كتبت أكثر من مرة على هذه الصفحة أنني أخاف القطط، وتحدثت عن تجارب سابقة ربما كانت السبب في ترسيخ الشعور بالرهاب تجاه تلك الحيوانات الصغيرة.
لكنني أعود إليكم معلنا "شفائي" من ذلك الرهاب وتأقلمي حد الشعور بالألفة مع تلك الكائنات الجميلة والأليفة، حيث استطاع الصغار في البيت علاجي -على ما يبدو – من خلال في ال تقنية في العلاج السلوكي تعرف تعرف لدى المحتصين في "بالعلاج بالتعرُّضْ Exposure therapy"
بدأت القصة حينما اتفق "العيال" على ضرورة اقتناء حيوان أليف لم يجربوه من قبل، وهو ما يعني استبعاد الأرنب الذي قتلته التخمة في تجربة سابقة، والعصفور الذي أطلقه "محمد" من قفصه ولم يعد بعدها، والسلحفاة المسكينة التي تسللت قبيل الفجر نحو الشارع لتدهسها شاحنة نقل النفايات، وأخيرا أسماك الزينة التي عاشت معنا شهورا تمرح في حوضها مستعرضة الوانها الزاهية لنكتشف ذات صباح نفوقها جميعا بعد أن أطعمها الصغير "سعد" وجبة معتبرة من الكسكس.
بعد مداولات مطولة، وتصويت نزيه، أسفرت نتيجة الاقتراع عن رغبة الأغلبية في اقتناء "قط"، ورغم أنني صوت ضد الفكرة، بل وحاولت شراء بعض الأصوات لدعم موقفي، إلا أن النتائج كانت حاسمة مما حتم الخضوع لرأي الجمهور تكريسا لمبادئ الديمقراطية، واحتراما لحقوق الأغلبية.
إعترفت بهزيمتي في التصويت وانطلقت صحبة العيال نحو محل الحيوانات الأليفة غير البعيد، لتجري هناك مفاوضات أخرى حول اختيار فصيلة القط من بين أكثر من عشر فصائل موجودة في المحل.
وقع الاختيار على قط ذي لون رمادي داكن، من فصيلة الشيرازي ذي الشعر الغزير، ورغم حجمه غير الصغير، إلا أن "شهادة ميلاده" تشير إلى أنه أضاف توا عشرة أيام على عدة المتوفى زوجها، وهو ما يعني حسب صاحب المحل أن علينا تطعيمه بعد عشرة أيام حيث يكون قد أكمل خمسة شهور.
انتقلنا إلى مرحلة اختيار الملحقات المتعلقة بالضيف الجديد والتي تتألف من:
- صندوق مخصص لنقله من مكان إلى آخر كما في حالة السفر مثلا
- صندوق آخر يفرش بالرمل ليلبي في الضيف نداء الطبيعة
- مكعب كبير على شكل شبكة يمثل منزله الخاص الذي يأوى إليه حال الرغبة في زيارة الصندوق الثاني أو حال الرغبة في الأكل أو الشرب
- صحن مزدوج يوضع فيه الطعام والشراب
- كيس الطعام الذي تبين أنه يحتوي حبيبات مكونة من الدجاج والنباتات المعالجة، والفيتامينات، والمعادن ...
- كيس الرمل ذي اللون اللؤلؤي والحبات الكبيرة التي تضمن عدم الالتصاق بفروة السيد المبجل.
- شامبو خاص ومعطر، يتناسبان مع فصيلة الضيق الكبير.
- علبة "باديكير و مانيكير" للعناية بشعر وأظافر السيد المحترم
- العاب بأشكال مختلفة للمحافظة على نفسية الضيف وإبقاء معنوباته بحالة مرتفعة.
- كُتيِّب يتضمن المعلومات الخاصة بالضيف من تاريخ المبلاد، الفصيلة، التطعيمات المأخوذة، مواعيد التطعيمات المستقبلية، بالإضافة إلى نصائح "هامة" حول النظام الغذائي والمتابعة الصحية وشرح مفصل لكيفية العناية بالبشرة والشعر وطرق الملاطفة والملاعبة بشكل لا يزعج صاحب السعادة.
أخذنا الولد المدلل الجديد وأغراضه إلى البيت، وتم اختيار المكان المناسب الذي سيقيم فيه حيث احتلت أشياؤه بعد ترتيبها مساحة كفيلة بإيواء شخصين بالغين
كنت، من اليوم الأول، أتفادى الإحتكاك ب" شارك" وهو الإسم الذي أطلق على الواقد الجديد، ربما بسبب لونه الذي يشبه لون القرش، كنت أتجاهل كل محاولاته للتقرب مني أو حتي التعرف علي، عكس بقية العيال الذين كانوا يتسابقون في التودد إليه وكسب ثقته، وربما تفاخر أحدهم بأن "شارك" دخل عليه غرفته طواعية بل ولعب معه.
الحقيقة أن الغيرة كانت تنتابني أحيانا من ذلك المخلوق الصغير الذي بات ينال من الاهتمام أكثر مما أنال أنا شخصيا.
اقتصرت علاقتنا خلال الأسبوع الأول على تبادل النظرات من بعيد، كان كثيرا ما أقعى بعيدا مني، متفهما شعوري، رامقا إياي بعينيه الذهبيتين، كنت أحس به كأنما يريد أن يقول لي: أنا لست عدوك، ولا أحمل أي حقد تجاهك، انظر، حتى أطفالك الصغار يحملونني مطمئنين إلى أنني لن أوذيهم. كانت نظراته أحيانا تحمل نوعا من الحدة الناتجة عن مزيج من الغضب و الاستغراب كأنما يقول لي: ألا تخجل من نفسك وأنت الرجل ذو القامة الفارعة حينما تخاف مني وأنا الكائن الضئيل الذي لا يرتفع قدر شبر عن الأرض.
وأنا أقرأ ما بعينيه من رسائل ترا ح بين الطمأنة والعتاب، تذكرت كلاما لصديقنا الهادئ "إبراهيم ابو مدين" ذات فزع من فأر ضخم من نوع Roof Rat اقتحم علينا الغرفة ونحن في منزلنا المتواضع بحي ابن خلدون بمدينة تونس، حينها تطاير مدعوا الشجاعة فرقا كأنما هجم عليهم قسورة جائع، كان صديقنا إبراهيم ليلتها قد سجل رقما قياسيا من قفزة يستحق عليها المشاركة في الأولمبياد، ليبرر فعلته بعد زوال الخطر بأنه لا يخاف من مواجهة الفأر إن كانت ستتم بشكل شريف ونزيه، بل إنه متأكد من قدرته على حسم المعركة معه من الجولة الأولى، ليستدرك قائلا: ولكنني لا أأمن غدر "المنسوخ" فقد يباغتني بقفزة غير مأمونة العواقب، فأنتم لم تروا ما تحمله عيناه الصغيرتان من مكر وخداع.
تذكرت أحداث تلك الليلة المشهود وأنا استرق النظر إلى عيني ذلك القط المتظاهر بالبراءة والمسالمة
وبعد أسبوع من التعايش الحذر، بدأ نوع من الألفة ينشأ بيني مع كومة الشعر الرمادي تلك، وبدأت أتقبل احتكاكه بقدمي حينما يمر بجانبي، ثم بدأت أترك باب الغرفة مفتوحا غير متخوف من دخوله المفاجئ، لأصل تدريجيا إلى تمرير يدي على شعره الطويل الناعم.
وبعد شهر من العلاج بالتعرض التدريجي، إنتهى بي المطاف إلى منازعة الصغار على احتضانه ومطالبتهم بحقي في اللعب معه ساعة من ليل أو نهار، لكنني لاحظت أنه يفضلهم على ويتملص مني كلما رأى أحدهم كأنما ليقول لي: عليك أن تتذوق طعم الإهمال و الجفاء الذي قابلتني به بداية انضمامي لعائلتك، ولا تطمع بأن أمنحك نفس القدر من الحب الذي أمنحه لأبنائك الذين اختاروني من بين غيري من القطط واحتضنوني بكل حفاوة ومن اليوم الأول.