الصوفي...

جمعة, 03/23/2018 - 02:26

 

 البراء ولد محمدن

 

إنياركن والگلي وتنديجنان وباخ وانيلفه وتجبرن والمگفي وانبيكت اجمال والمنبع وابلگدور وتندكسمي الجنوبية، كل هذه الآبار وغيرها من آبارالبهناويين تقع شمال مقاطعة المذرذرة، كما أنها تقع في خط الوسط من إيگيدي ويقع الغربي منها على الحدود مع لَوْبّه. 
تذكرت أوطاني ديار الملازم ~~ ودار لنا بالغِلْفَ حول الغنائم 
ودارا بتندكسمِّ دار سرورنا ~~ وبالمنبع الميمون دار المكارم. 
بين هذه المرابع كانت تتنقل أحياء البهناويين المعروفة في المنطقة بالعلم والورع والصلاح، وفي أحد أيامها المباركة رزقت أسرة من أسرها الميمونة يوم الثلاثاء 18 من ذي القعدة 1371هـ (1950م) بطفل مبارك سمي محمد الصوفي ولد محمد الأمين ولد محمدُ ولد المنجي ولد حبيب الله ولد المختارُ ولد محمد فدّل ولد أحمد ولد هنض ولد يدمسّ (خامس الخمسة المشكلين لحلف تشمشة). 
جلس يدمس مع الشيخين ~~ وهكذا سعادة الدارين. 
لأمه العالمة العاملة مريم بنت محمد عبد الله ولد محمذن ولد أحمد ولد الصوفي؛ وهي بنت عم أبيه. 
حفظ القرآن وهو صغير السن على يدها، وكانت تكتب له في لوحه عندما يذهب مع رجال الحي إلى البئر، كما أنها لم تكن تدرسه بحضور أحد علماء حيهم، وهي العالمة الجلية. علها فضلت أن يكون أخذ ابنها للعلم من أفواه الرجال. 
أرسلته وهو صغير جدا إلى محظرة أهل ألما ودرس بها فترة طويلة كما درس في محاظر أهل المحبوبي وأهل العاقل. 
وصل انواكشوط سنة 1973م وقدم ملفين في نفس السنة؛ أحدهما لمسابقة دخول السنة الأولى إعدادية، والثاني لامتحان ختم الدروس الإعدادية، فنجح في الامتحانين متفوقا والتحق بالثانوية الوطنية فقضى بها ثلاث سنوات لينال شهادة باكلوريا الآداب الأصلية سنة 1976م. وفي نفس السنة تم استحداث إدارة الشؤون الإسلامية فالتحق الصوفي بها محررا إداريا، وفي نفس الفترة كان رئيس تحرير مجلة البرهان التي كانت تصدرها وزارة الشؤون الإسلامية، كما أنه كان يقدم برامج دينية في الإذاعة الوطنية. 
في سنة 1980م أنشئ المعهد العالي للدارسات والبحوث الإسلامية فالتحق به محمد الصوفي ليتخرج منه سنة 1984م، ونتيجة لتفوقه سمح له بالتسجيل في جامعات السعودية، وبعد تخرجه عين قاضيا فرفض ذلك وغير تخصصه ليبتعد عن مجال القضاء نهائيا. 
يقول هو في أحد كتبه: "وكنت ممن فر منه من غير العلماء حيث إن وزارة العدل والشؤون الإسلامية منحتني في قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية بجامعة الرياض ولما تخرجت عينت قاضيا ورفضت وغيرت التخصص فواصلت الدراسات العليا في قسم الإدارة المدرسية". وما ذلك إلا تواضع منه ونكران لذاته؛ فهو أهل للقضاء والتدريس. 
نال شهادة الماجستير في علوم التربية (الإدارة المدرسية والإشراف التربوي) من جامعة الملك سعود بالرياض سنة 1986م. ودرجة الدكتوراه في التربية العامة من جامعات السعودية. 
عين أستاذا للتعليم العالي بالمدرسة العليا لتكوين الأساتذة والمفتشين 1987م مكلفا بتدريس التربية العامة، كما شغل منصب رئيس قسم علوم التربية في المؤسسة ذاتها، وكان عضوا في عدة جمعيات: 
- رابطة حفاظ القرآن الكريم في موريتانيا 
- رابطة العلماء الموريتانيين 
- الاتحاد الوطني للائمة في موريتانيا. 
يعتبر الصوفي أحد الباحثين الكبار في موريتانيا، وقد ناهزت مؤلفاته الثلاثين، ونذكر منها 
- المسجد والوظائف التي بني من أجلها 
- من أعلام التاريخ (تراجم الأعلام التي حدد وفاتها العلامة محمد سالم ولد المحبوبي) 
- دراسة في التربية المقارنة 
- تاريخ القواعد الفقهية. 
هذا بالإضافة إلى بحوث أخرى في الدراسات الإسلامية والتربية العامة. 
نال الصوفي الكثير من الأوسمة في السعودية، كما تم تكريمه من طرف المدرسة الوطنية للأساتذة سنة 2000م. 
أحب محمد الصوفي مدينته (المذرذرة) وتواضع في نفسه فارتفع عند غيره وأحبه سكان مقاطعته. 
ويرى الصوفي أن اللين في القوة الرائعة أقوى من القوة نفسها، لأنه يظهر لك موضع الرحمة فيها، وأن التواضع في الجمال أحسن من الجمال، لأنه ينفي الغرور عنه، وأن كل شيء من القوة لا مكان فيه لشيء من الرحمة فهو ممّا وضع الله على الناس من قوانين الهلاك. 
كان حال الصوفي يشبه السنبلة كلما كبرت انحنت، مثل العالم المتعمق يتواضع وينحني لبسطاء الناس.
ويرى الصوفي أن من واجب من تربى في المذرذرة أن يعمل ليلاً ونهاراً ليرفع من مستواها ومستوى ساكنتها، ومن خلال ذلك سياسهم في رفع مستوى أمته كلها، كما أنه لا يحب المواطن الذي ينال شهاداته ويستلم منصبه ثم يجلس دون فعل شيء لمقاطعته التي قدمت له الغالي والنفيس. 
لسان حال الصوفي يقول: 
ومن لم تكنْ أوطانهُ مفخراً له ~~ فليس له في موطنِ المجدِ مفخرُ 
ومن لم يَبِن في قومهِ ناصحا لهم ~~ فما هو إِلّا خائنٌ يتسترُ 
ومن كانَ في أوطانهِ حاميا لها~~ فذكراهُ مسكٌ في الأنامِ وعنبرُ 
ومن لم يكن من دونِ أوطانهِ حِمًى~~ فذاك جبانٌ بل أَخَسُّ وأحقرُ. 
يبحث الصوفي دائما عما ينفع الناس ويمكث في أرض مدينته؛ لذا أنشأ بها محظرته النموذجية لولاية اترارزة، التي أبى إلا أن تكون بالمذرذرة رغم إصرار الإدارة على أن تكون بعاصمة الولاية، ونتيجة لتخصص الصوفي في التربية وعلم النفس وجد نفسه أمام مسؤولية جسيمة في زمن المتغيرات وانتشار الفتن وتنوع أشكالها وانتشار وسائلها، فكان لا بد من مضاعفة الانتباه للمسؤوليات عمومًا، والأقربون أولى بالمعروف. الشباب والفتيات هم أبناء وبنات، ولا شك فلذات أكباد، نجاحهم يفرح ذويهم وهدايتهم تسعدهم، وشقاؤهم أيضا يتعبهم وفشلهم يرهق ذويهم. 
نعم المسؤولية ثقيلة، وهمها كبير، وربما أخذتْ من صحته ووقته، لكنَّه أراد أن يزرع ليحصد وإن هو أهمل بارت حقوله وسوف يسأل عنها بغير شك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». 
درست بتلك المحظرة أجيال متعددة القرآن وعلومه، ولا تزال تُوَاصِل عطاءها العلمي الزاخر. ومن تواضعه - وهو القامة العلمية الشامخة- أنه لا يغيب عن التظاهرات العلمية التي تقام في المذرذرة من حين لآخر، فما من تظاهرة تستدعي الحضور المادي أو المعنوي إلا كان محمد الصوفي عنوان التضحية والوفاء في تلك التظاهرة. 
تقاعد محمد الصوفي سنة 2015م فتفرغ لرعاية محظرته والتدريس بها؟ من لقي الصوفي في المذرذرة سيقرأ بوضوح شعارا من شعاراته الجميلة ثق بأن الصوت الهادئ أقوى من الصراخ، وأن التهذيب يهزم الوقاحة، وأن التواضع يحطم الغرور. 
حفظ الله الدكتور الصوفي وأطال عمره.