تعقيب على محاضرة الدكتور يحيى بن البراء حول موضوع قضاء الإمارة التي شارك بها في النشاطات العلمية للموسم الثقافي السنوي لرابطة الإصلاح والتنمية بالمذرذرة المنظم يوم 3 سبتمبر 2022م في حاضرة احسيْ المحصرْ .
أبدأ أولا بأن أشكر من صميم قلبي الشباب المنظم للموسم الثقافي السنوي لرابطة الإصلاح والتنمية.
وأثنِّي بطُرفةٍ تمهيدا للموضوع.. حدثني أخي الباحث أحمد بن حامدن أنه حضر مرة مجلسا ماتعا في المدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - بين والده الأديب المؤرخ المختار بن حامدن " اتَّاه " وبين السيد الأديب اعل بن سيدي يعرف رحمهما الله .. ومن بين ما قاله اعل للمختار بالحسانية وبطرافته المعهودة :" انتومَ ذ الّ تذكر عنُّ گط اخلگ بينَّ نحن وانتوم ما أنزل الله به من سلطان .. بيه الّ ذ الِّ خالگ بينّ امعاكم من اتعازّ ما إگد إعود بين مدّ گط عادْ بينهَ ش ..و إلعادُ فيه انّ بطولاتْ ما أخلدونَّ في اتهيدينْ ؤ لا في لغنَ العادي ، ؤ لا فينَ املّ گاعْ حد ذَ الغيْ متفگدْ فيه حد امْنْ أوايْلُ " !!
واعل هذا تغمده الله برحمته الواسعة هو الذي يخاطبه محمدن بن محمد باب بن امحمد بن أحمد يوره بقوله :
سلامٌ كاللقا بعد التواني
وكالثوب المطرَّز بالبنان
إلى أَعْلِ الهمام أخي المعالي
يسير مع الدقائق والثواني !
وعلى افتراض صحة ما يشكك فيه اعْلِ رحمه الله بأسلوبه الطريف ، أذكّر فقط أنّ عمرَ إمارة الترارزة من تاريخ إنشائها سنة 1630م على يد الأمير المؤسس : أحمد بن دمان حتى اليوم 2022م هو 392 سنة أي ما يقارب أربعةَ قرون ، وتعاقب على الحكم فيها أكثرُ من 20 أميرًا .. وظلت العلاقات فيها بين العرب والزوايا على أحسن ما تكون إلا في فترة محدودة جدا لم تغير من مجرى التاريخ شيئا ..وذلك بعد قيام حركة الإمام ناصر الدين التي يقرر الأستاذ الباحث الحسين بن محنض أنها " نشأت تحت ظل إمارة الترارزة و بمآزرة أمرائها وما كان لها أن تنجح في فتوحاتها المشهودة جنوب النهر إلا بمباركتها"..وإنجازاتها على ذلك الأساس هي جهد مشترك بين الحميع..
وأدخل في الموضوع فأقول : لقد عرفتْ منطقة الترارزة بصورة عامة منذ القدم كغيرها من بلاد شنقيطي قضاءً كيَّفَتْهُ مع واقعها الاجتماعي والسياسي. فقد ظلت جماعة الحلِّ والعقد في المجتمع تضطلع بذلك الدور بواسطة الفقيه المفتي الذي لم يكن يخلو منه حي من الأحياء ولا قبيلة من القبائل .
وانطلاقا من هذا، فقد عرفت شتى المناطق ثلاثة أنواع من القضاة هي: قضاة الجماعة، والقضاة المُحَكَّمُون، والقضاة المحليُّون.
فقد كان للإمارة أو القبيلة قاضيها العام الذي يطلق عليه قاضي الإمارة أو قاضي الجماعة وهو قاضي القضاة ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر:
⁃ القاضي المختار بن أچفغ موسى ( ابن خالة الإمام ناصر الدين) الذي وُلّيَ القضاء في عهد الأمير اعل شنظوره بن هدي ( تأمر من 1702م إلى 1727م)وفي عهده عادت المياه إلى مجراها الطبيعي بين الإماره و الزوايا إذ أن الأمير " منحهمْ السلطة الدينية وتكفل بحمايتهم، واتخذ المختار بن ألفغ موسى اليعقوبي قاضيا للإمارة وابنَ رازڭه العلوي مستشارا له"،.ولعل من أهمّ إنجازاته أن اقتطع الأرض لتحالف تشمشه.ففي بعض المراجع الموثقة - أوردها د. يحيى في موسوعته الفتاوى - أن الأمير اعل شنظوره قال للقاضي المختار بن أشفغ موسى : " الأرضُ أرضُكَ و أنت سيدها فاختر منها ما تحب أن تسكنه تشمشه".فقال له القاضي المختار : " نحن و أنتم نسكن جانب إكَيدي " .فقال له الأمير : " اختر لبني يعقوب منها " فقال القاضي : " اخترتُ الناحية الغربية ، و التي تليها لبني ديمان و الشرقية للألفغيين ".وللمزيد من التوضيح حول هذا التقسيم لكم - معشر الشباب- فقد قال العلامة محمد صالح بن عبد الوهاب في كتابه المشهور " الحسوة البيسانية في الأنساب الحسانية " في معرض كلامه عن الرجال المؤسسين لحلف تشمشه :" و عقِبُ اثنيْن من هؤلاء الرجال يسمى أولاد ديْمان ، و عقِبُ اثنيْن سمي إچاچفغه " و هو يعني بالأولينِ أولاد ديمان و اليداليين و يعني بالأخيريْن إچافغَ و إيدَگپَهَنِّي ومعلوم أن بني يعقوب تشمل إديقب وأهل باركللَّ.
وقد تطور حلفُ " تشمشه " كثيرا عبرَ الأحقاب والأجيال ، بعد الرجال الخمسة المؤسسين له حتى أصبح على ما هو عليه اليوم من توسع وشمول ..
- العلامة أحمدْ بن محمد العاقل ؛
⁃ العلامة محنض باب ولد اعبيد؛
⁃ العلامة سيد أحمدْ بن محَّمْ المتوفّى سنة 1294هـ / 1877 م وهو ابن خاچِّيل بن احميدي بن خاچِّلْ بن امرابط مكَّه وقد وَلِيَّ قضاء الإمارة في عهد الأمير أعمر بن المختار بن الشرغي (تأمر من 1800م إلى 1829م).
وهنا اسمحوا لي أن أفتح قوسا لأذكر بأن القاضي سيد أحمد بن محم هذا تعرّف في فترة قضائه في الإمارة على العالم الجليل الأمين بن محمذن يحيى النجمري ( آلويْمناتْ علَماً دفين الشليحية) صاحب التآليف المفيدة ومنها كتاب " عجالة الراكب " (حققه الأستاذ بوميه ولد ابيّاه ) فتعاقد معه مدرسا لأبنائه في منطقة فُمْ آوكار من أرض بوتلميتْ فصاروا كلهم قضاة و علماء أجلاء. واصطحب الأمين معه إلى هنالك ابنَ عمه العالم أحمد سالم بن القرشي النجمري (وهو ابن خالة محنض باب بن اعبيْدْ لأنّ امه هي ينصرك بنت المختار بن الطالب أجود شقيقة تانيت أم محنض بابَ). و اصطحب أحمد سالم معه ابن أخته جدَّنا محمذن باب بن المختار بن عبد الله بن المختار بن خالُنا..والمختار الجدُّ هذا هو أستاذُ و عمُّ العلامة الصالح محمد والد بن خالُنا المتوفَّى سنة 1212 هجرية.
قال لمرابط محمذن فال بن متالي مؤرخا لوفاته :
ووالدٌ الشافي الغليلَ بشرحه
يُبَشُّرُ بالراح الرحيق المسلسل
يشير إلى شرحه مختصر الشيخ خليل المسمّى " شفاءُ الغليل وراحة العليل في شرح مختصر الشيخ خليل" المشتهر عند أهل المحاظر باسم " معين والد".ووالد هذا أنجب ابنين انقطع عقبهما للأسف هما : امحمد فال بن والد وهو أبو امنيانه أم امحمد بن أحمد يوره و أحمذُ وهو أبو خديجة (هاكُ ) أم الشيخ أحمد بن الفاللِّ وشقيقته مريم . ومحمد والد بن خالُنا (وهو مريدُ الشيخ محمد اليدالي) يقرر الدارسون أنه أول من شرح خليلا في منطقة الجنوب الموريتاني قبل تلميذه العلامة محنض بابَ بن اعبيْدْ و أول من ألف في التاريخ والأنساب وله نظم في وفيات الأعيان أثنى فيه ثناءً حسناً على بعض الأمراء الذين أرخ لوفاتهم :
أولا: وصف هدّي بالرضى فقال:
وبعد عشرٍ بعد شرببَّ قضى
هدِّ ابنُ أحمدَ بنُ دامانَ الرِّضى
ولا غرو إن حلاّه بتلك الصفة الحميدة وهو الذي زكاه الامام ناصر الدين نفسه بقوله " إنه عرف الله بالدليل العقلي "!
ثانيا : وصف أعمر آگجيّل بالتقي ، العدل إلى غيرها من الأوصاف الحميدة فقال :
مات اعمرْ آگجيِّلْ بعام ديشقِ
برمضان موتُ ذلك التّقي
العدلِ ذي الجِدِّ المرابطِ السعيدْ
قُتِل مظلوما شهيدا وحميدْ
وهو هنا يتكامل في وصفه مع ابنِ رازگه
الذي يقول عنه في مرثية له بديعة :
فتى يهَبُ الآلافَ جوداً وتنكفي
مخافَتَهُ الآلافُ حين تحاربُهْ
تنَوَّعَ فيهِ الناسبون وكلُّهُمْ
إلى كلِّ جنسٍ كاملِ الوصف ناسِبُهْ!
ثالثا: وصف الأمير أحمد ديَّ بالسيد، السميدع، الجواد، الملك الهمام إلى غير ذلك من المحامد فقال:
وموتُ أحمد ديَّ عامَ زيشقِ
وفي ربيعٍ أولٍ فحققِ
السيّدِ السميدعِ الجوادِ
الملكِ الهمامِ ذي الأيادي
رابعا: وصف اعلِ شنظوره بالإمام المقسط،وغير ذلك من المحامد فقال :
موتُ اعلِ شنظورَ الامامِ المقسطِ
بيومِ عيدِ الفطر عام شقلطِ
الهازم الجيش بربط الجأشِ
الظاهر البأس شديد البطشِ
ليث الوغى الضيغمِ الغضنفرِ
غيثِ الورى الهِزبر ضيغمٍ جرِ
خامسا: ووصفَ الشرغي بن هدِّي بأنه كريمُ النفس وشديد البأس يوم الكريهة و غير ذلك من الأوصاف الحميدة فقال :
أما وفاةُ الشرغي عام الشرع
فبعد ذاك يا له من فرعِ
إثرَ ثلاثة من الأعوام
حين فرار الناس من برثامِ
أعني به الشرغي سليلَ هدِّي
الفارسَ المشهور يومَ الجِدِّ
ماضي العزيمة كريمَ النفس
يومَ الكريهة شديدُ البأس !
سادسا : ووصف أعمر بن اعل شنظوره بإمام المغرب من عرب وعجم وغير ذلك من القيم الحميدة فقال :
موتُ أمير المؤمنين عُمَرِ
سليلِ شنظورَ رئيسِ مغفر
ليلة سبت من جمادى الأخرى
ليلة سبت نال خيرَ الآخرى
بعام " عشقٍ" يا له من عام
فكم قضى فيه من الأعلام
إلى أن يقول :
للشيخ أعمرَ إمامِ المغرب
جميعه من عجَمٍ وعربِ
من لم يُغَيَّرْ مسلمٌ في عهده
وضاع كلُّ مسلمٍ من بعده
قاهرِ عرْبٍ وحريمِ الطلَبَهْ
من أجل ذاك نال أعلى المرتبهْ
وهو أمير الأُمرا بلا مرا
وهو كفيلُ الضعفا والفقرا
وللمساكين ولليتامى
وللأرامل وللأيامى
مأوى الزوايا كهفُ كلِّ مسلم
مُسقطُ كلِّ قاسط ومُجرم
وحاملُ اللواءِ حامي الكلّ
وحامل الورى جميل الكل
سابعا: و في معرض تأريخه لموت هدِّي بن السيِّدْ والسيّد وكانتْ وفاتهما متزامنةً مع وفاة أعمر ولد اعلِ شنظوره المذكور يفردهما بالمدح فيقول :
ومات هدِّي قبله ابن السيِّدِ
وبعده السيدُ نجل الأمجدِ
شيخان قل كلاهما ندبٌ سري
وطاهرُ القلب جميلُ المنظر
ثم يُجمل الثلاثة في المدح لتزامن وفاتهم فيقول :
بنحو عشرين من الليالي
ثلاثةٌماتوا على التوالي
ثلاثة كانوا حماةَ الدينِ
أولي التقى والبأسِ واليقين
كم كفلوا من صالح مرابط
وقاصد و قاسط وساقطِ
كم آمنٌ بهم من المَخوفِ
وكم أغاثوا الدهرَ من ملهوف
وكم أضافوا من بعيد وقريبْ
وكم وكم من أجنبيٍّ وغريبْ
برحمة الله عليهم أجمعين
ووالدِينا وجميعِ المسلمين
يا ربنا يا ربّ بارك في السلفْ
وارحم جميعَنا وبارك في الخلفْ
ثامنا :ولما وصل إلى الأمير المختار بن اعمر بن اعل شنظوره : الذي تأمر من 1757م إلى 1771م، وكان معاصرا له قال فيه قولا زاوج فيه بين الدعاء والمدح فقال :
بارك لنا في السيّد المختار
وفي ابنِ أخته إلى المختار
المُغشمِ الغشمشمِ المِقدام
وفي الفتوحات العلي المَقام
والمكرم الجوارِ والضيوفِ
والهازمِ المئينِ والألوفِ
وسيّدِ العربان في العموم
وسيّدِ السودان بل والروم!
ويختم والد الديماني ببيته المشهور وهو القاسم المشترك بين جميع من ذكرهم من الأمراء :
قد ورثوا النجدة من قريشِ
والجودَ والإقدام نحو الجيش !
ونعود إلى صميم الموضوع فنقول إن من أصناف القضاة كذلك القضاة المحكَّمون وهم من يحكِّمه الخصمان في النزاع وقد حدد الفقهاء مجال ولاية هذا القاضي بالقضايا المتعلقة بالأموال دون الحدود والقصاص فقضاؤه مجرد رأي في القضية.
فقد حكَّم الأمير أعمر بن المختار النابغة الغلاّوي في نزاع من يحق له الإشراف على ميناء بورتانديكْ (portandik) والتي قال فيها النابغة قوله المشهور:
واعلمْ بأن الأرضَ أرضُ تنْدَغَا
ومن أراد سبْقَهُم فقد بَغى
ومنه تحكيم الأمير بيَّادَه للقاضي الجليل الحافظ ولد سيد أحمد بن مَحَّمْ في نزاع قبلي معروف.
المناظرات الفقهية المتخصصة..
وفي مجال التحكيمِ تدخل المناظرات الفقهية المتخصصة الذي عادةً ما ينظمها الأمراء في المواضيع ذات الأهمية الخاصة.ذلك أنَّ من مظاهر وعيِ الأمراء الموريتانيين بمسؤولياتهم الدينية أنهم كانوا كلما برزت في المجتمع ظاهرة جديدة ذات طابع عقدي حساس واختلف العلماء حولها ، بادروا فعينوا لها قاضيا محكَّما وعقدوا حولها مناظرة فقهية يتم فيها حسم الموضوع بالسلب أو الإيجاب . وتحضرني من ذلك ستّ حالات ثلاثٌ منها وقعت في الترارزة في فترات زمنية مختلفة و الرابعة في الحوض الشرقي و الخامسة في الحوض الغربي والسادسة و الأخيرة في تگانت.
أولا : في إمارة الترارزة
أما الحالات التي وقعت في إمارة الترارزة فتتعلق كلها بالطرق الصوفية : الطريقة القادرية و الطريقة الصديقية ( لعلها خلوَتيةٌ) والطريقة التيجانية وذلك على النحو كالتالي:
أ- قضية الشيخ سعد بوه بن الشيخ محمد فاضل شيخ الطريقة القادرية الفاضلية ومعه أخوه المامون و ذلك في حياة الشيخ محمد فاضل المتوفَّى سنة 1286 هجرية وقد وقعت المناظرة في عهد الأمير سيدي ولد محمد لحبيب ( تأمر من 1860م إلى 1871م).وكان الأمير سيدي مشاركا في العلوم وذا فتوة مشهودة . ومن ذلك أنه حضر مرة مجلسا بين لمرابط محمد فال ببَّها و امحمد بن أحمد يورة وسمعهما يستبشران بأن من ضمن المقتنيات الجديدة لمكتبة أهل الشيخ سيديا أول نسخة تصل المنطقة من كتاب " المعيار " فترنم بداهة ببيت من نظم بو "اطليْحية " للنابغة الغلاوي:
واعتمدوا المعيار لكنْ فيهِ
أجوبةٌ ضعّفها بفيهِ!
والأمير سيدي هو كذلك الذي يقول فيه محمدُّ ولد حنبل الحسني :
ألفى الزوايا كالهشيم رمتْ به
بين القفار دَبُورُها وصَباها
فثنى عليها عاطفاتِ حنانِه
وأقام يرْأَبُ جاهدا مثآها
فأضاء ليلتها وجمَّعَ شملها
وأقرَّ بعد مخافةٍ أحشاها!
أما الشيخ سعد بوه فمعلوم أنه قدم إلى بلاد القبلة وهو شاب يافع وفي ذلك يقول لمرابط محمد فال ببّها :
مطلع الغرب لاح ويحك فيهِ
سعدُ خير مذ لاح سعدُ أبيه
سعد خير يُنمى إلى كل سعد
زاخر اليمّ أريحيٍّ نبيه
نال ما تال في صباه ولمّا
يعدُ عشرا مضت له من سنيه
قل لمن قال إن للشيخ ندا
أو شبيها في قطرنا : أرنيهِ !
ب- الطريقة الصديقية وشيخها الشيخ محمد عبد الحيْ بن محمذن بن الصبار المجلسي هو ابنُ بنت الشريف سيدي محمد الصعيدي مريد الشيخ عبد العليم الفيومي (شيخ الطريقة الخلوَتية والسادة المالكية في مصر ). وقد وقعت المناظرة في عهد الأمير أحمد سالم ولد ابراهيم السالم ( تأمر من 1905م إلى 1928م) .
ج- قضية الطريقة التيجانية في عهد الأمير أحمدْ للديدْ ولد سيدي ( تأمر من 1928م إلى 1944م) وكان المحكم فيها هو محمد عبد الله ولد احمذيَّ الحسني وبحضور الأمير نفسه . وكان الأمير مُمَدّحاً ومن ذلك قول أبوه بن أسياد من قصيدة بديعة:
هو الأمير عليُّ الشان عدل رضى
وما الإمارة إلا العدل والشان
تهابه العرب والعجمان قاطبة
كما تهاب البزاة الشهب غربان !
ثانيا - في ولاية الحوض الشرقي..
وفي ولاية الحوض الشرقي وفي منطقة تمبدغه بالذات حصلت مناظرة مشهورة حول ظاهرة الطريقة الشاذلية الغظفية في عهد الأمير محمد المختار ولد لمحيميدْ بين شيخ الغظف آنذاك: الشيخ عالي ولد آفه الدليمي و بعض العلماء الموفدين من قبل العلامة محمد يحيى الولاتي.وقد انتدب الأمير أخاه اعل ولد لمحيميدْ لحضور تلك المناظرة .
ثالثا - في ولاية الحوض الغربي
قضية الطائفة العبيدية والقاضي المحكم فيها هو صالح ولد عبد الوهاب ولعل ذلك في عهد عثمان ولد احبيب وكان معه ابراهيم ولد اعل امبگَّه ولد اسويْد.ومن العلماء الذين رفعوا ضدها الدعوى آنذاك محمد ولد الطالب مختار وأحمد الأَفْرَمْ الجكنيان.
هذا وإلى جانب التحكيم الذي كان يحصل بمبادرات من الأمراء وتحت إشرافهم، كانت هنالك مناظرات علمية جادة أخرى تنعقد من حين لآخر بين العلماء من تلقاء أنفسهم. ولعل من أشهر هذه المناظرات تلك التي حصلت بين العلامة افّاه بن الشيخ المهدي التنواجيوي وبين الشيخ سيد المختار بن عبد الجليل الحلّي التندغي حول موضوع التصوف بصورة عامة. وقد استمرت هذه المناظرة المشهورة عدة أيام . وسيد المختار بن عبد الجليل هذا هو من أبرز تلاميذ الشيخ محمد عبد الرحمان بن محمد السالم صاحب الطريقة القادرية المختارية المُشتهرةِ باسم "الشمعة" لسرعة انتشارها بين الناس وكان يقول بالمعية بالذات . ومن أبرز من عارضها آنذاك :
⁃ الشيخ سيديَّ بابَ؛
⁃ الشيخ سعد بوه ؛
⁃ الشيخ أحمد أبو المعالي ؛
⁃ عبد القادر بن محمد سالم ؛
⁃ أبو بكر بن فتى الشقروي .
رابعا - في ولاية تگانتْ
هنالك أيضا في تگانتْ طغتْ قضية القول بالمعية بالذات لدى الشيخ سيد المختار ولد عبد الجليل و جماعته هناك و ذلك في عهد الأمير عبد الرحمان ولد اسويد أحمد أمير تگانت فعقد لها مناظرة مشهورة .
القاضي محنض بن مينِّين ..
هذا ولستُ أدري في أي الفئات المذكورة آنفا يصنّف العلامة القاضي محنض بن مينّين إلا أن وليّ الله محمد العاقل الملقب آكل ولد الشيخ أحمدْ بن الفاللِّ لم يزلْ يجزم بأنه كان من أقدم قضاة الإمارة وأكثرهم حظوة لدى الأمراء المتعاقبين.وإلى تولّيه خطة القضاء أشار تلميذُه وصهره زيَّادْ ولد حامدتُ المتوفَّى سنة 1248 هجرية في مَرثية له مشهورة.
ومحنض هذا اسمه محمذن وهو ابنُ الأمين بن حوبك بن الفاللِّ (عمِّ) بن المختار أكد عثمان وهو عالم جليل درس على أحمدْ بن العاقل و محنض بابه بن اعبيد و غيرهما، و لـه مؤلفات جليلة منها شرحٌ على كبرى السنوسي و شرحٌ على نظم "محفوظات الجموع" لشيخه محنض بابَ ولد اعبيْدْ.أما الشرح الأول فأخبرني محمد فال بن عبد اللطيف أنه صادف مرةً جزءاً منه في مكتبتهم في انيفرار وفيهِ ورقةٌ كتب عليها أن الجزء الآخر أخذه العلامة محمد عال بن محنض عريةً، وأما الشرحُ الثاني فعلمتُ أنه الآن قيدَ التحقيق من قبل أحد الطلاب الجامعيين لعله في المعهد العالي للبحوث والدراسات الاسلامية.
قال أستاذنا محمد فال بن عبد اللطيف : وكان رحمه الله - يعني محنض بن مينّين - محترما عند أمراء أبناء أحمد بن دامان يؤدون إليه هدية سنوية وقفتُ على الوثيقة المتعلقة بها و نصها :
" ليعلم الواقف عليه أن جماعةَ أولاد أحمدْ بن دامان عموماً و خصوصاً: محمدْ لحبيب (تأمر من 1829م إلى 1860م) و اعل بن إبراهيم فال، و محمد بن احميدْهَ و محمد شين و أحمد ذوت و اعلِ روْبَ و غير و غير، التزموا لمحنض بن مينين عشرَ بيصاتٍ كلَّ سنة يتركها الوالد لولده إلى يومِ القيامة، خمسٌ منهنَّ على محمد لحبيب و خمسٌ على الجماعة و السلام.
كتبه: محمذن بن طالب .
ويبدو أن ذلك الإلتزام بتلك الهدية السنية، الذي عقده الأجدادُ باسم الجماعة العامة لأولاد أحمد بن دمان، على أنفسهم وعلى بنيهم من بعدهم للعلامة محنض ولد مينين وبنيه من بعده إلى يوم القيامة ، قد تجدد لاحقا في عهدِ الأمير الحفيد : أحمد سالم ولد اعل ولد محمد لحبيب أو أحمد سالم الثاني بيّاده علَماً (تأمر من 1893م إلى 1905م)، وذلك لصالح العلامة الحفيد أحمذُ بن زيّاد بن حامدتُ وهو ابنُ بنتِ محنض بن مينّين المسماة اعويشه لأن محنض لم يكن له من الذرية إلا البنات.
قال أستاذنا محمد فال بن عبد اللطيف :
"وَوجدت أيضا وثيقةً بخط سيدي محمد بن شيخِنا الشيخ أحمدُّ بن اسليْمانْ و نصها :
" ليعلم من سيقف عليه أني أيها المتسمَّى آخرا - إن شاء الله تعالى - أمرني أحمدْ سالم بن اعل بن محمد الحبيب و جماعتُه من بني أحمد بن دامان أن أكتب أنهم تحملوا لأحمذُ بن زياد ما تحمل أولُهُمْ لجده محنضْ بن مينين و هو عشرُ بيصاتٍ : خمسٌ منها على الجماعة، و خمسٌ منها على أحمدْ سالم كما أن الأول نصفه على الجماعة و نصفه على محمد لحبيب.
كتبه: عبيد ربه سيدي محمد بن شيخه أحمدُّ بن اسليمان .
وعلى ذكر الشيخ سيدي محمد هذا (وكنيته ابَّاه ديدي )وأمه هي اخديجه بنت أحمد بن المختار بن اعل شنظوره، ومن وحي أدب الإمارة الذي تحدث عنه الأخ سيدي محمد ولد متالي آنفا ، أذكر - والشيءُ بالشيء يُذكر - تلك القطعة الطريفة التي قالها محمذن بن أحمد بن محمد العاقل ترحيبا بشيخنا الشيخ أحمدُّ بن اسليمان ( وهو والد الكاتب) يرمز له فيها بموضوع اجتماعي معين:
ألا يا أخا الفتيان أهلا ومرحبا
وحيّاكَ من غُرّ التحايا مُدامُها
فلا غرو إن عزّتْ بك الأرضُ واستمتْ
جدودك هامُ الخمس همْ .. همْ سنامُها
فلا علمَ إلا ما لديكم ولا تُقًى
ولا رحمةٌ إلا وأنتم زمامها
عليك من القطب المربي لوائح
يدانيك من قطب السماء استلامها
كما نلتَ من سِربِ الشناظير ظبيةً
عزيزاً على شمّ الأنوف اغتنامُها
تعفّف بالأرطى لها وأرادها
رجال فبذّتْ نبلها وسهامُها
فهاذي بيوتٌ لا تفي بجَنابكم
لدى السير والإعياء يُنبيكَ آمُها !
وفي سياق متصل يقول ابن عبد اللطيف :وكان أحمذ بن زيّاد محبوبا عند العامة و الخاصة و قد وقفتُ على توصية بخط محمد فال بن محمذن ببَّها علماً يحضُّ فيها على العناية بشأنه و نصها :
"إنه السلامُ الأسنى و التحيةُ الحسنى إلى من لست أعدل به أحداً أعني شيخ المشائخ سيدي و أمير الأمراء أحمد سالم (لعل المعني هنا أحمدْ سالم بن ابراهيم السالم(تأمر من 1905م إلى 1928م) قال :
إن يغنيا عنيَ المستوطنا عَدَنٍ
فإنني لست يوما عنهما بغني
موجبه تجديد العهد بيني و بينكما، و أنْ تعلما أني لا أَحَبُّ إليَّ من رجوع سيِّدِنا و عالمنا أحمذُ بن زياد و هو راضٍ عنكما، فإن في تبجيله و إكرامه رضَى اللهِ تعالى، و ما عليكم إلاّ أن تجربوا ذلك و السلام.
كتبه : محمد فال بن محمذن بن أحمدْ بن محمدْ العاقل .
وأخشى أن أكون قد أطلتُ عليكم في ما لا طائل من ورائه لأنه من ما علم ضرورة من تاريخ أمراء الترارزة الذين قيل في حقهم في سياق أعم والخطاب موجه لأرض شنقيط:
واذكري من سَراتنا أمراءً
من بني معقل حماةَ العلاء
هم رواسٍ للأرض بالعدل مهما
حكموا الأرض آذنتْ باستواء
وعليهم فاثني بما شئتِ جهرًا
إنهم أهلُ كلّ ذاك الثناء
فلسان المقال والحال أثنى
ما كفاهم ثناءُ ذاك الثُّنائي !
وأختم فأقول إنه طوال هذه الفترة - التي تناهز الأربعةَ قرون كما ذكرتُ- استطاعت المجموعاتُ المكونةُ لهذه الإمارة كافةً أن تخلق تراثا مشتركا يشكل مصدر فخر واعتزاز لنا جميعا، وأدعو من هذا المنبر إلى أنْ نعمل معاً من أجل تثمينه والمحافظة عليه، و أنوه من كل قلبي بمبادرة تنظيم هذا النشاط الثقافي اليوم باعتبارها داخلة في صميم ذلك ..
وفقنا الله وإياكم لنا يحبه ويرضاه والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ..
احسيْ المحصرْ بتاريخ : 3 سبتمبر 2022 م
محمدن بن سيدي الملقب بدنَّ