الخشبة حياة المسرح في الخليج الثقافي الاثنين 19 مارس 2018
الخشبة حياة الشعر
محمد عبدالله البريكي
قبل سنوات وقف الشاعر يوسف عبدالعزيز على مسرح بيت الشعر في الشارقة ليقرأ مجموعة من النصوص، وكنت قلقاً على وصول الصوت إلى الجمهور، حيث سبقه شاعر لم يتمكن من بناء علاقة ود وصداقة مع الميكروفون، لكن يوسف استطاع أن يجعل من يديه وعينيه وميلان جسده وحركته النشطة على المسرح لساناً مفوّهاً أضاف جمالاً آخر على نصوصه، وقرب الصورة كثيراً إلى المتلقي، وهو يتحدث عن «ذئب الأربعين»، أو يلقي نصوصاً نثرية لا تشد في الغالب المتلقي، بينما استطاع بحضوره المسرحي أن يحرك صمت المقاعد لتتفاعل معه وتطرب، أسوق هذا المثال وأنا أؤمن أن الشعر حالة من الحركة، وأنه السيل الذي يرقص على الرمل ويتماوج وهو يجري كعازف يميل على كل الاتجاهات ليرش عطر جماله عليها، هو حالة هذيان تنفصل في زمن ما عن السكون لتعيش حالة من الجنون الذي يعشق الفكرة واللغة والصورة فيعيش معها ويبدي لها ما يحسه من مشاعر تماماً كما يفعل عاشق يجلس مع حبيبته ملتحفاً ضوء القمر يبث لها مواجده ويعبر لها بصدق عن إحساسه.
إن الموسيقى المنبعثة من الكلمة والصورة والخيال وإيقاع البحور الخليلية لا تكفي لجذب الذائقة وشد الانتباه وإيقاظ المشاعر، فالشاعر يحتاج إلى ملعقة خاصة يحرك بها سكر القصيدة ويذوبه في شاي شعوره ثم يقدمه ببهاء إلى المتذوقين، والشاعر على المسرح طائر يتنقل من غصن إلى آخر بخفة وحرفة نابعة من تجربة مسرحية مع الحياة، فهو ينقل تجارب مختزلة وسردا موضوعيا مكثفا أمام مُشاهد جاء من أجل المتعة والفن والجمال الذي ينسيه خلال زمن قصير رتابة الحياة وسكون الروح التي انشغلت عن ذاتها في خضم التعب وبحار الهموم، وأتت لترمي كل هذا الحمل خارج مسرح الشعر ممنية النفس بهزة تعيد لها التوازن النفسي، فتشعر بفرح عارم تتزود به من أجل أن تعيش حياة متجددة متطلعة إلى لقاءات شعرية قادمة يكون فيها الشاعر عازف أوركسترا الكلمات.
حضرت قبل سنين مهرجان المربد في العراق في فترة عانى فيها حصاراً أذهل المرضعة عن رضيعها، ووقف على مسرح الشعر كثير من الشعراء، لكنّ شاعراً ذكياً استطاع أن ينقل صورة الطفل العراقي ووجع شعب العراق من خلال أدائه وتنويعه حسب أصوات الجراح وأنات الثكالى وأنين المعابد والمساجد والمآتم ليجمع كل ذاك ويتنقل معبراً عنه كطائر ينقل ألحانه من غصن إلى آخر، والجمهور يقول له «أعد من فضلك» فبقي الشاعر عامر عاصي في الذاكرة طويلاً، على الرغم من غياب وسيلة التواصل معه، لكن تلك الدهشة التي صنعها ومسرحها جعلتني بعد زمن أبحث عنه لأنقل تلك التجربة إلى جمهور آخر عاشق للشعر وتربى على ألحانه في شارقة المسرح والشعر ليقف على مسرح قصر الثقافة بالشارقة ضمن فعاليات مهرجان الشارقة للشعر العربي ليبث شعره أمام شغف الجماهير، ففعل كما فعل بسحر الأداء وقوة الشعر والبناء.
إن الحالة الشعرية والشعورية إذا سكنت الشاعر جعلته على المسرح ضابطَ إيقاعِ فرقةِ القصيدةِ يحركُ آلاتِها وآلياتِها بدقة، فتتوزع موسيقاه حسب حالة النص النفسية لتسقي الذائقة بقدر، وتوصل عطاءها بخبرة، وتروي يباس الروح ولا تغرقه، وتشفي جراح النفس، فالحياة كلها مسرح كبير والناس مَشاهد، ومن دون المسرح لن تستطيع القصيدة أن تقف بفرح وافتخار لتعبر عن قضية أو تنقل حدثاً أو تهز عاطفة أو تسلب شعوراً أو تبث نشوة، فالشعر ليس حالة إيقاعية أو لغوية بحتة، بل هو تلك الحالة التي ينفصل فيها الشاعر عن السكون ليغوص في الجنون ويخرج منه أصداف الدهشة.