سعيد يقطين
موريتانيا بلد الثقافة العتيقة، والمحضرة، وبلد المليون شاعر. هذه هي الصورة المشكلة في المتخيل الثقافي عنها، لكنها أيضا بلد الفقهاء والمثقفين الذين يهاجرون إلى مختلف أصقاع العالم، لا ليمارسوا أعمالا يدوية شاقة، لكن ليبرزوا كفاءاتهم في المجالات الإعلامية والعلمية والتنشيط الثقافي، يسندهم في ذلك ذكاؤهم الفطري، وأخلاقهم النبيلة، وامتلاكهم ناصية اللغة العربية، ومتونها القديمة. في كل هذه الصفات يشتركون مع الأشقاء السودانيين، الذين ما يزالون على طينتهم التي لم تلوثها رطانة الأعاجم، ولا تقاليد العصر الغربي. توطدت علاقتي بشنقيط منذ مراهقتي، حين كان الكتاب ضالتي. اقتنيت كتابين لمحمد يوسف مقلد على، ما أذكر، حول موريتانيا ورجالاتها وأدبائها. وكانت تستهويني، إلى جانب عرضه لأخبار الصحراء، رحلاته إلى براريها لاستكشاف دررها، وتدوين ما تجود به قرائح شعرائها، حتى إني فكرت أن أكون مثله أركب سيارة مجهزة بكل ما تحتمله الصحراء، وأجوب أطرافها، متوغلا في براريها، تحت سحر الظلام الصحراوي، وأقماره الفاضحة لأسرار لياليها. ومنذ تفتح وعيي السياسي كنت أرى موريتانيا جزءا من المغرب، أو أن المغرب جزء من موريتانيا. وما كانت حركة أحمد الهيبة ماء العينين، ووصوله إلى مراكش إبان فترة الحماية ومقاومته الاستعمار الفرنسي والإسباني سوى دليل على عمق العلاقات التاريخية بين المغرب وموريتانيا. لا تتحقق أحلامنا «الطفولية» لأنها تكون متعالية على تفاعلات الزمن التاريخي.. لكن جزءا منها قد يتجسد بلا تخطيط ولا تدبير، وقعت جامعة محمد الخامس في الرباط شراكة مع جامعة نواكشوط العصرية لإعداد تجربة نظام «الإمد» (إجازة، ماستر، دكتوراه) وكنت ضمن الفريق، مكلفا بشعبة اللغة العربية وآدابها. وتكررت الزيارات منذ استحداث الإجازة، وظلت متواصلة إلى مناقشة الدفعة الأولى ونسبة من الثانية من سلك الدكتوراه. ولم تكن أغلب الأطاريح تدور في فلك الشعر، لكن في دائرة الرواية، والسرد الموريتاني القديم، وأنواعه ذات الخصوصية. تمحورت الجلسات على قضايا نظرية تتصل بالسرديات وموقعها، ضمن النظريات السردية، وعلى تحليلات تطبيقية لنصوص سردية قديمة وحديثة. وأتيح لي في إحدى تلك الزيارات، المبيت في وسط رمال الصحراء بين الجمال ونبات الحنظل صحبة المبدع والباحث محمد تتا، في انتظار مراقبة الفجر الذي لا يخفيه أي من مظاهر العصر. وجاء المؤتمر الدولي الأول حول «واقع السرديات ومستقبلها في التجربة العربية» تحت إدارة الباحث في السرديات محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم، خلال الأيام 23 ـ 25 مارس/آذار 2022، ليكون مؤرخا باسم «سرديات نواكشوط 2021» ومحافظا على تاريخ التفكير الذي أجلته الجائحة. عندما رأى أحد الباحثين المغاربة خبر إعلان المؤتمر الأول عن السرديات في نواكشوط، قال لي، إن هذا كان ينبغي أن يتم في الدار البيضاء منذ سنين. فأول مختبر للسرديات تأسس فيها، قبل أن تظهر فكرة المختبر والمركز في بنيات البحث الجامعي في الوطن العربي. كان جوابي الضمني: لا بأس من أن تكون البداية من أي قطر عربي، فالمهم هو إحداث تقاليد مشتركة، ومبنية على أساس الحوار، وتبادل الآراء بين المهتمين بالبحث في السرد العربي، ولا عبرة بمن سبق أو التحق. وخلال هذا المؤتمر تم تداول فكرة تحويله في كل دورة إلى قطر عربي. ومتى حسنت النيات، وتعددت المبادرات، كانت الاختيارات التي ترسخ التقاليد، وتدعو إلى التطوير الجماعي. فهل من مجيب؟ شارك في المؤتمر ثمانية عشر باحثا من موريتانيا، وعشرة من المغرب والجزائر وتونس ومصر والسعودية وقطر، وتعذر على باحثين آخرين المشاركة إما حضوريا أو عن بعد. وخلال الأيام الثلاثة كانت أوراق ونقاشات تعلن مجتمعة، بصورة أو بأخرى، بأننا أمام واقع يستدعي تضافر الجهود، وتعميق النقاش حول قضايا السرد العربي القديم والمعاصر، وأنواعه، وطرق تحليله. وكان الحضور الموريتاني لافتا للانتباه، سواء من تدخلات المناقشين، أو أوراق الباحثين. لقد أبانت كلها أن موريتانيا ليست فقط بلد الشعر والشعراء، لكنها أيضا بلد السرد، والباحثين في السرديات. وكانت مشاركة المرأة الموريتانية مثيرة للاهتمام، سواء من خلال القدرة على التركيز والارتجال، والتعبير العربي السليم الذي بتنا نفتقده في الكثير من الملتقيات واللقاءات. تمحورت الجلسات على قضايا نظرية تتصل بالسرديات وموقعها، ضمن النظريات السردية، وعلى تحليلات تطبيقية لنصوص سردية قديمة وحديثة. وقد عكس المؤتمر الهواجس التي تجمع بين الباحثين العرب، وتعبر بشكل واضح على أننا ما نزال نبحث لنا عن موقع في خريطة السرديات، والنظريات السردية العالمية. ولعل أول ما يثير الاهتمام هو التفاوت في التعامل مع السرديات في ضوء المنطلقات التي تتحدد منها اشتغالات الباحثين، واختلافهم البين نظريا وتطبيقيا. وهذ القضية لا تهم فقط هذا المؤتمر، بل إنها مشتركة بين كل المؤتمرات واللقاءات والمؤلفات التي تتم في مختلف الأقطار العربية. تعود مصادر هذه الاختلافات إلى التباين في الانتماء إلى ما يتطلبه العمل السردي من رؤية واضحة، من جهة، وإلى مواكبة ما يتحقق من إنجازات سردية على المستوى العالمي، من جهة ثانية، ومتى كان العمل لتجاوز هذين الاختلافين، أمكن الاشتغال بالسرد من منظورات مختلفة، لكنها مؤتلفة انتماء وإدراكا. سرديات نواكشوط امتداد لمسار، وبداية جديدة تنتظر بدايات أخرى. كاتب من المغرب