قد بدا لنا ـ في سابقٍ من إِلْمَاحاتنا ـ أن في أَمْرِنا من الاخْتِلالاتِ المُسْتفحِلِ أمْرُها، المُستَأْثِرة بشَتَّى مَناحِي حياتنا، والمُسْتحْكِمة في كُلِّ مَنَاشِطنا وفي مُخْتلِف فاعلياتنا، من أعراض الضعْف ونُذُر التحلُّل، ما يحمل على القطْع بأن هذا الأمْر إلى تهالُكٍ، في مُقوِّماته الأساسيَّة؛ ولَئِنْ كانت النظرة العجْلى، ممَّن لا يروق له مثْلُ هذا الُمنْتَهَى، غيْرَ مُسْلِمةٍ إلى هذا الذي أوْجَسْنا منه خِيفةً؛ فإن القَلَقَ هو التقاطُعُ الأَكْبَرُ في إدْراكنا، وهو مَحلُّ اتِّفاقٍ في مُحاولات التفْسير الجادِّ لواقعنا الراهن.
وقد تَبَدَّى لنا ـ في تَقَفِّي مَسارِب “الخُوَّيْصَّة” ـ أن الفَكَاك من الجماعة، حتَّى في السُّلوك والمواقف ذات الدوافع والغايات الأنانية، ليس مُتاحًا في المُنْجَز الفِعْليِّ؛ وقوَّةُ أَسْر المجموعة، وضرورةُ التكيُّف معها ـ ولوْ في حدود ضيِّقة ـ لتحقيق المآرب الذاتية، هي ما ينْشَأ عنه اضْطِرار الانْتِماء الهشِّ والوعْي الجماعي الزائف؛ فيتَشَكَّل السلوك مُؤَطَّرا بالمجاملة، واصْطِناع احترام مُثُل الجماعة وقِيَّمِها؛ ويبدأ التحايُل لإيجاد صِيَغ المُواءَمَة واقْتِضاءات التَّسْويغ والقَبُول في ظاهر الأمور.
ولَعلَّ من أُولى مُدرَكات هذا المَنْزَع، أن المُصالحة مع الجماعة ـ أَيِّ جمعاعة ـ تَتَطلَّب قُدْرة غَيْرَ مُتَأَتِّيةٍ إلَّا باسْتِطاعة إيجاد صيغة، يتكامل أو يتبادل فيها انْصِياع ومُغالبة القّيَّم السائدة، ضِمْن نَسَق ثقافي مُهيْمِن، بالإمكان أو بالتمكين له. وغيْرُ خافٍ، أنَّه في حالةٍ مِثْل حالتنا، يتحكم نسق شديد التملُّك والاسْتِئْثار بمُفْردات حياتنا، على أنَّه رُغْم صرامته، وأنَّه في مُكوِّناته المركزية لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تَبْقَى حوافُّه وهوامشُه مجالا لمفردات المُسْتجِدِّ للتطور، واقتضاء الزمان والتاريخ.
إن واقعا تسوده منظومة قِيميَّة من قبيل هذا، يَتَطلَّب في مُلاءمته براعة فائقة، ومهارة في الإبداع لصياغة الحِيَل وأساليب المُواربة والتدْليس التي تحتاجها ثقافة التحايُل؛ لإسباغ صِفَة القَبول على مُنْكَرات السلوك، واسْتِساغة المُسْتهْجَن الُمخالِف من المواقف؛ ومن نافلة البيان توْضِيحُ أنَّ قِوام تَشَكُّلنا الاجتماعي قد توافرت له أسباب الوجود، باخْتِزال طَوْرِ السذاجة في نُشوء الكيانات الاجتماعية؛ وذلك ما يُوفِّر مستوى من المناعة في وجه الإخلال بمُثُلِه ومواضعاته العامة.
ومن هنا يكون تَأَبِّي السِّياج الرَّمْزيّ، ومُمانعته في وجه الاخْتِراق ومحاولات النفاذ المُبْتَسَرَة؛ وتَنْتحي المُغالبة سبيلا آخر، بِتَنكُّب الصدام والمواجهة؛ ليُعمَد إلى المخاتلة والتقنُّع؛ وبالتَّنكُّر واطِّراح السلاح، سِوَى أنه ليس استسلاما بانْتِصار المُثُل؛ وإنَّما لأنَّه إذا عزَّ على المَرْء المَطْلبُ؛ بسَبَبٍ من القصور الذاتي، أو لعجْز سِرْبِه عن الحيلة، كان النفاق الأقلَّ في مُتطلبات البراعة، والأسهلَ في طَيِّ المسافة؛ فَغَدَا الأَكْثَرَ شُيوعا، واسْتَأْثر بالثَّبات؛ لِتَبْقَى مُقابِلاتُه صفاتٍ مُتَنَحِّيةً، أَثَرًا بَعِد عَيْن.
وأَمَلِي بسْطُ القوْل في تجليَّات ذلك، في اللاحق من هذه الأحاديث ـ إن شاء الله ـ الأسبوع القادم.