في اليوم الدولي للقطط اتذكر قصتين تتعلقان بتلك الكائنات اللطيفة والمحبوبة (لدى البعض)
الأولي:
ونحن صغار في منزلنا بالمقاطعة الخامسة، كانت هناك قطة سيامية بفرو أبيض يقق يغطيها إلا من نقطة سوداء كالشامة بحجم حبة الفستق على جبهتها، كانت كفيلة بمنحها اسمها الذي ستنادى به لاحقا وهو: أم شوية.
كانت ام شويمة تتبع رسميا لصاحب الدكان التابع للمنزل حيث تزاول عملها الليلي في مطار دة الفئران والصراصير وغيرهما من خشاش الأرض، وفور بزوغ الشمس تغادر مقر عملها لتدخل منزلنا فتظل تتنقل بين الغرف، يداعبها الصغار ويحنو عليها الكبار.
شخصيا، كنت أتجنبها لأن لدي نوعا من فوبيا القطط ولم تزد محاولاتها للتقرب مني و التمسح بقدمي إلا نفورا، كان مواؤها يصيبني بقشعريرة تجتاحني من رأسي حتى أخمص
قدمي.
ولأن برامج تحديد النسل ووسائل تنظيم الإنجاب لم تكن شائعة حينها، ولأن القطة نفسها كانت مقتنعة -على غرار الكثير من إناث ذلك الزمن الجميل- بأن ثقل المواليد على الأرض ورزقهم على الله، فقد قررت بالاتفاق مع قط شيرازي نزق، تكوين أسرتهما الخاصة.
كان خطأ القطة أنها لم تستشر ولي أمرها صاحب الدكان حول نيتها في الارتباط والمساهمة في النمو الديمغرافي القططي.
بعد مدة ليست بالطويلة بدأت نتيجة إطالة السرى رفقة ذلك الشيرازي قليل الأدب تظهر، فانتفخت بطنها الضامرة وصارت تميل إلى الاستلقاء والنوم الطويل مما أثر على أدائها الوظيفي فأصبحت تنتظر قدوم الفأر إليها بدل مطاردته، وهو أمر لا يحصل إلا في مسلسل "توم وجيري".
قرر صاحب الدكان أن الاستعانة بخدمات قط ذكر صار ضروريا لوضع حد لفوضى الفئران التي قلبت وضع الدكان رأسا على عقب.
كان خطئي منذ البداية أن أن ربيت قطة أنثى بدل اقتناء قط ذكر "وليس الذكر كالأنثي" قالها صاحب الدكان في لحظة مصارحة بين "أبراد الثاني والثالث"مع صديقه بائع النعناع.
كان ذلك القرار يعني الاستغناء عن خدمات القطة بشكل تعسفي بدل منحها إجازة وضع.
علم صغار سكان المنزل بنية صاحب الدكان فتقدموا بالتماسات عديدة بهدف ثنيه عن ذلك القرار الذي كان جائرا في رأيهم، لكن الرجل لم يكن مستعدا لتحمل نفقات القطة وأبنائها القادمين دون إذنه وفي غياب تام للتنسيق معه بشأنهم، وهو ما أعطاه مبررا أخلاقيا يتكئ عليه في لحظات وخز الضمير التى قد تمر به، ويسمح له بتوفير علبة حليب Gloria التي كان سيتعين عليه توفيرها كنفقة للصغار وامهم طوال الشهر الأول من فترة الرضاعة.
بعد أيام من الأخذ والرد صدر القرار بطرد
القطة من الدكان، بل وتغريبها عن المقاطعة الخامسة بأكملها، ورغم طلبات الاسترحام التى تقدم بها أغلب صغار الأسرة إلا أن قرار "الوكاف" كان نهائيا وغير قابل للطعن.
صباح يوم التنفيذ أدخلت القطة في مخلاة محكمة الربط ثم وضعت في مؤخرة سيارة أجرة.
تحركت السيارة من نوع R-12 مولية وجهها شطر الشمال.
ورغم نفوري الفطري من القطط إلا أن شعورا غريبا راودني لحظة مغادرة سيارة الأجرة مخلفة وراءها غيمة من الدخان وحزنا في نفوس أخواتي الصغيرات على فراق القطة المسكينة.
على الحدود الفاصلة بين مقاطعتي لكصر وتيارت وبالقرب من مكب للنفايات، توقفت السيارة وفتحت المخلاة وأطلق سراح القطة التي ظلت متسمرة في مكانها تلتفت يمنة ويسرة كأنما تحاول استكشاف معالم منفاها الجديد.
حسب رواية "الوكاف" فقد اختفت السيارة والقطة ما تزال واقفة في مكانها.
حزن الصغار في المنزل أياما على فراق صديقتهم التي رحلت دون رجعة وحاول بعضهم تعويض غيابها من خلال بناء صداقة مع القط الجديد الذي لم يستطع مطلقا ملأ الفراغ الذي خلفه غياب أم شويمة.
بعد مرور مدة قدرها الواعون من أهل المنزل بحولين كاملين فوجئنا ذات يوم قبيل الظهر ونحن نتناول الغداء بتلك العيون العسلية المألوفة والفرو الأبيض والشامة السوداء، صاح الجميع قائلين : إنها أم اشويمة، نعم كانت هي بالفعل، لم تعد ناصعة البياض كما كانت مما يعني أنها استوطنت بعدنا الشوارع والأزقة، كانت مسحة حزن بينة تعلو محياها ولم تعد عيناها تحملان نفس البريق.
وقفت هناك وحدقت فينا فردا فردا كأنما تعاتبنا على المصير الذي آلت إليه، وبعد أن تأكدت من أننا تعرفنا عليها استدارت راجعة وهي تعدو، ولم تنجح نداءات الصغار عليها باسمها في جعلها ترجع أو تتوقف لتخرج من باب حائط المنزل وتختفي إلى الأبد.
تضاربت الأقوال حينها في تفسير تلك العودة المفاجئة والأختفاء السريع و الغامض الذي أعقبها، فمن قائل إنها عادت فقط تحمل رسالة عتاب لعدم وقوفنا في وجه قرار "الوكاف"، إلى زاعم أنها إنما اشتاقت إلى رؤية البنات لما عرفته من سابق أياديهن البيضاء عليها، وهناك رأي ثالث رجح أنها لم تكن أصلا قطة عادية وإنما هي من أهل بسم الله الرحمن الرحيم، مع ما يعنيه ذلك من أن "الوكاف" سيدفع ثمن فعلته الشنعاء لا محالة عاجلا أو آجلا.