كتبت هذا في مناسبة سابقة..
جلست يوما في المكتب المشترك بين المرحومين المختار ولد حامدن، ومحمد المصطفى ولد الندى..دخل علينا رجلان، وجلسا قريبا من المختار ولد حامدن، وطلبا رأيه في نصين شعريين..
بدأ أكبرهم سنا قراءة نصه، فجاء بكلمة (سُفُون)، يريد بها جمع سفينة، فاستوقفه المختار وقال له ما دام هذا شعرا فالجمع سفين أولى..
بدأ الثاني قراءة نصه، وكان المختار يصغي دون كلام، فلما أكمل الرجل القراءة قال له المختار: إن في الساحة اليوم شيئا يدعوه بعض الناس الشعر الحر، لكنني لا أعرفه، ولا أعرف قواعده وضوابطه..فودعاه وانصرفا..
أحيانا تعلو أصوات الآخذين على الأستاذ جمال ولد الحسن تعلقه بالشعر العمودي، وقراءة المطولات منه، فيقول: أنا رجل ماضوي...
لا أظن أن الشعر الحق يرتبط بزمان، ولا بشكل..للشعر ضوابطه، وقاموسه اللغوي الخاص..
أما أنا - مع ماضويتي- فأعتبر نظام السطر فتحا مبينا، أعني بنظام السطر النص المتقيد بتفعلة أحد البحور ذات التفعلة المكررة مع التزام قافية -قد تتنوع- تنبئك أنك في بلاد الشعراء..
التجديد في الشعر جزء من التجديد في الحياة، فنحن لا نتكلم كما كان آباؤنا يتكلمون، ولا نلبس كما كان آباؤنا يلبسون، ولا نأكل كما كان آباؤنا يأكلون، ولا نرحل كما كان آباؤنا يرحلون..
التجديد إضافة وليس إلغاء، وهو نبض الحياة، والشعلة المتوهجة التي تتدفق في شرايين الموجودات..
من الفروق الشكلية الدالة بين النص العمودي ونص التفعلة، الشكل الهندسي للقصيدة، فبينما تظل القصيدة العمودية على نظام المصراعين، وبشكل واحد منذ امرئ القيس إلى ما بعد اليوم، فإن لكل نص تفعلة شكله الهندسي الخاص، لا نجد نصين متشابهين في رسمهما البياني..لكننا نحتاج أحيانا إلى شيء من القسوة في نص التفعلة بفرض غرامة على تجاوزه الضوء الأحمر في نظام الشطرين، ففي السطر الشعري ينبغي أن تكون كل الكلمات شعرية، فلا مجال للحشو، ولا مجال للألفاظ الترقيعية التي يفرضها نظام الشطرين، ووحدة القافية على الشاعر فتقهره على سوق الكلمات المتنافرة، وإدراج كلمات فارغة من الوهج الشعري للوصول إلى كلمة الروي..فينقلب الشعر أحيانا إلى نظم متكلف، فارغ من قيم الجمال، ومن الفائدة..ويصبح الشاعر مالئ قوالب، ومطوِّعَ أجسام.
خلاصة الرأي أن الشعر العمودي في أزمنته المختلفة ليس جميلا كله، وليس قبيحا كله، وليس شعر التفعلة جيدا كله، وليس رديئا كله، وليس شعر الشاعر نفسه -أي شاعر -جميلا كله، ولا قبيحا كله، بل ليست أبيات القصيدة الواحدة، أو سطورها جميلة كلها، ولا قبيحة كلها..ومن هنا جاءت عبارة: بيت القصيد..
لا يمكن أن نحكم على الشعر حكما عاما كما نحكم على (كرتون لكلوريا) المصنوع من نفس المادة، ونفس القياس، ونفس الكميات، ونفس الألوان..
صحيح قد يستغلق النص القديم لصعوبة لغته، وغموض استعارته،
وتكرار صوره، واجترارها، وقد يُلجِئ إلى فتح القاموس..لكن بعض النصوص الحديثة الخالية من الإغراب، والتعقيد اللفظي تستغلق أيضا فلا تُفهم لتشتت الأفكار، وغياب خيط فكري ناظم، وانفلات المعنى من اللفظ الذي أريد به، لا تحيلك إلى شيء، ولا تقنعك أنها الشيء الذي تريد..مع تحررها التام من وزن يثبت هويتها الشعرية..تذكرني أحيانا بما أجابني به بعض الزملاء عندما ظهر ما يسمى مقاربة الكفايات، قال لي يا أخانا لا ترهق نفسك، نحن نحاضر في هذا الموضوع ولكننا لا نفهمه...
الشعر الحق لحظة جمالية أروع ما فيها أنها مباغتة، بلا تفسير...
كن شاعرا، واعبر إلينا كما تشاء، بحرا، أو برا، أو جوا.. وتبقى القذائف، والصواريخ التي تعبر إلى الدنيا من فوهات الخنادق المسقوفة بلغة سيدنا سلمان، أو الأنفاق بلغة الغزيين، تبقى أروع إبداع عرفته البشرية في عصور أشباح الرجال..