قصيدة "حجر لقمان"

خميس, 01/26/2017 - 20:26

 

 أحمدُّ ولد عبد القادر

 

 

 

 

طرقت مدائن الشرق

والغرب..

ركبت صحون الرياح

أبحث عن حجر

ضاع آخر أيام لقمان .. لولؤة عصبت

بحرير السماء!

* * *

دخلت القلاع

ولم يبق قبوٌ ولا منفذٌ

في الطلول القديمة

إلا نثرت إليه الضياء

ولو قل..

تراميت بين ظلالي زمانا

ورصعت (تغريبتي)

وشبّابتي

بحروف عسى ولعل..

فما كنت إلا ذرة من

هباء

ترنح صوب النوافذ

باحثة

عن أي خيوط من النور

تسحبها

إلى الأفق الأرحب

* * *

تغربت..

حتى اقتحمت معابد التبت

والهند والهملايا

سكنت مخارمها

والصينَ

التقصت بجدرانها وأبراجها

زمنا..

وفي سفري تأملت جبهة بوذا

طويلا

وعينيه وجبّته لم أجدْ

شبها قاطعا بينها

وبين جبّة شخي في (محضرة)

الأهل..

* * *

سرنديب تعرفني

ذاهبا آئبا

من طريق الحرير القديمة

إلى حيث كانت

مقالع اللؤلؤ تحت المغارات

* * *

صنعاء يعربَ

أرواح مأربَ

تنسبني لها ولدا

هاجر أباؤه

إلى الواق واق!

وفي شار (نبّارة) فاس القديمة

سامرت الشيوخ المسنين

الرواة الثقاة

فلم ينبئوني عن الحجر

المختفي

وأذّنت فوق جميع المناراتْ

وقعت أمداد الآذان

على وتر (الرصد) و(الكانيكان)

مارست رقص الدراويش

بين الزوايا المهيبه

وعبر حميا الهيام الفناء

(نرفانة) الحب لا تنقضي

سألتهم عن الحجر الغائب؟

قالو:

إذا كنت تبغيه

فهو القريب إليك..

فمتْ أولا:

لتبصره.

ومتْ ثانيا:

لتمسكه.

ومتْ ثالثا لتحيا الصبابة..

* * *

وزرت نوادي المحبين

 في العدوة الثانية

وجدتهم يخدعون الموت

بالشرب

يضّاحكون بلا وازع

وأكوابهم مشعشعة

تقارع ما بينها

وقد فاض منها

نزيف من الحب

آسنه والمعين

فبعض الكؤوس

زلال.. وبعض الكؤوس ..

أجاج.. وبعض الكؤوس

مدام.

وفي بعضها صديد

يمازجه قذى وطحالب

على أنهم يملأون الكؤوس

من مغرف واحدٍ!

سكرت من الخوف.

هربت بعيدا إلى ظلي الآخر

ولكنني لم أخدع الموت

بالشرب

وأعجبه أنني لا أخادعه

وللموت:

صولته إذا جدْ.

وصولته إذا ما توقعته

قبل وعد اللقاءْ

وللموت وعي رياضي

فيحترم اللاعبين

 إثر هزيمتهم..

* * *

مشيت على مهلي

غزلت دخان المسافات جسرا

عبرت عليه جميع المحيطات

إلى أن وصلت صحاري الجليد

تعبد الله نائمة

بدأت أسأل نورس الثلج

فقال:

أأنت الذي ينشد الحجر

الأندر؟

لك البشر والظفر المستبان

قلت ظفرت؟

قال: انتظر!

هو الحجر الأندر لؤلؤة

من قطر الشمس

سقطت فجر صبح الحياة

في كف آدم، أو كف حواء؟

عد إلى أرضك الآن

وارصد شواطئها

سيلقاك نورس البحر

يعطيك لغز الحقيقة..

أنا نورس الثلج

لا أملك حق الإجابة

وعدت سبيلي،

أعد الشهور على خطواتي

دليلا

وأبتلع الزمن البارد

زادا..

إلى أن وصلت الشواطئ

والشمس

قابلني نورس البحر مبتهجا،

تطاوس حولي مليا،

وأحسست في عينيه

آلفة، كأني رآني من قبل!

قلت له:

إنني قادم..

فقال انتظر

كل الحقيقة أن النوارس

تمضي إلى الثلج صيفا

وتأوي إلى البحر شتاء

بعض الحقيقة

أني لقيتك في الثلج يوما

نثرنا قليلا من الكلم الأبيض

واليوم تملكني

نشوة الكلم الأزرق

كل الحقيقة أن الطيور تهاجر

* * *

ودّعني النورس

يبري جناحيه صعودا!

ليملأ في سربه ثغرة

ويبدأ رحلة الصيف

إلى الثلج

انحبست على الشاطئ

القزحي

وحيدا بلا صاحب،

طريدا ولا أعرف الذنب!

ذبّت أصابعي العشر،

عبأت كل الأظافر

وانغرست في تربة الشاطئ

تنهيها تشقلبها..

حفرت خنادق مثنى، ثلاثى،

جمعت التراب الجميل

المهيل على ركبتي

تذكرت ألعاب الطفولة

آبارها، جمالا من الطين

تسقى من البئر بين الأصابع،

عمقت بعض الخنادق،

ارتمى نظري إلى أسفل العمق.

* * *

سألت المحارات:

أين القواقع؟

سألت القواقع:

أين المحارات؟

هل بينها حجر نائم؟

وكيف أتى؟

هل له من رفيق؟

* * *

وهبت رياح (الكناري)

من الغرب عاصفة

على حفري بغتة

وانغمرت زبدا شاعثة

وأعشاب مرجان

مهشمة

قادمة من الجزر البعيدة

كنت ساكنها مرة

أذكر الآن رائحة طلع

نباتاتها

ونكهة أحجارها

* * *

وغنيت للموج يصفعني

وللريح تطردني

فكان الغناء طريفي:

يا هاجر البحر!

هذا أمامك الآن

بحر الرمال

فاعبره كما شئت

واحذر!

هذي المجابات

عنقاؤها مخصب

يلد العطش المزمن

في قلب عابرها..

مشيت على مهل ركبتي

وهرولت في منحدرات الوهاد..

لقيت السناجب تلهو وتمرح

جائعة

وأذنابها من ذهب

ويركبها الحلم الأكبر

أن تنبت أجسادها الريش

أجنحة تطير بها في السما،

لتحفر بين المجرات جحورا

لأحفادها،

لتمتهن الركل والبصق.

والبول فوق النجوم

المضيئة.

وبعض الثعالب

ترعى قطيع

السناجب،

تلعق آثار أقدامها،

تشاركها حلمها في السماء؟

أو تفوز منها بصيد هزيل؟

بحار الصحاري مجلجلة

في سكينتها:

البحر يبتلع البحر

والموج واحد!

والحوت يبتلع الحوت

والطبع واحد

وفي مفرش الجدب

لا تعبد الأرض

إلا مخالبها

ودم الآخر علق نفيس

إذا سال منه إليك

وصيد سمين إذا سال

منك إليه

* * *

مررت على جبل

صائم في العرا

تشامخ عن ثبج الرمل،

وصادفت زوجا

من الرخم الأبيض

يبني عشيشا لأفراخه

على شعب القمة

وترمقه من السفح

ثعالب غرثى،

تشمشم أعلى

وتحك أذيالها

بأنيابها طمعا

* * *

لأن غزال البراري

يرى حكمة الله

في أن لا يكون غزال الذئاب

لأن ذئاب البراري

ترى حكمة الله ناصعة

وجوهرها لا معا،

في عظام غزال البراري..

لأن أمومة الرخم الأبيض

أبوته

صادقة وحانية

رفعت بيضه والفراخ

إلى مسرح الصقر

والصقر أقرم

لئلا تكون طعاما

لأهل السفوح

تفاءلت شيئا

طربت قليلا

وأخرجت شبّابتي

وموسقت دمدمة الزمن الضائع

في سلم من الطرب

الأندلسي الشجي،

والمقام (الكنيدي) الفصيح

أفعمت شبّابتي

فبكت

وأسكتّها فبُحّــتْ من الصمت

أشعلتها في جبين الغروب

عاينت غول (الوفلي) يعدو

عدوت إليه

التحقت به،

ورافقته إلى رحلتيه

جنوبا شمالا

وفي نغمتيه

(بياضا)، (سوادا)

وكنا زويبعة من هبوب

الصحاري

نشاكس كل الدروب

ونغسلها بالهباء

وقد كنت أجري

خلفه مرة

وما كان أسرع مني

ولكنه ارتشف

النبع (الرجاطي) قبلي

ضاعت من القلب ألحانه

ولم يقبل النبعُ

أن يمنح السر

إلا لأول شارب؟

* * *

تسلّلت بين الكهوف

انفردت داخلها متعبا

توسدت ريش الخفافيش

والبوم

يعطِّره رشح أبوالها

لحظة، لحظة،

وأقنعت نفسي بالنوم

فما اقتنع النوم!

نهضت أجوب البراري

هائما..

وقفت على جبل (آنكادي)

منتصبا في ودي نعمان

غرفت تضاريسه

وبت به مساءين أرثي شبابي

في ظله

على صمت شبّابتي

واسأله عن نشيد الرجال

أبناء المبارك

أين صداه؟

وظل يغص بتحنانه

واقفا

ولا يتكلم

وسرت إلى النبع

في غيبة الغول

إلى أمه جنوبا،

شربت ثلاثا،

كما يفعل (الوفلي)

هبت على النبع أصداء

كهف بعيد:

سلام على الماء

يا راكب الموج انتبه!

واستقم من الآن

في طريق القوافل

وافتح معالق الرمل

إلى الحج

وانس هذا المساء

* * *

أيها الشعراء الكرام

رجعت إليكم في طريقي

إلى الحج..

هل تذهبون؟

هيا لننشد حظ لقمان

من فطر الشمس

هيا إلى الشرق

هيا نجرب نعنعة شاينا

الأخضر بسعتر لبنان.

ذاهب هذا الصباح

ولن أتريث..

سينطلق الركب من قلب

شنقيط

بينن (مغالق) الرمل

شرقا، وحي الميازب غربا،

الزاد تمر وملح..

كلاب (النمادي) تعرف

رائحتي

رغم محنتها

وتشردها في الفلا

سترشدني إلى البئر

المعطاة في الرمل بين القفار

مروري (بتندوف) عشرون

يوما وأجتازها.

دليلي معي. دليلي أنا..

دليلي ينطح مطلع الشمس

ويحمل مغربها

على كتفيه

(سجلماس) نجم الشمال

يساري

وادي (الكدامس)

يبدو بعيدا قريبا

أمام يميني

ولي وقفة لدى الجبل الأخضر

أسأله عن (المشعلين)

وعن (موسيليني) وجلوازه:

هل نهبوا الحجر الأندر

من الجبل الأخضر

تاجا لروما

أم دفنوه مع الشيخ

المجاهد وساروا

* * *

سأنزل القدس، والقدس تأشرتي،

براق النبي رمى تحت مخدتها

حجرا..

وفي القدس تبدو

جميع القباب حجارة..

وتبني المآذن في مرتع

الرعد والبرق حجارة

ويرتضع الطفل ثدي الحجارة..

* * *

سآتي دمشق،

وهي تراهن أن طوق القرون

أكمل الدرع على جسمها،

تراهن أن عناقيد جولاننا

من الماس الأكرم

وأن دواليه

من شجر العندم الأروع

ومن يردى دائما

تشرب الخيل

بعد كسب الرهان

* * *

سأنزل بغداد..

بغداد تبني بروج الرصافه

والكرخ أعلى فأعلى

وتضفي عباءتها

على نبضها والفراخ

فوق أعلى السطوح

لئلا تكون قديدا لأهل الحضيض.

وبغداد لم يقرأ الناس كل دفاترها.

ولم يدخل الأهل كل سراديبها..

(لكلكامس) وحده الحق..

أن يسير الجرح والكبرياء.

سأغسل روحي وأنشرها

على مشجب النهر

وأكوي تجاعيدها

بكل حجارة طوب

مسخنة في ماء دجلة

لعلي عساي.. أرى حجرا

عانق الحجر الأندر!

ولو قبل ألف سنين!

فإن لم أجده فإن حنيني

وترامى ظلالي ما بينها سيطول بي في الدروب!

أيها الشعراء، القصائد!

رجعت إليكم بعد طول الغياب

ألبس معطف السندباد

تحت ثيابي

وأرمي السنين على جنبات الطريق ورائي

ذكرى معالم للسفر القادم

وليس معي تحف تقتني

للكبار هديه،

ولا فرحة للصغار..

ولكنني عائد بأول درس حفظت،

وآخر درس فهمت:

تعلمت أني أنا

ولا يأس من رحمة الله

إلا لمن لا يرى ذاته.