإنجليزي ألكسندر غوردن لينغ إلى هذه المدينة سنة 1826 لكن الطوارق قتلوه وهو يستعد لمغادرتها.
بعد نجاح رحلة رنيه كاييه إلى تمبكتو منحته جمعية الجغرافيا Société de Géographie الجائزة التي سبق وأن رصدتها لمن يصل تمبكتو ويعود والبالغة عشرة آلاف فرنك.
لقد ظل استكشاف مدينة تمبكتو حلما يراود المستكشفين الأوربيين والجمعيات العلمية في الغرب بعد وصف ابن بطوطة لها، إذ قدمها على أنها مدينة غنية بالذهب ومركز اقتصادي وسياسي هام في دولة ملي (مالي)، لكن رنيه كاييه تفاجأ لما وصلها بأنها مدينة أطلال أو أشباح لم تعد تتمتع بألقها ومكانتها السابقة التي تحدث عنها الرحالة ابن بطوطة.
ثانيا: مقام رنيه كاييه في البراكنة
بعد عودته إلى السنغال سنة 1824، عقد العزم على التوجه إلى السنغال وأبلغ حاكم اندر (سينلوي ) البارون روجي Baron Roger بذلك، دون أن يجد منه التزاما قطعيا بتقديم الدعم الذي يمكنه من إنجاز مهمته.
في 3 أغسطس 1824 غادر اندر بنية عبور نهر السنغال إلى الضفة اليمنى من جهة بودور (الدويره) ومعه رجلان وامرأة من مدينة اندر. مر في طريقه من ريشارد تول، دجانة حتى وصل إلى بودور يوم 27 من نفس الشهر حيث مكث مع مختار بوبو، شيخ القرية ووزير أمير البراكنة أحمدو الأول ولد سيد اعل ولد آغريشي.
في الأول من سبتمبر 1824 توجه إلى محصر الأمير المذكور، وفي 7 من نفس الشهر مر بمخيم محمد سيد المختار، شيخ المحظرة الذي سيقيم معه. سأله الشيخ عن أسباب اعتناقه للدين الإسلامي فأجابه بأنه قرأ ترجمة باللغة الفرنسية للقرآن الكريم ومنها عثر على حقائق أصبح يقتنع بها، ثم ذكر له أن أباه كان يعارض اعتناقه للإسلام وأنه مارس التجارة في اندر وأثناء إقامته هناك سمع بحكمة البراكنة فأعجبته. ذكر رنيه كاييه للشيخ المذكور أنه لما توفي والده في فرنسا عاد إليها ليأخذ نصيبه من تركته وأنه أثناء رحلة عودته من فرنسا غرقت الباخرة وخسر الكثير من البضائع التي أتى بها من هناك وما تبقى منها أودعه لتاجر فرنسي في اندر يسمى آلين Alain معروف لدى البيظان.
ختم قصته التضليلية بأنه عند ما ينهي تعليمه الإسلامي سيستثمر أمواله في شراء قطعان من الماشية ويستقر نهائيا في البراكنة.
بعد هذا الحديث، والذي قام بدور الترجمة فيه أحد سكان الدويره (لكصيبة) / Podor وأحد وكلاء الأمير، بوبو ـ فانفال، التزم له الشيخ محمد سيد المختار بالقيام بتعليمه ونفقته واعتباره أحد أبنائه.
في اليوم الموالي ذهب به الشيخ إلى محصر الأمير الذي يبعد حوالي 40 كلم في موقع ذكر أنه يسمى غيغيس Guiguis. استقبله الأمير وطرح عليه أسئلة مماثلة لتلك التي طرحها عليه الشيخ فأجابه نفس الإجابات التي قالها لهذا الأخير، بيد أن الأمير كرر عليه أسئلته مرارا ليعرف هل هو ثابت على إجاباته أم أنه قد يتناقض في ذلك. مكث ول كيج النصراني أو "عبد الله"، كما سمى نفسه بذلك، في محصر الأمير حوالي شهر، من 9 سبتمبر إلى 8 أكتوبر 1824. أثناء هذه الفترة حدثت أمور لم تكن في صالح ول كيج، إذ وصل المحصر مترجم الأمير "مكسه" وبعد نقاش مع ر. كاييه بدأ يشكك في دوافعه الدينية، كما أن بوبو ـ فانفال الذي ترجم حديثه مع الشيخ ومع الأمير ذكر أن كاييه صاحب سوابق إجرامية في فرنسا وأنه لهذا السبب هجر بلده. مع أن الأمير لم يظهر له أي تغير في موقفه تجاهه، لم يعد ر. كاييه مطمئنا. دافع عنه بعض الشيوخ وقالوا للأمير إن دوافعه دينية حقيقية. ألح ول كيج في العودة إلى مخيم شيخه الذي يبدو أنه تركه في المحصر تحت الرقابة حتى يأخذ فيه الأمير القرار الذي يراه مناسبا.
في النهاية تم قبول طلبه العودة إلى مخيم الشيخ محمد سيد المختار. في طريقه إلى المخيم المذكور قدم وصفا للتضاريس التي مر بها والأعشاب والنباتات.
بعد وصوله إلى حي "شيخه"، تولى تدريسه الابن الأكبر لهذا الأخير بكتابة حروف الأبجدية العربية على لوح خشبي (ص: 115 من الكتاب المذكور).
موضوع الاختتان
ذكر كاييه أنه تعرض للكثير من الأسئلة والمشاكسات، وخصوصا من "حسَّان" الذين اتخذوه موضوعا للسخرية والتندر، حيث كانوا يسألونه باستمرار لماذا لم يختتن، حتى تدخل شيخه وقال إن تلك العملية غير ضرورية في سنه ولا تمنعه من دخول الجنة (ص: 88 من الكتاب المذكور).
طبقات المجتمع
ذكر ر. كاييه مختلف فئات المجتمع في تلك الفترة، محددا الخصائص الوظيفية والاجتماعية لكل فئة. بيد أن مستواه المعرفي المحدود جعله لا يفهم جيدا دور بعض الفئات أو قاسها على المجتمع الفرنسي في تلك الفترة. وبالجملة فقد كان أكثر انتقادا للفئات التي توجد في أعلى الهرم الاجتماعي، متهما إياها بالكسل وبغض العمل، في نفس الوقت أظهر تعاطفه مع الفئات الأخرى.
ذكر بالاسم بعض القبائل التي تشكل البراكنة (ص: 145 )
ذكر بعض العادات والتقاليد
تحدث كاييه عن عادات مجتمع البيظان في تلك الفترة، كالكرم والعادات الغذائية وكيفية تحضير مختلف الوجبات واللباس والخيام والزواج و"لػلاع". بخصوص "لػلاع" فقد شاهده في حي من إجيجبه يوجد بالقرب من مخيم شيخه، وهو عادة تتمثل في محاولة صديقات الفتاة التي تزوجت حديثا منعها من السفر إلى أهل العريس، ويتخللها عراك قوي بينهن وأصدقاء العروس (الصفحات 126 ـ 128 )، أما الزواج فذكر أنه في 14 ديسمبر 1824 حضر حفل عرس في حي من أولاد أبييري بالقرب من ألاك وكان العريس صديقه، ثم ذكر أن هذا الأخير لا يأتي إلى "بنيته" إلا في الليل، ولا يستطيع أن يأتي في النهار لأن ذلك غير مألوف لمن تزوج حديثا. كما ذكر مزاح بعض صديقات العروس له في الحي المذكور، كما وصف عناية المرأة بزينتها (ص: 137).
تحدث أيضا عن "ونػالة" التي حضر ذبح بعض حيواناتها وتقسيمها بين المشاركين فيها، وذكر أنه في مجتمع البيظان والسود لا يتم الذبح إلا من قبل شيخ marabout (الصفحتان 121 ـ 122).
مكانة المرأة
تفاجأ رنيه كاييه بالمكانة التي تحظى بها المرأة في مجتمع البيظان (الصفحات 128، 162 ـ 163 )، بمختلف مكوناته، واعتبر أن سلطتها على الرجل أكبر بكثير مما تتمتع به المرأة في فرنسا في تلك الفترة، منبها إلى أن مجتمع البيظان لا يتبنى تعدد الزوجات، مما يجعله يشكل استثناء بهذا الخصوص، مقارنة بالمجتمعات الإفريقية الأخرى.
صوم رمضان
تمت رؤية شهر رمضان وصام ر. كاييه مع الصيام، غير أنه تأثر بالعطش، وكان في الأيام شديدة الحر ينتهز فرصة الوضوء لاستنشاق كمية من الماء، وبالأخص عند ما يكون شيخه لا يراه! (ص: 188).
لكن مشاكسات "حسَّان" [لعرب] له عند ما يمرون بمخيم شيخه كانت أشد عليه من العطش وهو صائم، إذ ذكر أنهم كانوا يسحبون ثيابه ويقرصونه باستمرار كي يرغموه على الإجابة على أسئلتهم الساخرة: هل تريد شرب قليل من الخمر أو أكل شيء من لحم الخنزير؟ هل تريد أن تختتن الآن؟ (ص: 189).
كان على الدوام يرفض الإجابة على هذه الأسئلة التي تسبب له حرجا بالغا ولا تنسجم مع الصورة التي يريد تقديمها عن نفسه كمعتنق حقيقي للإسلام.
في معرض حديثه عن صوم رمضان، ذكر أن اختتان الأطفال يتم في هذا الشهر.
وصف بعض الألعاب
لم يفت رنيه كاييه أن يصف بعض الألعاب التي يمارسها البيظان في البراكنة، وتحدث بشكل خاص عن لعبتي "السيػ"، "زرػ الدقوق" و"هَيْبِي جَرْ"، موضحا أن الأولى تستخدم في شهر رمضان ليقصر الوقت على لاعبيها، في حين أن الثانية هي اللعبة المفضلة عند "لعرب"، أما الأخيرة فهي من ألعاب الأطفال. (الصفحتان 190 ـ 191).
الاحتفال بالعيد
ذكر طريقة الاحتفال بالعيد (عيد الفطر)، فقال إن كل شخص يلبس أحسن ثوب بحوزته، وتقدم الصدقات على الفقراء وتذبح الذبائح ويحضر الكسكس بكميات كافية، موضحا أن هذا اليوم هو اليوم الوحيد الذي يشبع فيه الجميع. يتميز هذا اليوم عند الزوايا بالصلوات والأدعية، في حين يكون العيد أكثر فرحا عند "لعرب"، حيث يطلق الرجال النار من فوهات بنادقهم احتفاء به وينظمون سباقا للخيل وتمارين في الفروسية، في حين يلحن إيغاون أغاني تدخل البهجة والسرور على النفوس وتأتي النساء للحفل فيتفاعلن مع الموسيقى بالتصفيق.
دفن الميت
ذكر أن من عاداتهم إذا توفي شخص لا يستحب البكاء عليه ويتم غسله وتكفينه بثوب أبيض ويترك تحت خيمته لمدة أربعة أيام يتجمع خلالها المشايخ لتلاوة القرآن ثم يدفن في اليوم الخامس (ص: 143).
من المستبعد أن يكون ما ذكره بهذا الخصوص صحيحا.
بداية التفكير في العودة إلى اندر
بعد حوالي ستة أشهر من المقام مع "شيخه"، بدأ يرغب في معرفة إن كان حاكم اندر، البارون روجيه قد غير تفكيره بخصوص منحه تمويل رحلته. هكذا طلب ول كيج من "شيخه" الإذن في السفر إلى محطة الدويره (لكصيبه). بعد تردد، وافقه هذا الأخير فسافر يوم 9 مارس 1825 إلى هناك ليبعث برسالة إلى الحاكم المذكور. عاد إلى مخيم الشيخ في 16 من نفس الشهر. بعد عودته، تلقى التهانئ لأن الكثيرين لم يكونوا متأكدين من عودته.
عاد إلى الدويره (بودور) في 29 مارس، أي بعد أسبوعين، للبحث عن رد حاكم اندر على رسالته. بعد وصوله إلى وجهته لم يحصل على رد، فاعتقد أن رسالته لم تصل وجهتها. أخذ بعض السلع من فرنسي مقيم في اندر وجده على متن سفينة في الدويره ويدعى رنيه ـ فالنتين. بعد ذلك عاد إلى مخيم شيخه في 5 ابريل. رجع مرة ثانية إلى الدويره في 8 ابريل بعد ما علم بمرور حاكم اندر من هناك، لكنه لم يصل إلا يوم 10 بعد مغادرة هذا الأخير والذي أوصى أحد الضباط به ليمنحه سلفة تسمح له بشراء بعض السلع. قابل رنيه كاييه الضابط المذكور في محطة بودور (الدويره) لكن هذا الأخير ذكر له أن ليس لديه الكثير مما يعطيه إياه. عندها أخذ من التاجر رنيه فالنتين المذكور بعض السلع وعاد مثبطا إلى مخيم "شيخه" وقد شعر بأن آماله في تمويل رحلته بدأت تتبخر وأن السلطات الفرنسية في اندر لم تعد تولي مشروعه كبير اهتمام.
التحضير للعودة النهائية إلى السنغال
في يوم 20 ابريل 1825 وبعد مشاورات مع شيخه، محمد سيد المختار، قرر رنيه كاييه الذهاب إلى اندر عبر لكصيبه، ورافقه في هذا السفر الابن الثاني للشيخ، عبد لله. في يوم 11 مايو ركبا قاربا إلى المدينة المذكورة ووصلاها يوم 16 من نفس الشهر، كان عبد الله يكثف مراقبة ول كيج طيلة الرحلة المذكورة.
حاول ر. كاييه منع ابن شيخه من لقاء شيخ إدولحاج، شمس، في اندر، لكن جهوده باءت بالفشل، حيث التقيا بالقرب من محطة الشيخ المذكور الذي حدث عبد الله بأن ر. كاييه كان قد التقاه السنة الماضية وطلب منه الذهاب معه إلى الترارزة بغرض الدراسة بحجة أنه اعتنق الإسلام، غير أنه رفض طلبه على أساس معلومات حصل عليها في اندر عن سيرته وسلوكه وأن اعتناقه للإسلام ليس إلا تغطية لأهداف أخرى. بعد هذا اللقاء، قدم ول كيج ولام شيخ إدولحاج على رفضه طلبه الذي سبق أن قدمه له بخصوص ذهابه معه إلى الترارزة ليتلقى تربية إسلامية هناك. كرر شيخ إدولحاج ما سبق أن حدث به عبد الله، من أن سبب ذلك المعلومات التي حصل عليها عنه، مشددا على أن بعض سكان السنغال الذين هم على صلة قوية بالفرنسيين أكدوا له ذلك.
بعد هذا النقاش، تأكد ول كيج أن ابن شيخه لم يعد يثق به، وأن العلاج الوحيد لذلك هو مقابلة حاكم اندر، البارون روجيه، ليمنحه من المساعدات المادية ما يمكنه من العودة بسرعة إلى مخيم شيخه مع ابنه ويشتري قطيعا من الماشية وعبدين ليبدد كل الشكوك التي أصبحت تحوم حوله. بعيد وصوله إلى اندر علم أن الحاكم روجيه ذهب إلى فرنسا، فقابل خليفته، لكن هذا الأخير رفض طلبه بخصوص المساعدات المادية، ولم يمنحه سوى مبلغ 1200 فرنكا بدل 6000 التي طلبها، مما حمله على رفض هذا المبلغ الذي لا يمكنه من إكمال دراسته على الشيخ محمد سيد المختار. إثر ذلك قابل مرافقه عبد الله، ابن شيخه، وودعه على عجل، ثم اختفى عن الأنظار خوفا من ردة فعل البيظان في اندر حين يعلموا بخدعته لهم (ص: 210).
ثالثا: خلاصة
هكذا انتهت قصة وُلْ كيْجَ النصراني (رنيه كاييه) مع شيخه وبدأت قصة أخرى نسجها البيظان منذ زهاء قرنين من الزمن عن شخص قام بين ظهرانيهم واحتضنوه، ليكتشفوا، بعد فوات الأوان، أن ما قال لهم مجرد حيلة للتستر على مغامرته في سبيل قضية أخرى: رحلته لاستكتشاف مدينة تمبكتو.
من القصص التي نسجوا عنه أنه كان عالما وأنه أَمَّ الصلاة بمن كان معهم مرات عديدة، وأنه لما ودع الشخص الذي رافقه، ذكره بجملة من مختصر الشيخ خليل، أهم مدونة في الفقه المالكي، نصها: "وبطلت باقتداء من بان كافرا"، في إشارة إلى أن على من صلى خلفه أن يعيد صلاته، لأنه لم يكن مسلما.
كما ضرب به المثل، فقيل: بواه ول كيج، أي ذلك الشخص الذي لن يعود أبدا، وكذا عبارة: أكذب من وُلْ كَيْجَ، إلى غير ذلك من القصص والأمثال والأساطير.
لقد سعى هذا المقال إلى تقديم رواية "وُلْ كَيْجَ النصراني" عن نفسه، كما كتبها هو، لنقارنها بما نسج مجتمعنا عنه، كي تتضح الحقيقية وتتبدد الأسطورة، ولو جزئيا.