في الإعدادية- مرحلة "اتْبَهْلِيلْ" المعرفي- والتَّمَركُزِ على الذَّات ، نسعى عادة الى أن نكون على تقاطع مع صنوف الهوايات، و كُلمَّا تعلَّمنا جديدًا نحسب توهّمًا أننا امتلكنا ذرى العلم؛..
اكتشفتُ بُحور الشِّعْرِ ولعبة التَّقطيع التي أتقنتُها مع استاذتي الجادَّة جدًا "حورية بنت كَايه"..أقطِّع البيت في لمح البصر،.. اسْتسْهلتُ الأمر، وعقدتُ العزم - باندفاع مراهقةٍ - أن أرفع منسوب الطُّموح و الغرور وأتطاول على الحِبْرِ و الشِّعْرِ ، و أستولِدَ من ضِلْع القمر الأيسر قصائد تختزِن الشُّعور والشَّاعرية،.. و أُغدقُها في هيام على فارسٍ وهْمِيٍّ استحقَّ شرف بواكير عواطفي،..
أصبحتُ أرُصُّ التفاعيل أمامي وألصقُ على أوزانها و أخيط كلماتٍ أنثويةٍ رقيقة، في غير اتقان لُغويٍّ،.. لكن بخطٍٍّّ يُشبه نقوش المعابد،.. ثم أصرخ تيهًا وانبهارًا أنجزتُ "بيْتًا"،..
وككُلِّ شاعرٍ، احتجتُ إلى ناقدٍ يُقَيِّمُ طلائِع "انتاجي"،.. فرميتُ مراسيَّ على صَفِيّ روحي، محمد عبد الله آمنة،.. و ابن الأكرمين قبل أنْ يلتحق بالتعليم النظامي، هو خرِّيج علوم الفُتوَّة الكلاسيكية.. فهو شاعرٌ و امْغَنِّ و أشياء أخرى ،.. وفوق ذلك يمتلكُ مهارةَ حُسن الاستماع، كان يُقيِّمُ مُحاولاتي بداية بمجاملةٍ، وينصحني بالتَّدرُّب الجيِّد وتحسين السُّلالة الشِّعرية،..
وفي يوم صيفيٍّ مشمس وحار - لم يكن فألي فيه على نجم سعيدٍ - كان مزاج "ناقدِي المُدلَّل" غير رائقٍ، بعد أنْ أفْرغَ رصيده من الصَّبر في الصِّراع مع وسائل النقل، فأصيبَ بخللٍ مفاجئ في تطبيق المُجاملة،.. تقدَّمتُ منه أستبينُ رأيه في "أبياتٍ".. نظر فيها بغثيانٍ وقال: " هاذِ مَاِه أبْياتْ، هَاذُ ابَّيْتَاْت مُغَطْيِينْ بالسِّنكَ المِتْكَعَّرْ وبَنَّاْيْهُمْ أيْدُو حَرْشَهْ وعَوْجَهْ"! ، ثم أردف : والتمسُ لديكِ خِدمةً، سَأغفو، وإذا استيقظتُ أجِدُكِ – جزاكِ الله خيرًا – قد غيرتِ هوايتكِ إلى غير رجعة...
ابتلعتُ النصيحة بحُزنٍ كظيم، وأوْصدتُ الباب المؤدي الى حديقة ذلك الوهْمِ الجميل، .. وَأَدَ ابن آمنة "موهبتي"!، وأنزلي من حلمي قبل شاطئ الأمان.
سنوات طويلة بعد ذلك نظَّمَ قطاعٌ حكوميٌّ مسابقة للشِّعر النِّسائي بمناسبة الثامن من مارس، و كان من ضِمْنِ المُحكِّمين الشَّاعر الخَلوق الظَّريف محمد عبد الله ولد عُمَرُو ، كنتُ أتابعه يقرأ النص في همهمة و يضعه جانبًا، لا يُعلِّقُ ولا يُدوِّن،.. دفعني الفضول أن أسأله عن مغزى ذلك.. فأجابني بطرافةٍ: ما زلتُ أبحث بينها عن نصٍّ بلا عضلاتٍ و لا شارب،... نصّ غير مجدوب المشاعر.
لَمَعتْ في خاطري ذكريات توارتْ منذ بعيد، أعادت عليَّ عَرضَ نصِّي الشِّعري ذاك ،.. سرحْتُ أعِيشُ رفاهية اللحظة " كشاعرة "،.. أنافقُ خيالي الذي سَرَقَ مِنِّي حذري المُعتاد اتجاه التَّوَهُّم.. أطْريْتُ نفسي : رُبَّما كان النَّص الأنثوي الرقيق المُتحرِّر من إرْثِ الفُحولة، الذي يبحثُ عنه ولد عُمرُو،.. هو نصِّي الذي شنقَ ولد آمنة.. و شنق معه " موهبتي" قبل أن تبْلُغَ سِنَّ التَّعبير.
و بعد سنين.. وقد رَسَت أشياء كثيرة بِقاعِ النِّسيان.. وضَاقَت الذاكرة بركام الحكاياتِ والأحداث،... كَرَّ الزَّمان، وَ عثرتُ - في مُستقَرٍّ للأوراقِ المُهملة - على مُفكِّرةٍ من أيام المراهقة تحتضنُ رفاة أحلامٍ ماتت مخنوقة... و من ضمنها " قصيدتي- الموؤودة " ضَحكتُ كثيرًا، وحَمِدتُ لعزيزي ابن آمنة أنْ ثبَّتَ يومها "موهبتي الشعرية" في مدارها الصَّحيح بِحيِّزِ العَدمِ، منْ حيثُ أقْلعَتْ أصلاً،.. فقد كان كريمًا لأنه لمْ يصفعني انتقامًا للغة والشِّعر، و كانت "المرحومة" فتات مهزلة صبيانية بريئة،
... ومع ذلك!... سيبقى الشِّعر عندي أبدًا، من العوالِم الجمالية الآسرة.